لم تعد “العيشة تطاق” بالنسبة للشاب السوري “منذر” المقيم في ريف محافظة حلب شمال سوريا، ورغم أنه “يركض في الليل والنهار” بحسب تعبيره متجها للعمل بقطاع البناء تارة والأراضي الزراعية تارة أخرى، إلا أنه بالكاد يؤمن مصروفه اليومي (20 ليرة تركية)، لسد احتياجات عائلته من خبز وماء وبعض مواد الغذاء الأساسية.
والشاب هو من مهجري ريف حمص الشمالي الذين وصلوا إلى المنطقة بعد عام 2018، بموجب اتفاقيات “التسوية”، كغيره من آلاف الشبان الآخرين سواء من المنطقة ذاتها، أو باقي المناطق السورية التي شهدت ذات الاتفاق.
ويقول لموقع “الحرة” إن الحالة التي يعيشها “ليست حكرا عليه”، بل يعيشها الكثير من الأشخاص والعائلات في منطقة ريف حلب، التي تضم مساحات واسعة، من عفرين في أقصى الشمال الغربي للبلاد، وصولا إلى جرابلس شرقا. وهي الخاضعة لإدارة الجانب التركي، منذ عام 2016.
ويضيف: “نعيش في حالة مزمنة من البطالة وقلة العمل والمعيشة السيئة. الشارع يغلي ونغلي معه ولا ضوء في نهاية النفق المظلم”.
خلال الأشهر الماضية كان لافتا دخول هذه المناطق في “جو جديد”، فرضته احتجاجات شعبية، شارك بها المئات.
وهذه الاحتجاجات سرعان ما تصاعدت حدتها شيئا فشيئا، فيما تنوعت الأسباب المحركة لها ما بين تجاوزات الفصائل العسكرية، و”غلاء الأسعار” وتدهور المستوى المعيشي، إلى جانب ممارسات “فساد واحتكار”، بحسب ما يوضح نشطاء من المنطقة لموقع “الحرة”.
وأسفرت الاحتجاجات الأخيرة، الأسبوع الماضي، عن حرق وتخريب مقار شركات الكهرباء التركية الخاصة في منطقة عفرين، ومناطق أخرى بينها مارع، في “درجة غليان” لم يسبق وأن تمت ترجمتها على أرض الواقع في السابق.
وجاء ذلك عقب أيام من احتجاجات مماثلة خرج بها مواطنون في مدينة الباب أمام مقر “الشرطة العسكرية” التابعة لفصائل “الجيش الوطني”، ردا على عملية إطلاق سراح مقاتل سابق في قوات النظام السوري، “لقاء مبلغ مالي بقيمة 1500 دولار”.
“الكهرباء تسحب الصاعق”
ويدير الريف الشمالي لحلب، بدءا من عفرين ووصولا إلى مدينتي جرابلس والباب مجالس محلية، والتي ترتبط بدورها إداريا بالولايات التركية ككلس وهاتاي وغازي عنتاب.
ومنذ سنوات يواجه المسؤولون على إدارة هذه المجالس انتقادات تتعلق بآليات الإدارة التي يسيرون من خلالها، إضافة إلى تفاصيل العقود التي دخلت بموجبها لشركات الكهرباء بالدخول للاستثمار في المنطقة.
وكانت هذه الشركات قد رفعت أسعار الكهرباء بصورة متفرقة، منذ أكثر من عام، الأمر الذي قابله غضب شعبي، دون التوصل إلى حل توافقي بشأن شريحة الأسعار، وعما إذا كانت ستبقى على حالها في الأيام المقبلة أم لا.
ويعيش في مناطق ريف حلب أكثر من 4 ملايين مدني، بينهم مهجرين من ريف حمص والغوطة الشرقية ودرعا ومناطق أخرى من البلاد.
وهذه المناطق كانت قد ارتبطت منذ سنوات مع الجانب التركي، من زاوية الأسعار والمواد، وحتى العملة المتداولة في الأسواق وباقي المصالح التجارية والصناعية، وغيرها.
ومع كل انخفاض في قيمة الليرة التركية سرعان ما ينعكس ذلك على أسواق الريف الشمالي لحلب، وبالتالي على معيشة السكان هناك، والمقسمين بين عدة فئات، أكبرها الفئة الضعيفة.
ويتحدث الصحفي السوري، ماجد عبد النور أن “الحراك الذي تعيشه المنطقة سببه بالدرجة الأولى وربما الثانية والثالثة المعيشة من دون شك”.
ويقول عبد النور لموقع “الحرة”: “المحرك الأساسي هو غلاء الأسعار والاحتكار والفقر وبشكل عام الوضع المعيشي، مضيفا أن “الأهالي في عفرين يتظاهرون منذ شهرين، لكن شركة الكهرباء لم ترد عليهم، الأمر الذي تطور إلى حرق مقارها”.
وهناك عوامل محرضة أخرى للشارع، بحسب الصحفي السوري، وتتلخص أن “معظم العائلات فقدت أبنائها وأقاربها”.
ويتابع موضحا: “عندما ينظر هؤلاء إلى القيادات العسكرية والترف الذي يعيشون فيه والثروة الهائلة يزيد احتقانهم”.
