محمود الوهب
لست حقوقياً، لكن أدرك جيداً أن القانون، في جوهره، يأتي تلبية لمصلحة أبناء البلد الذي يوضع من أجلهم، ومن هنا أودُّ مناقشة ما جرى في العراق مؤخراً على أسس منطقية، وبعيداً عن مكائد السياسية، وألاعيب من يمارسها دون أي وازع وطني أو أخلاقي! وفي إطار ذلك أودُّ طرح سؤال هو: هل ما جرى في المجلس النيابي العراقي يعد عملًا قانونياً بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ استبدل ثلاثة وسبعون مرشحاً لم يحالفهم الحظ في الجولة الأولى بأكبر كتلة نيابية زكَّاها الشعب، وتعادل ثلث عدد نواب المجلس بكامله.. الأمر الذي يعني إلغاء قرار يمثِّل ثلث الشعب العراقي الذي منح أصواته لهذه الجهة دون غيرها، إذ رأى فيها تلبية لطموحه، ويدرك المتابع للشأن العراقي أن أحد أهم المعاني الذي أشارت إليه نتائج الانتخابات العراقية هو معاقبة من استباح وطنه، على غير صعيد، نحو عقدين من الزمن وأكثر..
إنَّ استخدام المادة الواردة في الدستور العراقي أو في النظام الداخلي للمجلس على نحو آلي (ميكانيكي) ودون النظر بعمق إلى الأسباب الجوهرية المتعلقة باستقالة هؤلاء النوَّاب، وهي مصلحة العراق التي هي غاية المجلس ذاته؟! إذ إنَّ كل الذي أرادته تلك الكتلة المكونة من ثلاثة وسبعين نائباً مع تحالفاتها أن تشكل حكومة تأخذ بمصلحة العراق وطناً لكل أبنائه.. وطناً يسمو فوق كل انتماء قومي أو ديني أو طائفي.. وطناً يلمُّ أبناءه كافة. بينما عمل الآخرون (الثلث المعطل) على الأخذ بشكل المادة لا بجوهرها، وأن الدوافع الحقيقية لذلك مجرد أطماع سياسية، وتصفية صراعات مزمنة، واستغلال متربص للنيل من الشعب الذي استاء من ناهبيه، ومخربي اقتصاد بلاده، وإذلالها بتسهيل ارتهانها لأعداء تاريخيين لها.. فنصُّ المادة الدستورية تشير إلى استقالة واحد من أعضاء المجلس، أو وفاته، وجوهر المادة يطاول فرداً أو أفراداً قليلين قد لا يتجاوزون، في الأغلب الأعم، عدد أصابع اليد الواحدة في الدور التشريعي الواحد.. وربما لم يخطر ببال المشرِّع أن يستقيل ثلث أعضاء المجلس لأسباب جوهرها مصلحة الوطن العليا.. وكان على الأجدر بالمحكمة الدستورية العليا أن تبت في شأن مثل هذه الاستقالة، في ضوء ملابساتها، ومجمل ما يجري في العراق من صراع.. وكيف يمكن معالجة ما يترتب على نتائجها، وفق الفهم العميق لأبعاد تلك المادة..
أما الذي جرى فهو نوع من استغلال الأقلية المعاقَبَة شعبيًا في الانتخابات الأخيرة على أرضية وطنية لهو جريمة بحق العراق وشعبه فالمحاصصة التي تسعى إليها الأقلية لم تأت ضد الأكثرية بل لأنها ترفض حكماً وطنياً يأخذ بتلبية حاجات العراق الضرورية من بناء وتنمية وارتقاء بالدولة والمجتمع وبالتالي، لا نهب ولا تفتيت لبنية المجتمع الداخلية.. والأهم من ذلك كله لا ارتهان لقوى خارجية، إذ إن استقلال الوطن هو غاية تتقدم على كل غاية أخرى، فلا وطن مرتهناً يمكن أن ينعم أهله بخيراته وثرواته وما يقومون به من كدٍّ وجهدٍ..
