د. مخلص الصيادي
في مثل هذا اليوم 15/ 8 / 2021 استلمت حركة طالبان السلطة، معلنة هزيمة الاحتلال الأمريكي، وانسحابه من هذا البلد انسحابا ذليلا على الرغم من الترتيب السريع المتفق عليه لهذا الانسحاب.
وكما مثل هذا الانسحاب الأمريكي، نصرا صاغته حركة طالبان عبر جهاد وقتال استمر لسنوات طوال ودفعت ودفع الشعب الأفغاني عاليا لتحقيقه، مثل أيضا حاجة أمريكية ملحة بعد أن تحولت أفغانستان إلى رمال متحركة تبتلع المحتل الغازي ومن في ركابه، وباتت تكلفة هذا الاحتلال أكبر من أن تتحملها الولايات المتحدة.
ويبدو أن بنود الاتفاق بين طالبان والولايات المتحدة الذي عقد عبر مفاوضات مضنية في الدوحة وأعلن عنه في نهاية فبراير 2020 تضمن ما اعتبرته واشنطن حينها التزامات أمنية مقبولة، وتضمنت الاتفاقية انسحابا متدرجا للقوات الامريكية وحلفائها في غضون 14 شهرا من اعلان الاتفاق، كما تضمنت الإفراج عن الأسرى، وتفاصيل عديدة أخرى من أهمها تعهد طالبان بأن لا تكون أفغانستان مركزا يهدد أمن الولايات المتحدة، وحلفائها، ومواطنيها، ومصالحها.
ولا شك أن هناك بنودا من الاتفاقية لم تر طريقا للتطبيق منها ما خص التفاوض مع الحكم الافغاني السابق، ومنها ما خص العقوبات الدولية التي كانت الأمم المتحدة قد أوقعتها على طالبان، والأموال الأفغانية المجمدة.
ولعله من قبيل التسرع أن نقف لتقييم حكم طالبان لأفغانستان ولم يمر على استلامها السلطة غير عام واحد، وفي هذا العالم ما زالت موارد أفغانستان مجمدة، والسلطة الأفغانية محاصرة دوليا، وجاءت جائحة كورونا لتشكل ظرفا جديدا طارئا على العالم كله، وبالتالي ضاغطا أكثر على السلطة الأفغانية.
وبناء على ذلك فإن كل حديث عن تنمية ونهوض يبدو غير ممكن في ظل قصر المدة وفي ظل هذه الظروف.
لكن هذا لا يمنع أن نرصد ملامح سياسة طالبان داخليا، وهي ملامح لا تتأثر بالظروف المختلفة التي تحدثنا عنها. ولعل هذا الجانب من الرصد هو الأهم عندنا لأن الحركة هي العنصر الفاعل الأبرز فيه.
وأهم ما يمكن الوقوف عليه في هذا الشأن:
1ـ موقف الحركة من المرأة: (التعليم، والعمل، والتنقل، وشكل الحجاب .. الخ)، وفي هذا الشأن كشفت الحركة عن فهم شديد التخلف لموقف الإسلام من المرأة، وهي بهذا لم تظلم المرأة الأفغانية فحسب، وإنما ظلمت الدين الإسلامي، وبالتالي فإن ظلمها أصاب كل مسلم أينما كان.
وإذا كانت الولايات المتحدة ومعها قادة الحكم الأفغاني تحت الاحتلال قد قدموا فهما سطحيا ومتخلفا عن حرية المرأة حينما اعتبروا: الغناء، وفرق الرياضة النسائية، وعروض الأزياء، والموضة، والشذوذ، من مظاهر تقدم المرأة في هذا البلد، فإن ما قدمه حكم طالبان للمرأة لا يقل بشاعة عن تلك الصورة التي قدمها المحتل وحلفاؤه، بل تزيد، لأن ذلك قوة احتلال، ثم إن ما يقدمه هو معايير مجتمعه وقيمها، لكن طالبان قوة وطنية، وما تقدمه يتم تحت رايات الإسلام وبزعم أنه تطبيق له.
2ـ العجز عن استيعاب القوى الأفغانية في نطاق السلطة الحاكمة، وهو عجز يعني الفشل في بناء وحدة وطنية أفغانية على المستويات الأربعة لهذه الوحدة: المستوى المذهبي، والمستوى السياسي، والمستوى القبلي، والمستوى العرقي، وهذه المستويات الأربعة لابد من توفرها في الحكم حتى يعتبر الحكم حكما وطنيا، وحتى تتحقق في هذا الحكم الوحدة الوطنية اللازمة لتأمين أمن المجتمع وتماسكه.
ان وجود مجلس أعلى للمقاومة يعمل ضد طالبان ويقوده أحمد مسعود منطلقا من موقع الأخير في وادي بنشير ويضم أربعين قياديا ومسؤولا سابقا (تجمع قبلي، عرقي، سياسي) يمثل تحديا حقيقيا للطبيعة التمثيلية لطالبان.