وهذا “الترف” لطالما يتداوله مستخدمون وناشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بين الفترة والأخرى، وكان سببا في “خلق قضية رأي عام واحتقان شديد”.
بدوره يرى معتز الناصر، وهو مدوّن وناشط إعلامي، أن “المحرك الأساسي لما يحصل هو القهر المتراكم عند السكان، منذ خمس سنوات وحتى الآن”.
ويقول لموقع “الحرة”: “القهر توّج بحالة من الغضب والمرارة، بعد استنفادهم كل الطرق الرسمية وغير الرسمية في التواصل مع السلطات، بغاية الإصلاح وتحسين وضع المنطقة”.
ومع “استمرار سلطات الأمر الواقع بتهميش الناس، والنظر لمطالبهم الملحّة بعين اللامبالاة، فذلك ما جعل مشكلة الكهرباء صاعقا لتفجير الوضع في الشمال السوري المحرر”، بحسب تعبير الناصر.
ويتابع: “الموضوع عند عموم الناس في الشمال السوري ليس فقط سوء أحوال معيشية، بل هو انتقاض لعرى ثورة دفعوا لها كل غال وثمين”.
“المواطنون تعبوا”
ومنذ يونيو 2020 من بدء التعامل بالليرة التركية في مناطق ريف حلب الشمالي لم تستقر أسعار المواد الأساسية، ولاسيما المحروقات والكهرباء وغيرها من القطاعات، التي باتت بورصة تتأثر تعاملاتها بالليرة التركية.
وتراجعت قيمة الليرة التركية مؤخرا إلى مستويات قياسية، وكسرت الأربعاء حاجز الـ17 مجددا أمام الدولار الأميركي الواحد.
“المواطنون هنا تعبوا من الفقر والاحتكار وصعوبة العيش”.
واعتبر الناشط المدني الناصر أن “سلطات الأمر الواقع التي تعاني قصورا في الفهم والمعالجة للمشاكل، وانعداما للشرعية الشعبية، لا تجد بيدها إلا إنكار الواقع، ورمي المسؤولية لاتهام أطراف مجهولة، ولصناعة أعداء وهميين”.
ويضيف: “الحقيقة أن من خرجوا يجمعهم ألم واحد متراكم طوال سنوات، ومن دفعهم للتظاهر أو التخريب (رغم عدم قبول الشارع العام لذلك) هو سياسة مراكمة الفشل والازدراء للمطالب الشعبية المحقة”.
وزاد: “إلى الآن لا توجد عند هذه السلطات أي حلول، ولا حتى رؤيا عامة للحل، لأنها هي نفسها سبب المشكلة”.
من جهته يتوقع الصحفي السوري، ماجد عبد النور أن “تستمر الانتفاضات في الشمال السوري”.
ويقول: “إذا لم تتصد سلطات الأمر الواقع لهذه الاحتجاجات ولم تقابلها بالعنف فأتوقع أن تتمكن من امتصاص الغضب. كما حصل مؤخرا في عفرين”.
وعقب الأحداث الأخيرة في عفرين برزت لجنة لـ”رد الحقوق والمظالم” على الخط، وهي مكونة من شيوخ وقادة فصائل، في محاولة لـ”إعادة الحقوق قدر الإمكان”.
ويوضح عبد النور: “هذه اللجنة هي التي تتفاوض مع شركة الكهرباء والشارع، وبذلك أصبحت وسيطا بين الشارع والمؤسسات”.
“المشكلة بإدارة الملف”
في غضون ذلك يؤكد وزير الاقتصاد والمالية في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري أن هناك “حالة من البطالة المرتفعة وغياب الاستثمارات” في ريف حلب، وهو الأمر الذي يلقى بظلاله على الشارع.
ويقول المصري لموقع “الحرة”: “نتيجة البطالة تنخفض الأجور. الشمال السوري جزء من العالم ومعظم المواد فيه يتم استيرادها”، مشيرا: “نرى تضخما عالميا وارتفاعا في أسعار النفط والغذاء أيضا على خلفية العدوان الروسي على أوكرانيا”.
وإلى جانب ما سبق فإن “تغيّر سعر صرف الليرة ينعكس على الأسعار في ريف حلب”، مضيفا أن “الحكومة المؤقتة تحاول ضمن إمكانياتها أن تدعم المواد الأساسية التي يحتاجها المواطنون”.
ويشير المصري إلى مشروع يتم العمل عليه لتوليد شبكة الكهرباء من الطاقة الشمسية، وأنه قد “يرى النور خلال النصف الأول من العام القادم. هذا سيحل جزء كبير من المشكلة. الكهرباء سيتم بيعها بشكل منخفض ومدعوم”.
لكن الناشط معتز الناصر يرى أن المشكلة الأساسية تكمن في “طريقة إدارة الملف من الجانب التركي، ومعاملة المنطقة كأنها منطقة عسكرية”، بحسب تعبيره.
واعتبر أن “المجالس المحلية غير شرعية، وتشكلت بناء على محاصصات فصائلية وعائلية وعشائرية على الأرض. كل ذلك صنع هذا الواقع السيء الذي يشتكي منه السكان، والذين عجزوا حتى اليوم عن إيجاد جهة مسؤولية واعية يتوجون لها لحل المشاكل”.
المصدر: الحرة. نت