د- عبدالله تركماني
يشكل الشباب السوري حوالي 65 % من الشعب، أي نحن أمام كتلة بشرية ضخمة غير قادرة بعد على إدراك حقيقة أنها أداة التغيير الفعلي، ضائعة بين سياسة الإملاء التي ظلت تُمَارَسُ عليها طوال سنوات عديدة، وبين دورها المفترض من أجل الخروج من حالة الانسداد الحالية نحو آفاق أرحب.
إذ خلافاً لما هو سائد في جميع بلدان العالم، في ما عدا كوريا الشمالية وشبيهاتها من الأنظمة الديكتاتورية، ينحصر النشاط الشبابي السوري بالمنظمات والهيئات الرسمية المنضوية تحت لواء الحزب الواحد، المسيطر نظرياً على مسارات الحياة السياسية والثقافية، بحيث لا تجد حراكاً شبابياً منفصلاً عن الرقابة المباشرة أو غير المباشرة. من هنا كانت طموحات الأجيال الناشئة، في ظل نظام شمولي الرؤية وأحادي التنظير، مقتصرة على التوجهات العامة والتطلعات المحدودة بأطر ضيقة الأفق يشدها اليأس ويثقلها هاجس الحاضر ومسؤوليات المستقبل.
وفي الواقع تتعدد معوّقات إدراك الشباب السوري لدوره في التغيير، ويأتي في مقدمتها موروثات الإطار السياسي العام (النظام الأمني، حالة الطوارئ، محكمة أمن الدولة، غياب الحياة الحزبية السليمة، ضعف دور المعارضة)، والمنظومة التربوية، ووسائل الإعلام والوضع الثقافي، والنقابات والاتحادات، والعائلة السورية.
لقد جرى، خلال العقود الأخيرة، تقزيم الحياة السياسية، لتقوم تدريجياً على حزب واحد ولاعب واحد وسيطرة أحادية وشاملة على كل مقوّمات ونشاطات الحياة المجتمعية والمدنية والإعلامية وغيرها، دون منافسة أو رقابة على ما يجري، خاصة مع وجود المادة الثامنة من الدستور التي أكدت على أنّ ” حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للدولة والمجتمع “، وما استتبع ذلك من عمل حثيث لإلغاء كل مظاهر التنظيم السياسي والاجتماعي والثقافي المستقل في الأوساط الطلابية. وكان من نتيجة ذلك انتشار ظاهرة اللامبالاة بين صفوف الشباب السوري، مقترنة بضمور أو تلاشي مفهوم الشأن العام والمصلحة العامة.
إنّ غياب الشباب عن المشهد السياسي ما هو إلا التعبير الأكثر وضوحاً عن غياب المشهد السياسي ذاته، وقد جاءت أزمة الثمانينات من القرن المنصرم لتلغي السياسة من الساحة السورية، بحيث لم يبقَ في الميدان غير السلطة ومن يدور في فلكها. وما تقوم به السلطة من أجل تغييب السياسة عن المجتمع دونه قوانين الطوارئ ومصادرة الحريات، ومنظمات قطاعية تتولى التأطير الفكري والضبط، وتواكب المواطن الفرد وتنمط وعيه وسلوكه، تتكئ على آليات دعائية شاملة تؤازرها، عند الضرورة، أجهزة قمعية عديدة تعمل في شرايين المجتمع مراقبةً وتصنيفاً وتأديباً. وهذه العوامل مجتمعة، تعبّد طريق الرشد والصلاح للمواطن ” القاصر ” وتحشره حكماً عضواً في قالب كشفي أو نقابي أو جماهيري، أو ترفعه متطوعاً في ميليشيات السلطة، وتجعل من الذاتية مرضاً مُخجلاً خارج المألوف، ومن السؤال ملف اتهام، لتقود المجتمع الصاغر إلى ” الوطنية ” والمجاهرة بثوابتها حقائق لا يرقى إليها الشك، بحيث تلفه القناعة بتماهي القضية الوطنية والنظام، فهي ” جوهره وعلة وجوده “، وهو ” صنوها وغاية تحقيقها “، وما قائده إلا بطلها، وما شخصيته إلا أسطورتها الحية.
فعلى امتداد سنوات هيمن نمط من الأجهزة الأخطبوطية على الحياة السياسية والتعليمية والحزبية والثقافية وغيرها، بحيث تم ابتلاع المجتمع العام والمظاهر الأولية للمجتمع المدني، إضافة إلى قضم الدولة التي – والحال كذلك – أُرغمت على إخلاء الساحة لـ ” الدولة الأمنية “، مقابل ” أمن الدولة “. وجدير بالإشارة إلى أنّ الدولة الأمنية المذكورة، إذ اكتسبت شحماً ولحماً كثيفين عازلين، فإنها راحت تصوغ شعارها المركزي على النحو التالي: يجب أن يُفسَدَ من لم يُفسَدْ بعد، بحيث يصير الجميع ملوثين مدانين تحت الطلب، طبقاً لما كتبه الدكتور طيب تيزيني. وحين يتعلم الأطفال هتافات الصراخ، ويصفقون بإيقاع أجوف وشعارات لا يفهمونها، يُرجَّحُ أن يصلوا إلى إحدى حالتين: شباب مشوّه بعيد عن روح المبادرة والفعل، أو شباب يحمي نفسه بالنفاق يومياً.
