أحمد مظهر سعدو
في صباح من صباحات مظلمة في الفرع 227 نودي باسمي، فقمت لا ألوي على شيء، وقد ظننت أن الإفراج عني قد دنا، خاصة وأن الكثيرين من زملائي في المعتقل كانت النداءات الصباحية بأسمائهم تعني أحد أمرين إما الإفراج، وهو قليل، أو النقل إلى معتقل آخر، وأقبية في فروع أخرى، من الممكن أن يكون المرء مطلوبًا إليها. وتفاءلت أكثر عندما قيل لي (بالتساوق بعض الشتائم التي لا أعرف من أين جاؤوا بها، أو كيف تعلموها)، إلبس حذاء أي حذاء وانقلع.
انقلعت وعيوني تودع جيراني في المهجع الذي جمعنا، حيث أنه غير مسموح على الإطلاق احتضان أو مصافحة أي شخص أو وداعه، فمثل هذه الحركة لو فعلتها أو فعلها أي سجين يمكن أن تعرضه للرفس والضرب المبرح، والشتائم وغير ذلك. فما كان مني إلا وقمت آخذًا حذائي، وهو من كان وسادة نومي، متجهًا إلى الباب الداخلي، مودعًا (بالعيون فقط) أصدقائي الذين استمروا من بعدي.
معصوب العينين خرجت من فرع المنطقة مع هويتي الشخصية وبعض مقتنياتي الورقية التي كانت بحوزتي يوم أتوا بي مكبلاً إلى الفرع يوم اعتقالي. في السيارة التي أقلتني مع بعض الزملاء كان الضرب مستمرًا، والطلب منا أن نحني رؤوسنا إلى الأرض، حتى لانرى شيئًا، علمًا بأن الجميع كان معصوب العيون، لكنهم كانوا يفعلون ذلك لإحداث المزيد من الإذلال والعنف الذي أضحى سمة من سماتهم جميعًا.
لم يكن إفراجًا بل إحالة إلى المحكمة العسكرية بالقرب من الفرع، وهناك تم عرضي على القاضي العسكري، الذي قام بتحويلي دون أي سؤال إلى القصر العدلي في ريف دمشق، وحدث ذلك آخر النهار حيث أغلقت المحاكم أبوابها، فكان أن تم إيداعي مع الكثيرين سواي لدى فرع الشرطة العسكرية في القابون، حتى نقضي يومي العطلة الرسمية هناك وحتى صباح الأحد حيث ستكون المحكمة الموقرة قد فتحت أبوابها لاستقبال المحالين إليها.
بين جنبات المحكمة العسكرية كنت قد تعرفت إلى موظف في هذه المحكمة هو جار في دمشق لصديق وزميل لي بالعمل، فرجوته أن يبلغ الصديق إياه كي يبلغ بدوره أسرتي بأنني سأحول إلى القصر العدلي في ريف دمشق، كي أتمكن من رؤيتهم إن كان سيفرج عني أو أودعهم إن كنت سأحول إلى فرع آخر.
في القابون/ الشرطة العسكرية كان الاستقبال التاريخي وهو أسوأ مما كنا نتوقع، اللؤم والحقد بادٍ على محيا المساعدين والعناصر والإهانات والضرب غير مسبوقة، ثم تم الطلب إلينا أن نقف في صف طويل تحت الشمس، وكان يدخل كل واحد منا إلى المساعد الذي يستقبلنا استقبالاً (حارًا) لايمكن وصفه، ويعرينا تمامًا ويمسك بكل ورقة أو محتوى، أو مقتنيات كانت قد سلمت لي بعد خروجي من الفرع السابق، ويفعل ذلك مع كيل الشتائم، وكان يمزق أي ورقة أو وثيقة كانت في جيبي لحظة اعتقالي، خلا الهوية الشخصية التي بقيت معه لاثبات شخصيتي.