كذلك فإن غياب تمثيل الشيعة” الهزارة” في سلطة طالبان يمثل خطرا حقيقيا على مستقبل أفغانستان، خصوصا وأن هؤلاء على علاقة مذهبية بإيران، وقد شاركوا وما زالوا في الحرب الطائفية التي أشعلها النظام السوري وإيران في سوريا، وذلك من خلال ما يعرف بلواء “فاطميون”، وتقدر أعدادهم بأكثر من عشرة آلاف مقاتل، وهم في معاركهم على الساحة السورية يتغذون بأكثر الأفكار والمفاهيم الطائفية تطرفا، ويلقون الدعم غير المحدود من إيران، وهم قادرون حال عودتهم أو الاستعانة بهم على القيام بأعمال ذات أثر سلبي كبير في المجتمع الأفغاني.
وإذا تنبهنا إلى أن هذه القوى المعارضة تتصل بطبيعة انتمائها المذهبي او العرقي بدول الجوار (طاجاكستان، أوزباكستان، تركمانستان، إيران، باكستان، الصين)، فإن هذا يعني أن استمرار وجود هذه الفصائل خارج الوحدة الوطنية والسلطة يعني ان استقرار أفغانستان هو قرار يتصل بالجوار أكثر من اتصاله بسلطة كابول.
3ـ وتمثل داعش ” ولاية خراسان”، تحديا حقيقيا لطالبان، وولاية خراسا الداعشية حركة ظهرت في العالم 2014 أو قبيل ذلك، عقب وفاة الملا عمر مؤسس طالبان، ورغم ان تعداد مقاتلي داعش لا يزيد وفق التقديرات المتوفرة عن 2000 مقاتل، إلا أن قوتها الحقيقية تتمثل في انها تتغذى على الأفكار نفسها التي بنيت عليها طالبان، لذلك فان توقع وجود أنصار لها في جسم طالبان كخلايا نائمة هو توقع حصيف. وداعش التي تصف القاعدة وقيادتها بصفات مقذعة، والتي فرحت بمصرع زعيمها “أيمن الظواهري” بهجوم أمريكي في 31 يوليو الماضي على منزله في كابول، ووصفته ب”الكافر والهالك وسفيه الأمة”، تعتبر ما أقدمت عليه طالبان من محادثات واتفاق من المحتل الأمريكي وبالتالي استلام السلطة بهذه الطريقة انحرافا، وخروجا عن النهج الإسلامي، وأن اكتفائها بالقتال والجهاد ضمن حدود أفغانستان نوع من الخضوع لمصالح الكفار. وأنها بذلك تعبر عن نهج قومي لا يقبله “الإسلام”.
ورغم أن السطوة الآن لطالبان، إلا أن تمسك طالبان بنهج التشدد يجعلها يوما بعد يوم أضعف من داعش بكثير، لأن الأخيرة “أنقى” في نهج التطرف مما باتت عليه طالبان، وهذا الموقف ” الوسطي” لطالبان ـ إن صح التعبيرـ تجاه التطرف، موقف مذبذب، لا يستطيع الصمود كثيرا، وستجد داعش الكثير من الأنصار داخل طالبان يشدوا من أزرها، ويدعموها في صراعها مع الحركة الحاكمة.
4 ـ نموذج الحكم الطالباني على مدى عام يفتقد إلى أي شكل من أشكال الحرية: الفردية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الدينية والمذهبية، وأخذا بما سبق فليس هناك مؤشرات أو توقعات لخطوات تدعم “الحرية” في هذا المجتمع، وكل ذلك يحدث باسم الدين، ومن هذه الزاوية فهناك تشابه ما بين حكم طالبان، وحكم الملالي في ايران. وإذا كانت إيران قننت نهجها الاستبدادي بدستور طائفي، وبنظرية ولاية الفقيه، فإن طالبان ما زالت دون ذلك، لكن يحكمها مرشدها الأعلى الملا ” هبة الله أخوند زاده”، وهو من زاوية الحكم يمثل تماما نموذج الخامنئي، وقد يزيد عليه في سلطاته التنفيذية، إذ يسمح النموذج الإيراني بنوع من “التنوع المنضبط” في حين الحكم مطلق للحركة في أفغانستان.
حصيلة هزيلة وضعيفة ومحبطة لعام من حكم طالبان، بعد أن استطاعت أن تقود بنجاح جهاد شعب على مدى عقدين من الزمن ضد الاحتلال الأمريكي وحلفائه، ونموذج متخلف للفكر الديني الإسلامي، وبالتالي قاصر عن تقديم أي إغراء لأي جهة أو مجتمع مسلم.
وإذا ما استمرت طالبان بهذا النهج ـ وهو متوقع ـ فإن التجربة، تجربة طالبان في الحكم ستضاف على التجارب البائسة لقوى إسلامية في الحكم ـ خلال نصف قرن مضى ـ من باكستان إلى السودان وصولا إلى المغرب، وقد تكون أكثرها قسوة، وأبعدها أثرا.