محمود الوهب
اعتاد السوريون على تصريحات مسؤوليهم وضيوف إعلام النظام الذين يحاولون تحسين وجه النظام السوري، فقد غدت مجالاً للتندر والسخرية إذ تفضح نفسها بغباء مطلقيها وسذاجتهم وتؤكد عجز النظام عن إيجاد حلول لما هو غارق فيه من مصائب جلبها للشعب وما يزال بوجوده، واستمراره يضاعفها أكثر فأكثر.. ففي الشتاء الماضي استضافت إذاعة دمشق “فادي أصفهاني” لاعب كمال الأجسام لينصح السوريين الذين يشكون نقصاً في الوقود والكهرباء باستخدام الماء البارد للاستحمام في عزِّ الشتاء فذلك أنشط.. لكن التصريحات الأكثر سخرية هي التي تأتي من المسؤولين الكبار في الحزب والدولة، ومنها ما أدلى به مؤخراً الرفيق هلال هلال عن سورية بوجود حزب البعث وعن أسطورة اقتصادها الموازية لأسطورة جيشها فقال:
إن سورية كانت، قبل قدوم حزب البعث إلى السلطة دولة هامشية تتربص بها الانقلاباتُ العسكرية، ولم يكن أحد ليسمع بها لولاه..
بالمناسبة كانت ثَمة أهزوجة يرددها البعثيون في خمسينيات القرن الماضي أيَّام عز الديمقراطية والأحزاب السياسية، تقول الأهزوجة: “يا سورية مين ضواكِ غير البعث الاشتراكي.. كان بلورك مصدِّي، إجا البعث جلاك..” والحقيقة معه كل الحق فهو يستقي أخباره ومعلوماته كلها من الإعلام السوري أو من النشرات الحزبية الداخلية التي لا تنطق إلا بحسب هوى القائد الأبدي..
ولأن حزب البعث لم يوجد إلا بعد عام 1947 وأن الرفيق هلال لم يكن قد وُلد بعدُ ولم ينقل إليه من ذلك التاريخ غير الانقلابات رغم أن نصفها كانت انقلابات الرفاق البعثيين على شركائهم ثم على رفاق حزبهم ونضالهم، بدءاً من انقلابهم على النظام الوطني الديمقراطي في خمسينيات القرن الماضي وتسليم سورية إلى الزعيم جمال عبد الناصر أملاً في مشاركته حكم الوحدة ولمَّا لم يتحقق لهم ذلك على نحو ما يرغبون عادوا فانقلبوا على عبد الناصر ذاته مطالبين إياه بوحدة مشروطة.. وقد عدَّ البعث انقلاباته ثورات وهي على التوالي: انقلاب 8 آذار 1963 ليتلوه 23 شباط 1966 وليختمها حافظ الأسد في 16 تشرين الثاني عام 1970 ثمَّ ليورِّث بشار الحكم عام 2000 وليستمر الحكم عائلياً وأبدياً تحت اسم حزب البعث، وليستمر أكثر من خمسين سنة وهو حتى الآن أطول حكم في تاريخ سورية الحديث.. ولا شكَّ في أن تلك الانقلابات جميعها لم تجلب لسورية غير الكوارث التي نشهدها الآن، ولا بُدَّ من الإشارة إلى انقلاب حسني الزعيم الذي أودع ميشيل عفلق زعيم حزب البعث ورأسه المدبر السجن، ولم يحتمله، على غير القادة السياسيين فكتب رسالة الخنوع لزعيم الانقلاب رسالة مخزية فيها ما يلي:
“سيدي دولة الزعيم: إنني قانعٌ كل القناعة بأن هذا العهد الذي ترعونه وتنشئونه يمثل أعظم الآمال وإمكانات التقدم لبلادنا، فإذا شئتم فسنكون في عداد الجنود البنّائين، وإذا رغبتم في أن نلزم الحياد والصمت فنحن مستعدون لذلك. ويتابع: سيدي دولة الزعيم: أنتم اليوم بمكان الأب لأبناء البلاد، ولا يمكن أن تحملوا حقداً لأبنائكم، ولقد كان لنا في التجربة تنبيه كافٍ ومفيد. اتركوا لنا المجال لكي نصحح خطأنا، ونقدم لكم البراهين، على وفائنا وولائنا” وبعد انقلاب 23 شباط 1966 حكم البعث على زعيمه ميشيل عفلق بالإعدام..
