شريف هلالي
يثير ما يحدث في بلدان الربيع العربي علامات تعجب كثيرة بشأن وقوف تيارات سياسية ضمن صفوف المؤيدين للانقلاب على الدستور والتعددية السياسية والدفاع عن منطق الديكتاتوريات العربية الراهنة في تونس ومصر وسورية. وينطبق هذا السؤال على موقف التيار القومي الناصري من الانقلاب على التحوّل الديمقراطي، وإطاحة نظام برلماني متوازن بين السلطتين، التنفيذية والتشريعية، وهو ما حدث بوضوح في التجربة التونسية بانقلاب الرئيس قيس سعيّد على دستور 2014 الذي انتخب على أساسه، كما حدث في تعديلات الدستور المصري التي أجريت عام 2019، والتي أعطت الرئيس عبد الفتاح السيسي إمكانية الاستمرار في موقعه حتى عام 2030، بالتناقض مع نصوص الدستور ذاته.
وفي تونس، لم تكتف حركة الشعب بتأييد موقف سعيّد من تجميد البرلمان وإقالة رئيس الوزراء، بل أيدت المسار الانقلابي بشكل كامل، حتى الاستفتاء على نسخة استبدادية جديدة من الدستور، وضعها سعيّد منفردا، ودعا إلى الاستفتاء عليها في ذكرى انقلابه على النهج الديمقراطي، ولم تضع أي تحفظات على هذا المسار الانقلابي. ويعيدنا هذا الأمر إلى الصمت التام للتيار الناصري وجبهة الإنقاذ في مصر على ما حدث في أعقاب تظاهرات 30 يونيو (2013)، وبيان 3 يوليو (2013)، وترحيبه بتدخل الجيش في العملية السياسية، وإطاحة حكم الإخوان المسلمين. وطوال المرحلة الانتقالية، لم تضع الأحزاب القومية الناصرية أي تحفظات على انتهاك المسار الديمقراطي، الأمر الذي أدّى إلى أنه بعد نجاح المؤسسة العسكرية في إقصاء جماعة الإخوان، ووضع أغلب قياداتها في السجون، أقصى كل القوى السياسية المدنية والديمقراطية الأخرى وسجن قياداتها.
ونجد لهذا الموقف امتدادا للدعم والتشجيع المطلق لكثير من فصائل التيار القومي رؤساء عرب سابقين، مثل الرئيس العراقي صدّام حسين، والزعيم الليبي معمّر القذافي، وتأييد الرئيس بشار الأسد ضد المعارضة السورية وقتل آلاف من السوريين باسم الحفاظ على الدولة، وتبنّي خطاب المؤامرة، ما تسبب في لجوء ملايين السوريين إلى الخارج. واستمر هذا التأييد لورثة هذه الأنظمة أيضا، وهو ما يظهر بتأييد سيف الإسلام القذافي وجماعته لإعادة تنصيبه رئيسا لليبيا، لمجرّد أن هؤلاء القادة رفعوا شعارات العروبة والقومية.
ويجد هذا الموقف المعارض لجماعات الإسلام السياسي مرجعيته لدى الأحزاب القومية في سببين أساسيين، يتعلق الأول بالعداء التاريخي بين الحركات القومية وجماعة الإخوان المسلمين وامتداداتها والخلفية التاريخية السلبية بين الجماعة والزعيم جمال عبد الناصر. وقد تكون بعض أخطاء الحركات الإسلامية سببا في هذا الموقف، خصوصا أن جماعة الإخوان لم تقدم نموذجا جاذبا للتعاون مع القوى المدنية الأخرى، في أثناء وجودها في السلطة في مصر… وعلى الرغم من وجود ممثلي كل من التيارين، القومي والإسلامي، في بعض المؤسسات، مثل المؤتمر القومي العربي ونظيره العربي الإسلامي، وتعاونهما معا فترة ما، والتحالف السياسي الانتخابي بين تيار الكرامة الناصري وجماعة الإخوان عام 2012، إلا أن شهر العسل بينهما انتهى تقريبا بالصراع على السلطة عام 2012 لاحقا.
