ديفيد شينكر
من وجهة نظر أبو ظبي والرياض، ليس هناك بديل عن شريك أمريكي لديه الإرادة العسكرية لردع العدوان الإيراني في المنطقة أو الرد عليه.
خلال خطاب تنصيبه الأول، تعهّد الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ”إصلاح تحالفاتنا” وبتأدية دور “الشريك القوي والموثوق فيه للسلام والتقدّم والأمن”. وبعد مرور عام على تولي بايدن زمام الرئاسة، يُنسب إليه الفضل بدعم حلف “الناتو” المتداعي لمواجهة التحدي الذي يمثله الغزو الروسي لأوكرانيا ومواصلته دعم الشركاء في منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة التهديد الذي تشكله الصين. غير أن إدارة التحالف التي مارسها فريق بايدن كانت أقل نجاحاً بلا ريب. فعلى مدار الثمانية عشر شهراً الماضية، وصلت ثقة دول الخليج العربي في شراكاتها طويلة الأمد مع الولايات المتحدة إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. واليوم، تشوب علاقات الولايات المتحدة مع السعودية والإمارات حالة من التوتر على وجه التحديد.
وساهمت مجموعة من العوامل في تدهور علاقات واشنطن مع الرياض وأبوظبي. وكانت الرغبة المتصورة للإدارة الأمريكية لاستئناف العمل بالاتفاق النووي مع إيران دون معالجة مخاوف المنطقة بشأن الميليشيات المدعومة من إيران، مصدر إزعاج مبكر. وما زاد الطين بلة هو شطب واشنطن لجماعة “الحوثيين” اليمنية من قائمة الإرهاب، والتي كانت في ذلك الحين تكثّف استهدافها للسعودية. وعلى نحو مماثل، لم يساعد التخلي عن كابول والانسحاب الفوضوي للولايات المتحدة من أفغانستان في تعزيز الثقة بقدرة واشنطن على الوفاء بالتزاماتها بتوفير الأمن في المنطقة، وهو الأمر بالنسبة إلى ردّ الإدارة الأمريكية المتأخر على هجمات الحوثيين غير المسبوقة بالطائرات المسيرة والصواريخ في كانون الثاني/يناير 2022 على دولة الإمارات العربية المتحدة والتي شبهها الإماراتيون بنسختهم من هجمات “11 أيلول/سبتمبر”.
وقد سبق كل ذلك وصف بايدن، حين كان مرشحاً للرئاسة، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بـ “المنبوذ” باستناده بالطبع على جريمة قتل الصحفي السعودي المقيم في الولايات المتحدة جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في اسطنبول. واستمر ازدراء الرئيس الأمريكي العلني لمحمد بن سلمان في إضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الرياض خلال السنة ونصف السنة الأولى من ولاية الإدارة الأمريكية الحالية.
وترافقت مع هذه التطورات مخاوف إقليمية من الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط في سياق “التحوّل نحو آسيا”، وإحجام واشنطن الواضح عن استخدام القوة العسكرية، مما دفع بالرياض وأبوظبي إلى الاستنتاج بأن الولايات المتحدة لم تعد شريكاً موثوقاً به في مجال الأمن. ونتيجة لذلك، بدأت كل من السعودية والإمارات باتخاذ تدابير احتياطية، في مسعاهما إلى تنويع علاقاتهما الاستراتيجية. ومن هذا المنطلق، تبْني الرياض مصنعاً للصواريخ الباليستية في المملكة بمساعدة بكين، في حين تشتري الإمارات مقاتلات صينية، وأفادت بعض التقارير أن جمهورية الصين الشعبية، على الأقل حتى وقت قريب نسبياً، تقوم ببناء ميناء بحري بالقرب من أبوظبي.
إن رغبة الشركاء الخليجيين القدامى في البحث عن جهة غير واشنطن من أجل التعاون الأمني تُعقّد محاولات إصلاح هذه العلاقات، شأنها شأن الديناميكيات الشخصية المتوترة. ووفقاُ لبعض التقارير رفض محمد بن سلمان استلام مكالمة هاتفية من الرئيس بايدن، ويقال أنه أعدّ قائمة طويلة من المطالب التي يجب تلبيتها قبل أي تقارب مع واشنطن. وفي موازاة ذلك، تجاهل ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد رئيس “القيادة المركزية الأمريكية”، الجنرال كينيث ماكنزي، خلال زيارته [للإمارات] بعد أسابيع من هجمات الحوثيين، كما رفض لقاء وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن لقبول اعتذاره عن الردّ الأمريكي المتأخر على هذه الهجمات. (في النهاية التقى الاثنان في المغرب). فضلاً عن ذلك، لن ينظر محمد بن سلمان أو محمد بن زايد في التماسات إدارة بايدن لفسخ العلاقات مع روسيا ومجموعة “أوبك بلس” وكذلك زيادة إنتاج النفط لخفض أسعاره في السوق العالمي.
