فايز سارة
تمتد جغرافية الشمال السوري على مسافة تبلغ نحو ثمانمائة وخمسين كيلومتراً، يمتد أكثرها في خط الحدود السورية- التركية، وإلى جانبها الشرقي مسافة تقارب خمسين كيلومتراً من الحدود السورية- العراقية. غير أن المنطقة، وفي ظل تطورات الصراع في سوريا وحولها، تجاوزت حجم وقوة الأطراف المتشاركة فيها، أعني سوريا وتركيا والعراق، وتحولت إلى منطقة في صلب اهتمام القوى الدولية والإقليمية والمحلية المنخرطة في القضية السورية، والمهتمة بها أيضاً.
وتتنوع دائرة الاهتمام بالشمال السوري بين الأطراف. فثمة تحالفات بينها الأهم والأكبر، وهو التحالف الدولي للحرب على «داعش»، والذي ما زال حاضراً رغم تصريحات كثيرة تكررت بينها تصريحات أميركية، أكدت أن التنظيم انتهى، وهو لم يتنهِ بعد، والتحالف ما زال حاضراً، وهناك التحالف الثلاثي ما بين نظام الأسد وإيران وروسيا الذي يخوض الحرب ضد السوريين، وتتشارك إيران وروسيا مع تركيا في حلف ثالث، تشكل في آستانة قبل سنوات من أجل المساهمة في الحل السوري، وقد خف ضوء الحضور الإيراني فيه، وبقي ضوء تركيا وروسيا المختلفتين حول سوريا؛ لكن وسط إصرارهما على الاستمرار معاً لاعتبارات تتجاوز في غالبها الموضوع السوري.
وإذا كانت التحالفات الثلاثة تضم وتضمن وجوداً مباشراً للأطراف المنخرطة فيها، فإن ثمة حاضرين آخرين، يستند حضورهم إلى صفتهم المحلية، مثل قوات «الجيش الوطني السوري» التي تمثل بقايا فصائل المعارضة المسلحة، أو ما في حكم ذلك، مثل «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تمثل خليطاً من متطوعين ومجندين محليين، تحت قيادة حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» (PYD) التعبير السوري عن حزب «العمال الكردستاني» في تركيا (PKK)، ومثل «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقاً) التي تضم وافدين ومتطوعين محليين، وتتبع نهج «القاعدة»، والقوى الثلاث في محليتها ترتبط بقوى أساسية الحضور في سوريا؛ إذ تدعم الولايات المتحدة «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد)، بينما تدعم تركيا «الجيش الوطني السوري»، وتقييم علاقات مستورة مع «هيئة تحرير الشام».
وبسبب ما سبق، فإن الشمال السوري مزدحم بقوى دولية وإقليمية وأخرى محلية ذات ارتباط ببعض الأولى، مما يجعل المنطقة شديدة الحساسية والتأثير في العلاقات البينية من جهة، وفي التأثير على الوضع السوري من جهة ثانية، ولئن ساد في المنطقة نوع من هدوء حذر ومتقطع في السنوات الأخيرة نتيجة اتفاقات خفض التصعيد التركية- الروسية التي كان آخرها في مارس (آذار) 2020، وبسبب تراجع الاهتمام بحل عاجل للقضية السورية، وسيطرة نزعة الانتظار لدى الأطراف المختلفة، فإنَّ تأثيرات الاجتياح الروسي لأوكرانيا وتداعياته، تركت ظلالها على الشمال السوري؛ لأن روسيا والولايات المتحدة حاضرتان وفاعلتان في الحالتين، بينما تركيا لديها رغبة عالية في الاستفادة مما يحيط بالصراع في أوكرانيا، وترغب في تعزيز دورها وحضورها في الملفين، فإنها دخلت على خط الوساطة في الملف الأوكراني، بالتوازي مع تقوية موقعها في الشمال السوري، عبر عملية عسكرية لإقامة منطقة آمنة على طول الحدود، وبعمق ثلاثين كيلومتراً، تحت ذريعة أمرين: أولهما دفع قوات «قسد» إلى الأبعد، في ظل اعتبارها تنظيماً إرهابياً معادياً، وتوسيع حيز سيطرتها لتوفير إمكانية عودة مليون من أربعة ملايين سوري مقيمين في تركيا.
