تشارل اندرلين
عن الفجوة بين “صحافة” موجهة وأخرى حقيقية ومهنية، تعلمت طوال عشرات السنين التي عملت فيها مراسلاً خارجياً وكرئيس لهيئة بث أجنبية في إسرائيل. بدأ هذا بأحداث نفق “الحشمونئيم” في أيلول 1996، حينها اكتشفت أن في إسرائيل عالماً موازياً لواقع بديل. رغم موقف جهاز الأمن وبدون أي تنسيق مع الأوقاف، قرر رئيس الحكومة في حينه، بنيامين نتنياهو، فتح النفق الذي يربط بين حائط “المبكى” و”طريق الآلام”. في اليوم التالي، بدأ احتجاج فلسطيني، وأنا الذي كنت رئيس مكتب القناة الفرنسية “فرانس 2″، قمت بتصوير تحقيق عند الدخول إلى العاصمة، حيث رشق الشباب الفلسطينيون الحجارة على قوات الجيش الإسرائيلي المنتشرة في المنطقة. الجنود في البداية أطلقوا الرصاص المطاطي، وفي مرحلة أخرى بدأوا يستخدمون الرصاص الحي. رداً على ذلك، قام رجال شرطة فلسطينيون، كانوا بجانب المتظاهرين، بالرد على القوات الإسرائيلية.
في اليوم التالي، وصلتني مكالمة توبيخ من المتحدث بلسان الجيش، العميد عوديد بن عامي، قال فيها إن الفلسطينيين هم الذين بدأوا بإطلاق الرصاص الحي. أجبت بأن الأمور لم تكن هكذا، وأنني كنت في الميدان وشاهدت ما يحدث بأم عيني. في المعارك قتل إلى حين وقف إطلاق النار 17 جندياً من الجيش الإسرائيلي و100 فلسطيني. التغطية الصحافية في الميدان ليست هي التي رسخت الرواية الإسرائيلية، بل المتحدثة الرسمية، وبالنسبة لهم كان المسؤولون عن الأحداث الدموية هم الرئيس ياسر عرفات والفلسطينيون. بعد مرور أربع سنوات، في 30 أيلول 2000 قمت ببث تقرير، الذي تحول بعد ذلك إلى “قضية محمد الدرة”. صور ومشهد موت طفل بين ذراعي والده أمام موقع للجيش الإسرائيلي في غزة، صورها طلال أبو رحمة، وهو موظف موثوق ومخضرم في “فرانس 2”. عرفت المكان الذي حدث فيه إطلاق النار جيداً. وحسب شهادة طلال، أدركت أن الإطلاق القاتل لا يأتي إلا من الطرف الإسرائيلي. تلك الصور القاسية بثت في أرجاء العالم، وأدت إلى حرج كبير لقادة الجيش الإسرائيلي والدعاية الإسرائيلية.
بعد مرور شهر على الحادث، عرفنا أن قائد المنطقة الجنوبية “يوم طوف ساميا”، يحقق في الأحداث إلى جانب عالم الفيزياء ناحوم شاحف الذي فاز بجائزة وزارة العلوم، لكنه يعمل أحياناً كخبير لتعزيز نظريات المؤامرة. لم يكن لنا، نحن الذين قمنا بالتصوير والبث من الميدان، أي توجه. بناء على ذلك، أبلغنا الجيش ووزارة الدفاع بأن “فرانس 2” ستشارك فقط في تحقيق نزيه وبإشراف قضائي. يتبين بأثر رجعي أن ما قمنا به كان جيداً. فالنتيجة تم تحديدها مسبقاً. قال الجنرال ساميا لمراسل الشبكة الأمريكية “سي.بي.اس”، بوب سايمون، بأنه ينوي الإثبات بأن محمد الدرة لم يقتل بنار جنودنا. بعد بضعة أيام، عرض “نتائجه” وقال إن احتمالية قتل الطفل بنار فلسطينية هي احتمالية أعلى من احتمالية إطلاقها من الطرف الإسرائيلي.
مع مرور السنين، تغيرت الرواية في غير صالح ما صورته الكاميرا. عدد من الجهات بدأت في الادعاء وبتصميم أن الإطلاق كان من الطرف الفلسطيني، وبعض الروايات ذهبت أبعد من ذلك، فقد تم فبركة الصور من البداية. وفعلياً، افتروا علينا بأننا قمنا ببث أمور كاذبة. لا شيء بعيداً عن الواقع والحقيقة مثل هذا الاتهام الذي لا أساس له.