وفي حين قد تؤدي الهزيمة في الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي لعام 2022 إلى تغيير النهج المعتمد من قبل إدارة بايدن، لا يبدو أن شركاء واشنطن الخليجيين يراهنون على هذه الخطوة، بل يبدو أن السعودية والإمارات لن تُحرّكا ساكناً بانتظار الانتقال السياسي في البيت الأبيض من إدارة ديمقراطية إلى جمهورية في عام 2024 – بل يأملان حقاً في حدوث ذلك. وفي ظل ارتفاع أسعار الطاقة، والتهديد الذي تشكله إيران على الاستقرار في الشرق الأوسط، والحاجة الأمريكية المتزايدة إلى دعم إقليمي في منطقة تحتدم فيها المنافسة بين القوى العظمى، فإن تدهور العلاقات جاء في وقت سيء للغاية.
وتقترب العلاقات الثنائية مع هذين الشريكين القديمين من نقطة التأزم، إن لم تكن قد بلغتها أساساً. وعلى الرغم من أن احتمالات تحسينها تبدو قاتمة، من المهم أن نتذكر أن واشنطن تغلبت على التحديات التي اعترضتها في الماضي يداً بيد مع حلفائها الخليجيين.
ففي عام 1973، فرضت منظمة “أوبك” بقيادة السعودية حظراً نفطياً على الولايات المتحدة في محاولة لممارسة الضغط على واشنطن لكي توقف دعمها لإسرائيل خلال حربها مع مصر وسوريا. وقد أسفر ذلك الحظر عن زيادة أسعار النفط بواقع أربعة أضعاف، مما أدى إلى حدوث ركود تضخمي وانهيار سوق الأسهم الأمريكية. كذلك، ساهمت الهجمات الإرهابية في 11 أيلول/سبتمبر التي نفذها تنظيم «القاعدة» على الولايات المتحدة وأودت بحياة 3 آلاف شخص تقريباً، في توتر العلاقات الأمريكية السعودية، حيث كان 15 من الإرهابيين التسعة عشر ينحدرون من المملكة. أما قانون “العدالة ضد رعاة الإرهاب” (“جاستا”) الذي أقرّته الولايات المتحدة عقب الهجمات، فقد ألغى “الحصانة السيادية الأجنبية” التي كانت تتمتع بها الرياض، والتي سمحت للضحايا في عام 2018 بمقاضاة السعودية ومصادرة أصولها الموجودة في الولايات المتحدة، الأمر الذي فاقم التوتر في العلاقات. ومؤخراً، في عام 2020، هدد الرئيس ترامب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأن الكونغرس قد يسحب جميع القوات الأمريكية من المملكة إذا لم تقلل “أوبك” إنتاج النفط من المستوى الذي أدى إلى انخفاض الأسعار العالمية وعرّض قطاع التكسير الهيدرولي الأمريكي للخطر.
وبمرور الوقت، وفي جميع هذه الحالات، تمكنت واشنطن والرياض من حل الخلافات وإعادة العلاقات الثنائية إلى مسارها الصحيح. ويقيناً، إن إصلاح العلاقات مع الشركاء الخليجيين حالياً سيكون أكثر تعقيداً مما كان عليه في الماضي. ففي النهاية، إنه عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد، فالسعودية والإمارات تربطهما علاقات اقتصادية وأمنية عميقة ومزدهرة مع الصين وروسيا. وبينما يدرك شركاء واشنطن في منطقة الخليج أنه لا يمكن لموسكو ولا حتى لبكين الحلول محل الولايات المتحدة، ففي الوقت نفسه لا تثق هذه الدول كثيراً بإمكان اعتمادها على الولايات المتحدة في لعب دورها الأمني التقليدي في المنطقة.
وحتى إذا ما “تحوّلت” الولايات المتحدة نحو آسيا، سيبقى الشرق الأوسط منطقة مهمة بالنسبة لواشنطن. ففضلاً عن مواصلة ضمان عدم انقطاع تدفق النفط عبر الخليج، سيستمر تركيز واشنطن منصباً على تقويض أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار والنفوذ الصيني والروسي الخبيث في أرجاء المنطقة. [وعليه]، سيكون الوجود الدبلوماسي والعسكري الأمريكي الراسخ أساسياً لإحياء الشراكات المحلية والحفاظ عليها من أجل تحقيق هذه الأهداف. غير أنه من أجل إصلاح هذا النوع من العلاقات، سيتعين على الولايات المتحدة أولاً إقناع شركائها القدامى غير المقتنعين حالياً بأنها حليف موثوق به.
