محمد حردان
تشهد منطقة إدلب في شمال غرب سوريا، الخاضعة لسيطرة هيئة تحرير الشام، تحركات مدروسةً لزعيمها “أبو محمد الجولاني”، ليخرج بمظهر القائد العام للمنطقة، إذ يقوم بزيارة المراكز الحيوية والاجتماع بأعيان المنطقة في مناسبات عدة، ليشكل ظهوره سلسلةً مترابطةً تركز على القضايا الخدماتية بعيداً عن الشأن العسكري، إذ ظهر خلال العام الجاري 15 مرةً.
وكان آخر ظهور له هذا العام، في لقاء مع نازحين من مدينة حماة في 24 تموز/ يوليو الماضي، وذلك بعد زيارة لافتتاح محطة عين الزرقاء لضخ المياه في منطقة سهل الروج في ريف إدلب في 23 من الشهر نفسه. كما التقى بشخصيات إدارية في مدينة جسر الشغور غرب مدينة إدلب في 20 تموز/ يوليو، بعد اجتماعه بأعضاء حكومة الإنقاذ للحديث عن دور المؤسسات الخدمية في مدينة إدلب في 15 تموز/ يوليو، واجتمع أيضاً مع أعيان المنطقة الشرقية وأهاليها في 14 تموز/ يوليو الماضي.
كما سبقت تلك الزيارة اجتماعات عدة مع أبناء كل من الطائفتين المسيحية والدرزية ممن يقطنون في المنطقة، في محاولة جديدة منه للاستثمار في الأقليات، إذ افتتح بئر ماء في القرى ذات الأغلبية الدرزية، ووجه رسالةً دينيةً أبرز ما جاء فيها “عدم إجبار أحد على اعتناق الإسلام”، ووعد بعدم تعرّض أحد للظلم في قرى جبل السماق في ريف إدلب الشمالي، وذلك في 9 حزيران/ يونيو الماضي.
وظهر للمرة الأولى خلال هذا العام، عند افتتاح طريق حلب-باب الهوى، في 7 كانون الثاني/ يناير، وتحدث عن مشاريع اقتصادية ووعود بتهيئة بيئة اقتصادية واستثمارية، ثم أطلق حملةً تحت عنوان “دفئك واجبنا” لدعم الأهالي في مخيمات “دير حسان” شمال إدلب في 31 من كانون الثاني/ يناير، تلاها تكريمه المقاتلين في أثناء تخريج إحدى دورات القيادات العسكرية، وألقى خطاباً اتخذ طابعاً دينياً، وذلك في إحدى معسكرات الهيئة في مخيمات شمال سوريا في 2 شباط/ فبراير.
افتتح بئر ماء في القرى ذات الأغلبية الدرزية، ووجه رسالةً دينيةً أبرز ما جاء فيها “عدم إجبار أحد على اعتناق الإسلام”
ويحاول الجولاني تصدير نفسه على أنه القائد المقرب من الحاضنة الشعبية، والقادر على إدارة شؤونها وحل مشكلاتها، فعلى سبيل المثال، استمع إلى مطالب الأهالي وقدّم وعوداً بتلبية مطالبهم في مدينة أريحا جنوب إدلب في 21 آذار/ مارس الماضي. كما تجول في أسواق مدينة إدلب في الثاني من أيار/ مايو الماضي، واجتمع مع وجهاء مدينة إدلب بمناسبة عيد الأضحى، وتحدث عن تنظيم المؤسسات الخدمية والعسكرية وإنهاء حالة الفصائل والوضع الأمني في المنطقة في 11 تموز/ يوليو. كما زار معتقلاً أطلقت قوات النظام السوري سراحه بعد 11 عاماً من السجن في مدينة إدلب في اليوم ذاته. وزار قادة الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام في إحدى مقرّاتها شمال سوريا في 12 تموز/ يوليو.
انتقادات للظهور المتكرر
انتقد العديد من الناشطين المحليين في المنطقة ظهور الجولاني المتكرر، وعدّوا أن ما يفعله ليس إلا للترويج لنفسه، والتقرب من الحاضنة الشعبية في المنطقة، وتوجيه رسالة إلى الغرب بأنه قادر على إدارة شؤون المنطقة.