بعد مرور بضع سنوات، قامت جمعية “شورات هدين” بتقديم التماس للمحكمة العليا، وطلبت إلغاء شهادات المراسلين العاملين في “فرانس 2” في البلاد. في النقاش لدى رئيسة المحكمة العليا في حينه، دوريت بينش، والقضاة استر حيوت ويورام دنتسيغر، كررنا وأكدنا بأن التقرير تم تصويره وتحريره بعناية مع مراعاة جميع المعايير الصحافية المهنية. وأضفنا بأننا قمنا ببث جميع الردود ذات الصلة، بما في ذلك ردود الجيش الإسرائيلي، وأنه منذ الحادثة التزمنا رسمياً بالتعاون في تحقيق نزيه حول القضية، ووضع أمام هذا التحقيق، إذا جرى، كل المواد الموجودة لدينا. وقلنا أيضاً بأن المكانة القانونية للجنة الفحص برئاسة قائد المنطقة الجنوبية غير واضحة، حيث كانت نتاج مبادرة مدنيين لم يصدر لهم كتاب تعيين يوماً ما. ولكن تم رفض الالتماس ضدنا.
في 16 كانون الثاني 2009، في أواخر عملية “الرصاص المصبوب”، أطلقت في غزة قنبلة للجيش الإسرائيلي على منزل الدكتور أبو العيش، الخبير في التلقيح في مستشفى “تل هشومير”، بناته الثلاثة وابنة شقيقه قتلوا على الفور، وأصيبت فتاة رابعة من أبناء العائلة بإصابة بالغة. في الواقع، قريباً من موعد الحادثة، تحمل الجيش الإسرائيلي المسؤولية عن الحادثة، وبعد ذلك نشر المتحدث بلسان الجيش والجهات الأخرى روايات كثيرة، فيها ادعاء بأنه تم إطلاق نار من منزل الطبيب على الجيش الإسرائيلي أو أن صاروخاً لحماس هو الذي أصاب البيت. ادعاءات لا أساس لها وتثير الغضب. الدكتور رونين برغمان قدم تفسيراً آخر وكتب في “يديعوت” بأن شخصاً من القيادة ذكر قضية موت الطفل محمد الدرة في أيلول 2000، التي تحولت إلى رمز لسلوك إسرائيل الوحشي تجاه الفلسطينيين في الميدان. بعد بضع سنوات، ادعى تحقيق للتلفزيون الفرنسي بأن من أطلق النار على الدرة شخص فلسطيني. أكاذيب وادعاءات، كل ذلك لتأييد رواية تخدم إسرائيل. في النهاية، لم يكن هناك خيار أمام الجيش، واعترف بأن قواته هي التي أطلقت القنبلة التي أصابت بيت العائلة.
مرة أخرى، تم طرح قضية الدرة في العناوين عقب موت مراسلة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة. أنا لم أتفاجأ من رؤية الأخبار في القناة 12 في الأسبوع الماضي، نفس عوديد بن عامي، هذه المرة في وظيفة مقدم نشرة الأخبار، وهو يحلل النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني كنزاع وعي. بمساعدة من؟ نفس الفيزيائي والخبير في تعزيز نظريات المؤامرة ناحوم شاحف، الذي يعدّ الفلسطينيون بالنسبة له هم المذنبون دائماً. أيضاً هنا حاول شاحف الإثبات بأن النار التي أطلقت على أبو عاقلة كانت فلسطينية.
بصفتي صحافياً فرنسياً ومواطناً إسرائيلياً، كانت مهمتي تصوير وبث جانبي الصراع بصورة مخلصة للواقع وبصورة مهنية ومتوازنة. هكذا عملت دائماً دون استثناء، لكن لا يوجد ما نفعله. فالاحتلال يبدو سيئاً. ولا توجد أي دعاية يمكن أن تغير هذا الواقع.
ثمة نقاشات لا تقل سخافة حول دعاية وصورة دولة إسرائيل تم طرحها في الأستوديوهات ووسائل الإعلام الإسرائيلية بعد بث الصور الصادمة لشرطة إسرائيل وهي تهاجم المشاركين في تشييع جثمان أبو عاقلة. بعض المحللين قالوا إن الأمر يتعلق بعملية تخريب دعائية. صحيح أن هذا غير لطيف، ولكن هل هذا هو المهم؟ انقضاض رجال الشرطة على المشاركين في الجنازة ووجه بانعدام المشاعر في أوساط عدد من المراسلين والمحللين. عدم التعاطف مع زميل في مهنته، لا يهم أين يعمل وما الذي بثه، كان يصرخ حتى عنان السماء في برامج واقع كثيرة. مراسلة “الجزيرة” غطت العالم الموازي الذي لا يراه المشاهدون في إسرائيل: معاناة وثكل الفلسطينيين. في “بايو”، بلدة صغيرة في غرب فرنسا، نصب تذكاري فريد في نوعه في العالم يخلد مراسلين من أرجاء العالم قتلوا أثناء تأديتهم لعملهم. سينضم اسم شيرين أبو عاقلة إلى أكثر من ثلاثة آلاف اسم نقشت على الحجر. وقد كنت أعرف البعض منهم.
المصدر: هآرتس /القدس العربي