إن تلك الأقلية المعاقبة شعبياً، كما أشير، قد رهنت الوطن لمن يصرح على الملأ ويقول بالفم الملآن إن العراق ملك له، وأن بغداد عاصمة بلاده التاريخية! (تصريح على يونس مستشار الرئيس حسن روحاني في الرابع من نيسان من العام 2015..) ولم يكن حديثه عن إمبراطورية فارسية عاصمتها بغداد، نوعاً من التهديد أو ضرباً من الخيال، ولكنه الحلم القديم الذي لايزال يراود النخب السياسية في بلاد فارس منذ سقوط آخر إمبراطورية لهم بعد هزيمتهم في معركة “جالديران” إذ انتصر فيها السلطان العثماني على الصفويين في 23 آب عام 1514..
إنَّ أقل ما يقال في العملية التي جرت أنها لم تدرس من الناحية القانونية بعمق، وعلى أرضية وطنية لتتحول إلى أغلبية بالإكراه، ولاقتناص فرصة عرضية لا يمكن أن تجلب الاستقرار إلى العراق الذي مزقته الحروب والتدخلات الخارجية.. ما يؤكد ذلك ما صرح به الصحفي العراقي “مجاهد الطائي” (كاتب وباحث سياسي من العراق، ماجستير في العلوم السياسية) من أن التصويت على تعديل النظام الداخلي في مجلس النواب كان قبل أداء اليمين الدستورية لـ 64 نائباً بديلاً.. والجلسة حضرها 202 نائب من ضمنهم الـ.64، فإذا خصمنا الـ 64 يبقى 138 نائباً وهو ما يعني أن لا نصاب للجلسة وقراراتها باطلة؟!
إن استقالة الأغلبية لم تكن نزقاً، ولا محاولة للنيل من الأطراف الأخرى، أو نيلاً من العراق، لا سمح الله، بل هي احتجاج على أساليب ملتوية تريد أن يبقى العراق في حالة ضعف، وغرق في مشكلات كان قد ودَّعها منذ زمن مضى.. ويأتي في مقدمتها مسألة استقلاله التام، وسيادته على أراضيه، وتحصينه من أي عدو طامع أو تدخل خارجي.. ومساهمته، على نحو أو آخر، بالعمل على إيجاد حلول عملية لما يعانيه من مشكلات وأزمات خلفتها الحال غير الطبيعية التي مرَّ بها العراق خلال أكثر من ثلاثة عقود..
إن إصرار الإطار التنسيقي المسؤول عملياً عن كل ما وصل إليه العراق من ضعف وفقر وتخلف وصراعات داخلية وارتهان لإيران سيؤدي به إلى اقتتال داخلي كما حدث حين تصدى بعض أطرافه إلى المظاهرات السلمية التي قادها شباب عراقيون يرفعون شعارات وطنية لاطائفية، ولا تقاسم للوطن بين الكتل السياسية.. فما ينتظر العراق من أعمال حكومية كبيرة وسامية.. ومما ينتظره الشعب العراقي من معالجة لملفات المختطفين والمغيبين، وإصدار عفو عام، وإعادة إعمار المدن المدمرة، وسحب المليشيات من الأحياء والمناطق السكنية، وإعادة النازحين إلى مدنهم دونما شروط إلى جانب قضايا أخرى تتعلق بضرورات الحياة اليومية من ماء وكهرباء، ومواد استهلاكية، واستعادة الزراعة بتوفير مستلزماتها، وذلك لا توفره إلا حكومة أغلبية وطنية موحدة..
ويبقى السؤال الأهم: هل تمر استقالة الكتلة الصدرية الذكية التي اغتنمتها كتلة الإطار التنسيقي بسذاجة لا تخلو من خبث وتربص وسرعة اقتناص، دونما مواجهة تضاهي حجم ما تنطوي عليه الاستقالة من معان قيمية.. وطنية واجتماعية وإنسانية.. ذلك ما يمكن أن تفصح عنه الأحداث في الأيام القادمة..
المصدر: نداء بوست