في مهجع يتسع لخمسة أشخاص بمقاييس البشر، وضعونا فيه ونحن مايقرب من 70 ، ليس هناك أي طعام أو كسرة من خبز حتى لوكان يعلوه العفن كي نقتاتها طيلة يومين، وكان بين الفينة والأخرى يدخل علينا بعض العناصر ويشبعوننا ضربًا وركلًا ثم يحشروننا جميعًا في ثلث الغرفة، لنكون فوق بعضنا بعضًا. كان معنا الكثير من المعتقلين المحالين وقد أتوا بهم من عدة فروع عسكرية، لتتم إحالتهم للمحكمة المدنية. في الليلة الأولى وكان معنا شقيقين لطيفين هادئين وقد جاؤوا من فرع فلسطين، وهما من أبناء مدينة حماة، كان أحدهما يعاني كثيرًا من شدة التعذيب ويتقيأ قيحًا وصديدًا، ويتألم بصمت، بينما أخاه إلى جانبه يرعاه بما استطاع من الرعاية، لكن يبدو أن الآلام كانت أكبر من أن يتحملها هذا المعذب، فما سمعنا في جوف الليل إلا وأخيه الثاني يجهش بالبكاء، أفقنا جميعًا على بكاء مر ممض، وحرقة ليس بعدها حرقة، فقد لفظ الأخ المريض بإصاباته أنفاسه الأخيرة في حضن أخيه وسلم الروح إلى بارئها، كانت ليلة حزينة ومؤلمة، أبكتنا جميعًا، وحاول رئيس المهجع أن يُعلم السجَّان بوفاة أحدنا، فوبَّخه وشتمه، وقال له اتركوه معكم حتى الصباح. وقد بقي في حجر أخيه يبكيه حتى الصباح، ونحن معه، بكاء حارًا، حيث نبكي جميعًا وطنًا أوصله نظام القهر الطائفي الاستبدادي إلى هذا الحال، فأصبح الشرفاء في سجونه يموتون قهرًا وتعذيبًا وعسفًا ومرضًا.
بعد يومين طويلين من الألم والقهر والمعاناة في سجن الشرطة العسكرية، تمت إحالتنا إلى القصر العدلي في ريف دمشق، وهناك تم عرضي على القاضي المدني، في طريقي إليه تمكنت من رؤية ابني البكر الذي كان يناديني بكلمات المحبة والتشجيع وبث القوة، وهو الذي علم ثم عرفت من صديق كان بانتظاري أنه عليَّ أن أتحمل وأن أتوقع كل شيء، فقد تناهت إلى مسامعهم أنه لن يطلق سراحي بل سوف يُعلمني القاضي بأن هناك فرع آخر قد طلبني، ومن ثم فإنه سوف يتم تسليمي إلى فرع الأمن السياسي/ الفيحاء بدلًا من إطلالق سراحي. وللحقيقة فإن هذا الخبر أصابني بخيبة أمل كبرى، وـأنا الذي توقعت إطلاق سراحي وخروجي إلى الحرية من جديد. عندما دخلت إلى مكتب القاضي أعلمته ماذا كان يفعل بنا أفراد الشرطة العسكرية ورجوته أن يتدخل كقاضي (إن استطاع) لمنع كل هذا العسف والتعذيب والقهر الذي يتعرض له المعتقل ليس في الفروع الأمنية فقط، بل كذلك وبشكل أكبر وأدهى في فرع القابون للشرطة العسكرية، فهز رأسه، وكان إنسانًا محترمًا، دون النطق بأية كلمة؟!. وأعلمني أنه سيطلق سراحي، لكن فرعًا آخر يطلبك، لذلك فإن القصر العدلي سوف يسلمك إليهم في الغد. وعلى إثر هذا الخبر، ومع كل حالتي الصحية الصعبة وافتقاري لأي غذاء، لم أستطع ليلتها أن أضع في فمي أي لقمة من الغذاءالذي أتت به زوجتي ورفيقة عمري إلى نظارة القصر العدلي، بل أخذت بعضًا منه كي أُطعم زملائي في مهجع النظارة، وأعدت معها الباقي، حيث لاشهية غذائية على الإطلاق، وأنا المحوَّل إلى معتقل جديد في الغد.
المصدر: إشراق