أمَّا أن سورية لم يُسمَع بها فهذا منافٍ للحقيقة والتاريخ بل إنه يتجاوز أزهى مرحلة من مراحل الحكم التي مرَّت على سورية وقد عُرفت لدى المؤرخين السياسيين وكل مَن اهتم بتاريخ سورية الحديث على أنها “المرحلة الذهبية” في تاريخ سورية سياسة واقتصاداً ونمواً سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإعلامياً! حتى إن حزب البعث نفسه قد نما في تلك المرحلة، ولم يكن له في النضال الوطني اسم يذكر، وعلى العكس فقد قطع ذلك النمو الصاعد الذي وضع أُسُس تلك التنمية الحديثة، فكانت مضرب المثل في النمو الاقتصادي بشقيه الزراعي والصناعي، وأطلق على سورية الزراعية لقب كاليفورنيا الشرق الأوسط تيمناً بتلك الأمريكية الأشهر في العالم آنذاك، وإن الجميع عاش تلك المرحلة ويعرفها تماماً. ولم يكتفِ الرفيق هلال بذلك بل أضاف:
“إن سورية انتقلت بعد البعث بعُجالة إلى دولة محورية ليس فقط على مستوى المنطقة والإقليم بل أصبحت رقماً صعباً على مستوى العالم”. نعم هي كما يصفها ولكن ليس بعد مجيء البعث بل قبله إذ كان العالم يتصارع فعلاً على سورية، وقد كتب باتريك سيل كتاباً في خمسينيات القرن الماضي تحت عنوان “الصراع على سورية..” أشاد فيها بمواقف السياسيين السوريين الوطنية ومنهم أكرم الحوراني وخالد العظم وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي وفارس الخوري ومصطفى السباعي وخالد بكداش ودورهم الفكري والسياسي في الإرث السياسي الوطني لسورية.. أما اليوم وبعد خمسين سنة من حكم البعث ففي سورية خمسة جيوش ومئات الميليشيات.. والبلاد كلُّها على كفِّ عفريت..
ويُمعِن النظام في تفتيتها وبيع ممتلكات الدولة والسوريين للأجنبي الذي يحمي كرسيَّ حاكمه..
أما الوضع الاقتصادي الذي يصفه الرفيق هلال
على النحو التالي: و”كما أن جيشنا الباسل غَدَا أسطورة في مجابهة الإرهاب فإن اقتصادنا أسطورة أيضاً يُذهل العالم في صموده..”
ودعونا ننظر إلى أسطورة الجيش لكن في هزائمه المستمرة منذ حرب حزيران 1967 إلى حرب تشرين 1973 إلى احتلاله لبنان، ومساهمته في تصفية الحركة الوطنية هناك، واغتياله قادتها، وترحيل منظمة التحرير الفلسطينية، وتجاهُل العدوان الإسرائيلي الدائم على بلاده وآخِرها إخراج مطار دمشق الدولي عن الخدمة! والجيش الأسطورة مشغول بزراعة المخدرات وتجارتها..
أما أسطورة الاقتصاد فتتجلى في أنَّ سورية تَتَمَوْضَع اليوم على آخِر سُلَّم الفقر، وأن الكثير من السوريين لولا مساعدات بعض السوريين المهجرين غير “المتجانسين”، ولولا سِلال الأمم المتحدة الغذائية لماتوا جوعاً! فقد أصدرت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة، وبرنامج الأغذية العالمي تحذيراً من أزمات غذائية متعددة تلوح في الأفق، ودعت إلى اتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة في 20 “نقطة ساخنة للجوع”، بينها سورية، وقد واجه 12 مليون شخص في سورية انعدام الأمن الغذائي عام 2021، من بينهم 2.5 مليون شخص يعانون الانعدام الغذائي الحادّ، ومنهم 1.8 مليون ضِمن مخيمات النازحين.. بينما الشبيحة مشغولون بافتتاح المطاعم، وبيوت “الترفيه” “للقطط السمان” ممن نهبوا الدولة والشعب.. حقاً إنها أسطورة الفساد واللصوصية غير المسبوقة في تاريخ سورية الحديث..
مصدر: نداء بوست