حالة الاستقطاب والصراع السياسي المتبادلة بين التيارين، وكذلك استغراق التيار القومي، بقواه المختلفة، في تحديد مواقفه من العملية السياسية والتحول الديمقراطي من منظور عدائه لجماعة الإخوان المسلمين، يمثل موقفا خاطئا في حساباته السياسية في مصر وتونس، خصوصا أن الجانب الآخر المعادي لهذا التوجه الانقلابي يتضمّن قوى سياسية أخرى، ولا يقتصر على قوى الإسلام السياسي. والمشكلة أن الإدارة الحالية في البلدين، بعد نجاحها في إقصاء أحزاب الإسلام السياسي، وإجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، وفق منطق فرق تسد، والتي على الرغم من كل مشكلاتها، لا يوجد لها حل سوى الإيمان بالديمقراطية واحترام التوازن بين السلطات، وعدم الانفراد بالسلطة وتقييد الفضاء الأهلي والنقابي والإعلامي. لم تحظ حركة الشعب التونسية بتمثيل نيابي معقول في مجلس النواب، إلا في ظل انتخابات 2019، بحوالي 15 نائب، وهو أكبر تمثيل لها منذ عام 2011.
وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات من التيار الناصري في مصر لمعارضة التعديلات الدستورية عام 2019، والمطالبة باحترام حقوق الإنسان وحرية المشاركة السياسية، لكن هذا الموقف بدا رد فعل لتوجه غير ديمقراطي ضد هذه الأحزاب، ولم يبد موقفا أصيلا ومنهجيا من احترام الآليات الديمقراطية وتداول السلطة. والتوجهات الفردية والاستبدادية في التجارب التونسية والمصرية والسورية واضحة للجميع ضد التعددية واستقلال القضاء وحرية الصحافة والمجتمع المدني، وستسعى هذه الرؤية إلى تجميد أي عمل ديمقراطي وحزبي مستقل، يعارض السلطة الأبوية للحاكم العربي.
ولا يكفي رفع بعض الأنظمة الشعارات القومية، والعداء لجماعات الإسلام السياسي، لكي تحظى بدعم التيار القومي على بياض، حتى وإن عبثت بالاختيار الديمقراطي، فهذا الموقف ليس مبدئيا بل هو انتهازي، وكذلك أحيانا تبدو هذه المواقف داعمة للرؤية الاستئصالية للمسار الديمقراطي، وهو بطبيعته مسار يتحمّل وجود قوى سياسية تختلف في الروية والأفكار والهدف، وتسعى إلى تولى السلطة عبر انتخابات ديمقراطية يجب أن تستمر في الإيمان بها إذا جاء الصندوق بما يعارضها.
التيارات القومية تقع في خطأ كبير إذا ظنت أنها يمكن أن تصبح أحد حلفاء الحكم الاستبدادي، وأنه سيكون مجبرا على مشاركتها في السلطة وإعطائها موقع القيادة أو موقع المشارك فيها لمجرد وقوف هذا التيار مع الانقلاب على الأحزاب المنافسة، والدرس هنا واضح للعيان ، فبعد إقصاء جماعة الإخوان في مصر وتونس، أُقصيت القوى الأخرى، كما أن الرئيس التونسي لا يدعم أي مسار سياسي يمكن أن يؤدي إلى بروز أي قوى سياسية، سواء حركة النهضة أو غيرها من الأحزاب الأخرى، وهو ما ظهر في التعامل مع الصحافيين والقضاة والنواب السابقين بإحالتهم إلى المحاكم العسكرية لانتقادها مسار السلطة.
وإذا كان الموقف النظري للتيار القومي هو الربط بين الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية أو بين الديمقراطية والاشتراكية، وهو موقف لا يعادي الديمقراطية والحريات في صورتها الليبرالية، بل يشدّد على احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعوب لضمان تمتعها بالحريات السياسية، إلا أن هذا الموقف لن يكون كافيا لإقناع الاغلبية الشعبية بمواقفها، في ظل مناخ استبدادي يهيمن فيه الحاكم على مقاليد صنع القرار.
على التيار القومي، وفي القلب منه التيار الناصري في العالم العربي، تجديد خطابه السياسي في ما يتعلق بالموقف من الديمقراطية وتداول السلطة والتعدّدية والمشاركة السياسية والفصل بين السلطات، وإقامة توازن ضروري بين كل منها. وفي غياب هذا المناخ الديمقراطي، لن يكون بمقدور أي قوة سياسية إحداث أي فعل جماهيري، ولن يكون متاحا لها سوى أن تستخدمها المؤسسات النافذة، سواء العسكرية أو أنصار النظام السابق، لتبرير وجوده في السلطة وإقصاء التيارات الأخرى، دينية ومدنية.
المصدر: العربي الجديد