ومن أجل إعادة العلاقة مع الرياض إلى ما كانت عليه، سيكون من الضروري أن تعمل الإدارة الأمريكية على طي صفحة خاشقجي. فما حلّ بالمواطن السعودي كان فظيعاً بشكل موضوعي، وقد حددت إدارة ترامب حوالي 17 مسؤولاً أمنياً سعودياً لدورهم في هذه الجريمة. غير أن المصالح القومية الأمريكية لا تتحقق من خلال محاولة عزل الحاكم المستقبلي المرجح للمملكة ومعاقبته. فقرار إدارة بايدن بإحباط العلاقات الأمريكية السعودية لمعاقبة ولي العهد بسبب ترجيح ضلوعه في عملية القتل يشكّل سابقة غير مفيدة لمستقبل [أمريكا في المنطقة]. وعليه، هل يجب أن تكون واشنطن ملزمة أيضاً بإدانة نجل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، محمود، الذي هو مسؤول كبير في “جهاز المخابرات العامة” المصرية، على خلفية مشاركة الجهاز الأمني بتعذيب الطالب الإيطالي جوليو ريجيني وقتله عام 2016؟
كما تترتب نتائج عكسية على القدح والذم الصادر عن الإدارة الأمريكية. فبعد أسابيع فقط من زيارة مدير “مجلس الأمن القومي” الأمريكي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بريت ماكغورك و”المبعوث الخاص لوزارة الخارجية الأمريكية لشؤون الطاقة” عاموس هوشستين إلى الرياض لإقناع السعودية بزيادة إنتاجها من النفط، كرر البيت الأبيض انتقاداته للمملكة. وفي هذا السياق، ذكرت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي لدى سؤالها في 7 آذار/مارس 2022 عن تعهد سابق بإعادة المملكة “إلى حجمها الفعلي كدولة منبوذة” أن الرئيس بايدن “يلتزم بهذه التعليقات”. ولكن إصرار الإدارة الأمريكية على إهانة السعودية لا يعاقب محمد بن سلمان ولا يدعم مصالح الولايات المتحدة، ولن يساعد في تحسين العلاقات الثنائية.
سيكون من الصعب إعادة بناء الثقة، لا سيما نظراً إلى تركيز الجيش الأمريكي المتزايد على آسيا. وفي ظل عدم زيادة القوات والمعدات الأمريكية المرسلة إلى الشرق الأوسط، تتمثل إحدى الطرق لطمأنة الشركاء في تولي “القيادة المركزية الأمريكية” جهود التنسيق، والمساهمة في إقامة بنية دفاعية إقليمية – بما في ذلك نظام الدفاع الصاروخي – للتصدي لإيران، تشمل إسرائيل والأردن والإمارات والبحرين وأي دولة أخرى ترغب في المشاركة. وبينما تتعاون هذه الدول أساساً في مسائل دفاعية، بإمكان “القيادة المركزية الأمريكية” والجيش الأمريكي توفير الخبرة الفنية فضلاً عن قدرة تنظيمية لا تُقدّر بثمن.
وقد تساعد هذه الخطوات على استعادة الثقة نوعاً ما بقدرة واشنطن على مواجهة إيران. ومع ذلك، فمن وجهة نظر السعودية والإمارات، لا يوجد بديل لشريك أمريكي مستعد لردع و/أو معاقبة إيران عسكرياً على أي هجوم تنفذه في المنطقة.
ويقيناً أن تدهور العلاقات بين واشنطن وشريكيها الخليجيين، الرياض وأبوظبي، لا يُعزى فقط إلى أخطاء سياسة إدارة بايدن. فعلى سبيل المثال، فشلت السعودية والإمارات في إدراك القدرة المتزايدة للقوى العظمى على منافسة صناع السياسة الأمريكيين سواء من الحزب الجمهوري أو الديمقراطي. وبغض النظر عن ذلك، وفي حين تشهد الصيغة التقليدية للنفط مقابل الأمن والهيمنة الأمريكية في الخليج تحولاً، لا تزال شراكات الولايات المتحدة مع الرياض وأبوظبي تعود بفائدة متبادلة، وتساهم في استقرار المنطقة، وتستحق بذل الجهود للحفاظ عليها. يتحتّم على إدارة بايدن اتخاذ خطوات لإصلاح هذه العلاقات الثنائية المتعثرة.
ديفيد شينكر هو “زميل أقدم في برنامج توب” بمعهد واشنطن ومساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لشؤون الشرق الأدنى. وتم نشر هذه المقالة في الأصل على موقع “كارافان” التابع لـ “معهد هوفر”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى