د- عبدالله تركماني
يتكون الشعب السوري من غالبية عربية ومكوّنات قومية أخرى (كرد، تركمان، سريان، شركس، أرمن..)، مما يستوجب الإقرار الدستوري بالوجود القومي والحق الثقافي لمختلف هذه المكوّنات. ولعلَّ هذا التنوّع من المشكلات التي ينبغي الاعتراف بوجودها، بغية البحث عن مخارج لها، بعد أن عمل النظام، طوال العقود الستة الماضية، على تجييرها لديمومة بقائه في السلطة وتوارثها، من خلال نزع صفة المواطنة عن السوريين وتحويلهم إلى رعايا.
كما أنّ السنوات الإحدى عشرة لثورة السوريين كانت كاشفة لتمزّق النسيج الوطني، مما يؤكد ضرورة الانتقال إلى بيئة قانونية جديدة تضمن الحقوق القومية لكل مكوّنات الشعب السوري، من خلال إعادة بناء الدولة السورية، استنادًا إلى الشرعية الدستورية والرضا المجتمعي. وذلك على قاعدة الديمقراطية وحقوق الإنسان، والاعتراف بالتعدد القومي والثقافي، والتفاعل فيما بين كل المكوّنات لما يخدم الحرية والتقدم والعيش المشترك.
توصيف لمشكلة المكوّنات القومية السورية
يبدو أنّ ثمة أزمة مكوّنات قومية، تهدد أسس العيش المشترك وفرص استمرار وحدة الأرض السورية، تختلف في حدتها بين مكوّنات وأخرى، ولكنّ الأمر يشير إلى أنّ تجاهل الهويات القومية الفرعية يعطّل إمكانية انبثاق هوية سورية جامعة. وفي هذا السياق، ليس جديداً القول: إنّ المسألة الكردية هي أحد الأبعاد الأكثر إشكالية في مسألة الهوية السورية الجامعة. ويعود ذلك إلى أنّ نظام حزب البعث قد روّج إلى أنّ الوجود الكردي في سورية طارئ، وأنّ معظم الكرد قدموا من تركيا واستقروا في شمال شرق سورية. وقد ترتبت على هذا التصوّر رؤية سياسية خاطئة مفادها أنّ الأكراد طارئون على النسيج الوطني السوري، وتجسد هذا التصوّر بحرمان عشرات آلاف الكرد من الجنسية السورية. وهكذا، ساد مفهوم “فوبيا الانفصال الكردي”، إذ بمجرد أن يطالب الكردي السوري بأدنى حق يُتهم بالانفصالية، ويُحكم عليه بأنه يسعى إلى تقسيم البلاد واقتطاع جزء منها. ولا شك أنّ الربط بين المسألة الكردية وممارسات حزب الاتحاد الديمقراطي لا يخدم الجهد الساعي لإعلاء شأن الوطنية السورية الجامعة، خاصة وأنّ مشروع PYD هو “إقليمي”، يعكس تفاهمات مع النظامين الإيراني والسوري، تهدف إلى المزيد من خلط الأوراق وتعقيد المسألة السورية.
إنّ المفاهيم هي نتاج الواقع الاجتماعي الذي يتسم بالتنوّع، والسؤال المطروح في الواقع السوري: هل يمكن الحديث عن حق تقرير المصير لمكوّنات الشعب السوري المنتشرة في عدة محافظات ولا يوجد ترابط جغرافي بين مناطق توزعها؟ خاصة إذا علمنا بتصادم مبدأين مرجعيين أساسيين في العقل السياسي الحديث، المستند إلى القانون الدولي (القرار 2625 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 1970) الذي يعطي الحق في تقرير المصير للشعوب وليس إلى مكوّن قومي في شعب ما، بما يضمن الوحدة الإقليمية للدولة ضمن حدودها المعترف بها. فلو أنّ كل المكوّنات القومية في الدول، استناداً إلى تاريخها وثقافتها الخاصين، تطالب بالانفصال عن الدولة، فإنّ هذا يعني تفتيت الدول القائمة.
تحديات وفرص التعدّد القومي السوري
إنّ تعدّد المكوّنات القومية في دولة ما ينطوي على احتمالين: أولهما، فرصة للغنى الثقافي، الذي يساهم في تقدم الدولة وازدهارها. وثانيهما، مصدر لتحديات التوتر والنزاعات، مما يجعل الدولة ضعيفة وقابلة للانفجار والتقسيم. وهنا تبرز طريقة السلطة الحاكمة في إدارة الدولة كعامل رئيسي في ترجيح أحد الاحتمالين، فإذا كانت سلطة منبثقة من رضا مجتمعي ومن انتخابات حرة ونزيهة، مستندة إلى الخيار الديمقراطي الذي يحمي مبدأ التنوّع ضمن إطار الوحدة، ويضمن المساواة أمام القانون والحريات العامة والفردية. في هذه الحالة يكون التنوّع والتعدد القومي فرصة لتوظيف إمكانيات كافة مكوّنات الدولة في سبيل التنمية والتقدم والازدهار.
إنّ الأمر يبقى مرتبطاً بممارسات النظام السياسي، إذ إنّ الإقصاء والتمييز السياسي والاجتماعي بين المواطنين، على أساس التعبئة القومية، يمهدان الطريق أمام الصراعات الداخلية. وعلى العكس من ذلك، فإنّ السلوك الإيجابي لنظام الحكم تجاه مواطنيه كافة، يمكن أن يتحول إلى ميزة إثراء وتقدم للدولة والشعب بكل مكوّناته.