وتأتي هذه الزيارات بعد قيام حكومة الإنقاذ السورية، الذراع المدنية لـ”هيئة تحرير الشام”، خلال السنوات الماضية، باتّباع سياسة منع الحريات العامة ضمن مناطق نفوذها، من خلال قوانين وقرارات على غرار ما قام به تنظيم داعش خلال السنوات الماضية.
وقال القيادي المنشق عن تحرير الشام المحامي عصام الخطيب، في منشور له على تلغرام، إن “الجولاني بات اليوم يسابق رئيس النظام السوري بشار الأسد في كل ظهور يقوم به الأخير عبر الإعلام، كما أنه بات يمتهن الظهور الإعلامي المتكرر ويدأب عليه، إذ إن الوجهاء الذين يُجمَعون على عجل، بطلب من الجولاني، يتعرضون للتفتيش الدقيق حتى مصادرة أجهزة هواتفهم المحمولة قبيل الدخول إلى قاعة الاجتماع”.
ويلفت إلى أنه “يُستثنى من الاجتماعات التي يعقدها الجولاني مع وجهاء المنطقة، كل من يقارعه بتساؤلات كثيرة ومنطقية، ويقتصر الحضور على الأعيان الذين يصوبون أسئلتهم نحو الحديث عن وجود معركة لتحرير الشام من النظام السوري، من شأنها أن تُعيد المهجرين من تلك المناطق إليها مرةً جديدةً”.
يقول أحمد مظهر سعدو، وهو صحافي وكاتب من مدينة أريحا/إدلب لرصيف22، إن ” أبو محمد الجولاني يتابع بشكل حثيث ومدروس موضوع تمظهره على أنه القادر ليس فقط على ضبط الحالة الأمنية في محافظة إدلب وليس فقط تحقيق الثقل العسكري القوي والقادر على مواجهة النظام السوري عبر نقاط الرباط التابعة له والمنتشرة في العشرات من الثغور إن صح التعبير. بل هو اليوم يريد أن يقول برسائله المكررة والموجهة إلى المحيط الاقليمي والدول الكبرى وخاصة الاميركان انه قادر على ان يكون رجل دولة يدير حكومة بتسمية (حكومة الانقاذ) في ادلب وانه قد اشتغل جديا على القطيعة النهائية مع تنظيم القاعدة. بل هو لم يعد لديه أي مشكلة في رفع علم الثورة السورية دون التمسك براية الهيئة المعروفة .ويبدو أن هذه الرسائل قد لاقت كل الصدى لدى الغرب والأميركان منهم حيث هناك حالات من التقبل لديها لشخصية الجولاني وليس أمامها كما كان في السابق الكثير من الاعتراضات.
عموما فان هناك الكثير مما يمكن ان يحكى عن صياغات يشتغل عليها للاستقرار في الشمال السوري بالرغم من اعتراضات الروس والايرانيين والنظام السوري الذي مابرح ينتهك تفاهمات ٥ آذار/مارس ٢٠٢٠ ويلقي بقذائفه على المدنيين موقعًا المزيد من المجازر بحق الشعب السوري الذي ثار ضده منذ اواسط شهر آذار/مارس ٢٠١١ .
ولعل قادم الايام مازال غائما ولا وضوح فيه بعد انشغال الروس في الحرب ضد اوكرانيا والتفات الغرب الى سياسات تستطيع ان تؤدب بوتين المنفلت من عقاله .
وتبقى مسألة استقرار ادلب وقدرة الجولاني على الامساك بناصية السياسة والحالة المدنية بالتوازي مع العسكرة مرهونة بكثير من المتغيرات الدراماتيكية التي يشوبها الغموض وعدم الارتكان الى محددات بعينها.”
ويؤيد الباحث في شؤون الجماعات الجهادية عباس شريفة، كلام السيد أحمد مظهر سعدو، إذ يرى أن الجولاني يسعى من خلال تلك اللقاءات إلى تحقيق ثلاثة أهداف: “الأول، إيهام المجتمع المحلي بأنه الممثل الوحيد للأغلبية السنية ويحمي دولة المسلمين في سبيل شرعنة وجوده في السلطة، والثاني، التسويق لمشاريعه الاقتصادية والتجارية في محافظة إدلب، في محاولة منه لإيصال فكرة أن محافظة إدلب تعيش في نعيم مقارنةً بمناطق سيطرة المعارضة المدعومة من تركيا، أو مناطق سيطرة النظام السوري، وأنه يمكن استنساخ النموذج الذي بناه وتطبيقه في مناطق السيطرة الأخرى، والهدف الثالث إقناع المجتمع الدولي بأنه سلطة مدنية معتدلة قادرة على التعاون معهم على حكم المنطقة”.