ورغم أهمية الهدفين المطروحين للعملية في الشمال السوري، فإن ثمة هدفاً ضمنياً آخر، هو تعزيز مكانة الرئيس التركي طيب رجب إردوغان، عشية ترشحه للانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها العام القادم، الأمر الذي يفسر إعلانه الترشح مؤخراً، مما أضاف مزيداً من الأهمية للعملية التركية وللحديث عنها، وبدا من الطبيعي أن تثور عاصفة حول العملية التركية، تجاوزت أن تكون سياسية فقط؛ بل ترافقت مع تحركات عسكرية قامت بها أطراف مختلفة، غيرت في خريطة انتشار القوى المسلحة، والتي ستؤدي إلى تغييرات في الانتشار العسكري شمالاً، إذا اندلعت المعارك هناك.
لقد سعى الأتراك، وعلى أعلى المستويات السياسية والعسكرية، للحديث عن أهمية ذهابهم إلى عملية عسكرية شمال سوريا، وقالوا إنهم في الطريق إليها، وإنها حق مشروع، وإن بعضاً من مجرياتها قد بدأ؛ بل أضافوا تأكيد حدوث تطورين عمليين: أولهما إدخال قوات جديدة إلى المنطقة، وإعادة انتشار قواتهم قرب خطوط التماس في مواجهة قوات «قسد» وقوات النظام وإيران والميليشيات التابعة لهما. والتطور الثاني دفع قوات «الجيش الوطني السوري» التابع لتركيا للتحشد على خطوط التماس للمشاركة في العملية عندما تبدأ، وهو أمر يعطي العملية نكهة المشاركة السورية من جهة، ويخفف من خسائر القوات التركية في هجوم البداية.
ووسط الإعلانات والاستعدادات التركية، تقف «قسد» وكأنها وحيدة، في معارضة صارخة للعملية التركية المتوقعة، والتنديد بالسياسة التركية في سوريا، وشن حملة تبشير بهزيمة الأتراك في المواجهة المرتقبة. وأشارت القيادة العسكرية لـ«قسد» إلى أنها اتخذت كل الخطوات والإجراءات اللازمة في مواجهة العملية، بينما دعا الجنرال عبدي قائد قوات «قسد» نظام الأسد للمشاركة في حماية الأراضي السورية، ومنع وقوعها تحت الاحتلال التركي.
نظام الأسد والإيرانيون معاً، وإن عارضا العملية التركية، فإنهما لن يذهبا إلى الوقوف ضدها بشكل جدي؛ لأنها تضعف الأكراد و«قسد» بشكل خاص، وتقزم مطالبهم، بينما يسعى الحليف الروسي إلى فهم وتفهم الموقف التركي، كما قال لافروف وزير الخارجية الروسي، ووفاءً لموقف أنقرة «المتوازن» في الحرب الروسية على أوكرانيا، كما يقول الروس.
الطرف الأميركي الذي يعتبر موقفه الأكثر تأثيراً على العملية، وإن بدا رافضاً علنياً للعملية، فإن رفضه بدا ملتبساً؛ حيث تذهب جهود الإدارة نحو تجميد العملية، باعتبارها «ستعرّض المهمة الأميركية في سوريا للخطر»، حسبما قالت باربارا ليف مستشارة الخارجية الأميركية، والتي أضافت: «نبذل قصارى جهدنا لثني الحكومة التركية عن العملية»، وقالت أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ: «نحن نعبِّر عن مخاوفنا؛ لكن لنكن صريحين، فهُم (الأتراك) لا يتراجعون».
خلاصة القول: إنه رغم كل ما يظهر من مواقف، وما يتواصل القيام به من خطوات، فإن الأتراك ماضون في عمليتهم التي توشك أن تبدأ قريباً جداً، محاطة بأجواء تماثل ثلاث عمليات سابقة، قامت بها تركيا في شمال سوريا خلال السنوات الماضية؛ لكن الضجيج هذه المرة أكثر، وكذلك صوت السلاح.
المصدر: الشرق الأوسط