مرتكزات الحقوق القومية للمكوّنات السورية
تقوم الحقوق القومية للمكوّنات السورية على المبادئ الأساسية التي أقرها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان “الاعتراف بالكرامة الإنسانية المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية، وبحقوقهم المتساوية والثابتة”، وضمانة هذه الحقوق تكمن في قيام دولة الحق والقانون. واستناداً إلى هذه الحقوق فإنّ سورية في المرحلة الانتقالية ستعترف بتنوّع مكوّناتها القومية، وستضمن حقوقهم في المرحلة الدائمة وفق الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، وستحترم حقوقهم في تقرير مصيرهم الثقافي، مستندة إلى المرتكزات التالية:
- إنّ الرابطة الوطنية السورية، التي أنتجتها تجربة تاريخية مشتركة يزيد عمرها عن قرن من الزمن، وعززها الكفاح من أجل الاستقلال الوطني، والعمل المشترك من أجل بناء الدولة الوطنية الحديثة، والنضال المشترك ضد النظام الاستبدادي التسلطي، تسمح برؤية السوريين شعباً واحداً، محافظاً على وحدة الأرض السورية، بضمانة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات، بما يعزز إعادة البناء ونبذ الاقتتال الداخلي، وتأمين لحمة السوريين على اختلاف أعراقهم وانتماءاتهم في بوتقة الوطن الموحد.
- سورية دولة متنوّعة قومياً، جميع مواطنيها متساوون في الحقوق والواجبات دون أي تمييز، بما فيها الحقوق المدنية والسياسية، مع الاعتراف للأقليات القومية بحق الاختلاف في مجال القيم الثقافية، مع اعتبار أنّ توحيد المرجعية القانونية شرط لازم لتوحيد المجتمع، واكتساب منجزات الحداثة السياسية وتمثّلها على صعيد المجتمع.
- تعدُّ اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وتتمتع جميع المكوّنات القومية، غير العربية، بحقوق استخدام لغاتها في الكتابة والنشر وإصدار آدابهم، واستخدامها في التعليم، في المناطق التي يشكلون فيها أكثرية عددية، كلغة ثانية إلى جانب اللغة الرسمية، مع حقها في إنشاء مؤسسات خاصة بها لتأمين كل فعالياتها الثقافية.
- يجدر بالدولة السورية العصرية القادمة عدم تسخير السلطة لصالح هوية قومية معينة على حساب باقي الهويات، كما عليها أن تتخذ التدابير اللازمة، في برامج التعليم، من أجل معرفة الأجيال الجديدة بتاريخ مكوّنات مجتمعها المتنوعة.
- في ظل صراع الهويات القائم اليوم، وكذلك المقتلة السورية التي عصفت بسورية، أصبح السوريون في حاجة ماسّة إلى عقد اجتماعي جديد، ينقلهم إلى الحالة الوطنية الجامعة. وهذا يستدعي انخراط جميع المكوّنات في عملية صياغة هذا العقد، كي يجري الحديث عن الدولة السورية الواحدة، أرضاً وشعباً.
- اعتماد مبدأ التشاركية في السلطات الاتحادية، حيث يتم تمثيل جميع المكوّنات فيها، بما يتناسب مع تعدادها السكاني، استناداً إلى مبدأ الكفاءة وليس مجرد المحاصصة. ومن المؤكد أنّ تمثيل المكوّنات القومية في البرلمان وكل الهيئات الانتقالية تجسيد لهذه التشاركية، لضمان مساهمة جميع مكوّنات الشعب السوري في الانتقال من الاستبداد إلى الدولة السورية الديمقراطية.
- إطلاق سيرورة الاندماج الوطني، أي وحدة التعدّد والاختلاف، بما يأخذ المجتمع السوري بعيداً عن التشظّي والانقسام، وبما يساعد على إعادة بناء دولة المواطنين السوريين المتساوين في الحقوق والواجبات.
- لعلَّ مشروع اللامركزية الإدارية الموسعة، على أساس جغرافي وليس قومياً، سيكون مساهماً في بناء مستقبل سورية، في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيساهم في الازدهار الاقتصادي والتنمية المتوازنة بين المناطق، إضافة إلى مساهمته في تماسك سورية كوحدة جغرافية تقطع الطريق على الانقسام والتشتت.
وهكذا، فإنّ مشروع هذه الأسس يجب أن يحظى برضى أغلبية السوريين، ومعترف به من قبل القوى الإقليمية والدولية ذات التأثير على المسألة السورية. ومثل هذا المشروع سيساهم في وقف النزيف السوري، وبناء مستقبل سورية الغد في إطار التعددية والديمقراطية، كما سيساهم في الازدهار الاقتصادي لسورية، وضمان تماسكها كوحدة جغرافية تقطع الطريق أمام التقسيم والتشتت، وسينطوي المشروع التوافقي على ضمان الحقوق القومية المشروعة لكل المكوّنات القومية للشعب السوري.
ملاحظة: هذا الرأي للدكتور عبد الله تركماني، وليس نشره هنا يعني بالضرورة التوافق معه فيما ذهب إليه.