تبرير الانتهاكات المرتكبة
ويبدو أن الزيارات التي يجريها الجولاني تهدف إلى تبرير الانتهاكات التي ترتكبها عناصر تحرير الشام في المنطقة، مستخدماً البروباغندا الإعلامية لإخراج نفسه من التصنيف على قوائم الإرهاب لدى الولايات المتحدة، إلا أن هذه السياسة فشلت، وذلك بسبب القوانين التي تطبّقها الهيئة على سكان مناطق سيطرتها في شمال غرب سوريا، والتي تعود بالفائدة عليها على حساب المدنيين.
ووصلت سياسة تحرير الشام في التضييق إلى حد التدخل في أدقّ تفاصيل حياة المواطنين، من خلال سن قوانين تتحكم من خلالها بلباسهم أو حتى قصّة شعرهم، وطريقة سيرهم في الأماكن العامة، كما تمنعهم من ممارسة أبسط حقوقهم، كإقامة الأفراح في صالات عامة، بعد أن كانت تقتصر على قمع حرّية التعبير، وملاحقة المعارضين لها في المنطقة.
وتتقاضى الهيئة مبالغ ماليةً من أصحاب المهن والمشاريع التجارية في المنطقة، وذلك تحت مسميات مختلفة، كما تقوم بمصادرة أملاك من تشاء من المواطنين الذين خرجوا من مناطق سيطرتها، عادّةً بيوتهم غنائم حرب تقوم بتوزيعها على الموالين لها، وذلك بعد توجيه التهم المختلفة إليهم.
ووثَّق تقرير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، انتهاكات “هيئة تحرير الشام”، التي مرت خمس سنوات على تأسيسها منذ 28 كانون الثاني/ يناير عام 2017، بعد إعلانها الانشقاق عن القاعدة التي كانت تعمل تحت رايتها في سوريا منذ أواخر 2011. وأحصى التقرير مقتل ما لا يقل عن 505 مدنيين على يد “تحرير الشام”، بينهم 71 طفلاً و77 امرأةً، و28 آخرون قُتلوا تحت التعذيب، بالإضافة إلى ما لا يقل عن 2،327 شخصاً لا يزالون قيد “الاحتجاز التعسفي” أو الاختفاء القسري في سجونها.
ويقول شريفة: “هيئة تحرير الشام ذات الصبغة الجهادية تبني مشروعية وجودها على القتال ضد النظام السوري، لكن وبسبب توقف المعارك وبسبب استمرار الجولاني في حكم المنطقة منذ سنوات، لجأ إلى شرعنة وجوده ووجود الهيئة من خلال الحديث عن العمل على مشاريع خدمية تعود بالنفع على المنطقة بأكملها، لكن هذا ليس سوى لعب على العقول، فمن المهم أن تكون القوانين التي تُسنّ في المنطقة تكفل حقوق المواطنين، وأن يكون الجميع متساوين في الحقوق، في ظل وجود قضاء عادل”.
تضييق على الحريات
وقامت هيئة تحرير الشام بفرض رقابتها على سكّان المنطقة وفرض الكثير من القيود عليهم، إذ شكلت في أيار/ مايو 2020، جهاز الفلاح لمنع الاختلاط في الأماكن العامة، ومنع بيع الرجال للملابس النسائية، ومنع محال الألبسة من نشر مجسمات لعرض الألبسة، ومراقبة صالات الأفراح، والألعاب، ومنع الموسيقى والتدخين، والتدخل في ملابس النساء وزينتهن، وإجبار المنظمات الإنسانية على الفصل الجندري بين موظفيها، ونشر نقاط مراقبة داخل حرم الجامعات وفي الحدائق لمنع حدوث الاختلاط.
يتكّون جهاز الفلاح من مكاتب عدة هي: مكتب الدوريات النسائية، والمحتسبون، والقوة التنفيذية، ومكتب القضاء، بالإضافة إلى مكتب الشكاوى والمتابعة
ويتكّون جهاز الفلاح من مكاتب عدة هي: مكتب الدوريات النسائية، والمحتسبون، والقوة التنفيذية، ومكتب القضاء، بالإضافة إلى مكتب الشكاوى والمتابعة. ويحظى أعضاؤه بسلطة مطلقة كاعتقال مرتكبي المخالفات الشرعية ومحاسبتهم، وتتدرج أعماله بدءاً من النصح وصولاً إلى استخدام القوة المباشرة لتطبيق شعار “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”، وفقاً لقراءة تحليلية أعدّها مركز جسور للدراسات.
يرى مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، في حديثه إلى رصيف22، أنّ “ممارسات هذه الأجهزة من تضييق على السكان في المناطق الخاضعة لسيطرتها، والتحكم بشؤون الإنسان الخاصة، والتدخل في تفاصيل الحريات الشخصية، وفقاً لمنظور أيدولوجيتها المتشددة، وفرضها بالقوة على المجتمع السوري، والاعتداء بالضرب والاعتقال وإجبار المخالف على دفع غرامة، تُعدّ انتهاكات لأبسط معايير القانون الدولي لحقوق الإنسان والذي ينص بشكلٍ واضح على حرية الحركة واللباس والتنقل”.
ويضيف: “تحاول الهيئة من خلال هذه الأجهزة ضبط المجتمع للانصياع الكامل للخط الفكريّ المعلَن في العبادات والشعائر، وضبط تحرّكات المجتمع وتوجّهاته”، مشدداً على أنه “على دول العالم مساعدة المجتمع السوري في التخلص من التنظيمات المتشددة، باتخاذ خطوات جدية وفق جدول زمني محدد وصارم لتحقيق انتقال سياسي نحو الديمقراطية يضمن الاستقرار وحقوق الإنسان”.
فرض إتاوات
ووصلت سياسة التضييق على مصادر دخل المدنيين ضمن المناطق الخاضعة لسيطرتها، إلى حد فرض الزكاة على المزارعين والتجار والصناعيين وأصحاب المحال والمشاريع الصغيرة، من دون الأخذ بعين الاعتبار الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعاني منها سكان المنطقة وغلاء الأسعار وشح المساعدات الإنسانية.
ويختلف توقيت دفع الضرائب التي تجمعها الهيئة العامة للزكاة التابعة لهيئة تحرير الشام ما بين الشهري والسنوي، أما بالنسبة إلى المزارعين فإن الدفع يكون عند موسم جني المحاصيل، سواء كانت صيفيةً أو شتويةً، بالإضافة إلى جميع أنواع الثمار والأشجار.
ويشتكي التجار والصناعيون والمزارعون في إدلب من إجبارهم على دفع الضرائب المفروضة عليهم بحجة زكاة المال، كما يتساءلون عن مصير المبالغ الكبيرة التي يتم جمعها، وما إذا كان يتم صرفها لتعود بالفائدة على المنطقة أم يتم توظيفها لتنفيذ سياستها الخاصة، وعن مدى وجود شفافية ومصداقية في توزيع هذه الأموال على العائلات المحتاجة كما تدّعي الهيئة العامة للزكاة.
وبحسب ما تقول مصادر محلية عدة لرصيف22، فإن أبرز الأمور التي تفرض عليها هيئة تحرير الشام الإتاوات، هي الزراعة في منطقة سهل الروج، والمنازل والمحال التجارية المصادَرة من قبلهم في مدينة إدلب، وأسواق السيارات، والمطاعم الخاصة، بالإضافة إلى الرسوم المالية التي تفرضها على التجارة عبر المعابر الواصلة بين مناطق سيطرتها ومناطق سيطرة “الجيش الوطني” المعارض المدعوم من أنقرة في ريف حلب.
ينتقد محمد العلي، أحد المهجرين من مدينة حلب، ما صدر عن حكومة الإنقاذ من قرارات مؤخراً، ويقول لرصيف22: “بدل أن يفرضوا الضرائب على كل شيء ويصادروا أرزاق الناس بحجج واهية، عليهم أن يلتفتوا إلى الفقراء وأهالي المخيمات، فمن واجبات أي حكومة توفير الأمن ودعم المواد الأساسية كالغذاء والدواء والتعليم والمحروقات للتخفيف عن المواطنين، وليس ملاحقتهم في وقت بحثهم عن مصدر دخل لتأمين سبل المعيشة اليومية لعائلاتهم”.
المصدر: رصيف 22