إنّ الإطار السياسي، الموصوف أعلاه، أثّر في الاتجاهات السياسية والحياتية للشباب السوري، وفي نموهم الروحي والقيمي. والاتجاهات المتولدة عديدة، ويعتبر إحساس اللامبالاة وعدم الاكتراث الاتجاه السائد، وهو يتلازم مع حالة من التشظي على مستوى القناعات الفكرية والسياسية، أي حالة من الآراء والتصورات الشبابية التي لا يجمعها جامع. ويعبّر اتجاه اللامبالاة عن نفسه بأشكال عديدة: الرغبة في الهجرة، أو الرغبة في تحقيق المصالح الفردية بأية طريقة كانت. كما هناك اتجاه آخر عند الشباب يبرز في تصعيد انتمائهم للعائلة أو العشيرة أو الطائفة، أو تصعيد انتمائهم للأقليات القومية والطائفية المتناثرة في سورية، على حساب الهوية الوطنية السورية الجامعة.
ثم أنه لا يوجد فرق بين المدرسة والجامعة من حيث نهج التعليم السائد فيهما، الذي يقوم أساساً على التلقين، بما له من آثار سلبية على شخصية الأفراد، إذ يساهم ذلك في تعميق قيم الطاعة والخوف والتفكير الغيبي والأوهام والأساطير، بدلاً عن قيم التمرد والتغيير والشجاعة والتفكير العلمي. ويزيد الأمر سوءاً مع السيطرة الكلية لسلطة الدولة على المؤسسات التعليمية، بحيث تبدأ عملية تطويع الشباب على مستوى الوعي من خلال ” منظمة الطلائع ” لتلاميذ المرحلة الابتدائية، الأمر الذي يجعلهم ينتقلون بشكل غريزي نحو تقبل أشكال التطويع الأخرى. وفي المرحلة الإعدادية يُنسَّب المراهقون لاتحاد شبيبة الثورة، المنظمة الرديفة لحزب البعث، ليصبح التنسيب للحزب أمراً روتينياً في بداية المرحلة الثانوية، وفي غياب أي تقدير لطبيعة المرحلة التي يمر بها الفرد التي لا تؤهله في ذلك العمر لاتخاذ قرار بالانضمام لحزب سياسي أو تبنّي رؤية فكرية سياسية محددة.
وفي الجامعة، يُرْصَدُ الطالب منذ اللحظة الأولى، فانتسابه لها يقترن بتقديمه استمارات عديدة عن مجمل حياته وعلاقاته توزع على الفروع الأمنية، ثم يجد الاتحاد الوطني لطلبة سورية في انتظاره، الذي أصبح هو الآخر إلزامياً وتابعاً للحزب الحاكم، بالإضافة إلى دروس التدريب العسكري والمعسكرات الصيفية، لتتضافر بالتالي جهود اتحاد الطلبة ومقرات التدريب العسكري والفرق الحزبية المتناثرة في جميع الكليات لإكمال دائرة مغلقة نادراً ما يفلت منها أحد.
ومن جهة أخرى، جرى تكريس الإعلام السوري، على مدى عقود، من أجل الدعاية للسلطة والحزب الحاكم، ليتخذ – بجميع أشكاله – طابع التحشيد الذي يفتقد لأي شكل من أشكال النهوض بوعي الفرد والارتقاء بوجدانه الإنساني وحسه الوطني، وتقديم المعرفة والتنوع الخلاق والمتعة في آن واحد، الأمر الذي ساهم في تعميق حالة اللامبالاة.
أما النقابات فيتعامل الشباب معها بوصفها من مؤسسات سلطة الدولة، بل ملحقة بالحزب الحاكم، وينظرون لذلك على أنه أمر طبيعي. أما فكرة استقلاليتها عن السلطة وأجهزتها فهي لا تخطر في البال وخارجة عن تصوراتهم، بحكم سنوات الإعداد الطويلة التي تعرضوا لها قبل الانتساب إلى النقابة، وبحكم أنّ معظم الشباب السوري لا يعرف شيئاً عن آليات العمل النقابي السوية.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنّ التدخل المباشر للسلطة في العمل النقابي وتكليف النقابة بمهمات أمنية، بهدف ضبط إيقاع أعضائها وتهديدهم بوسائل عيشهم ومحاصرتهم مهنياً إن لزم الأمر، مما أفسح في المجال لظهور قيادات نقابية فاسدة زادت الأمر سوءاً، وفاقمت من ابتعاد الشباب عن نقاباتهم، التي كان يمكن لها أن تقوم بدور فاعل في حل مشكلات الشباب الخاصة بالعمل المهني والبطالة وتوفير الأجواء الاجتماعية المتناسبة معهم.
كما تزرع أغلب العائلات السورية في أفرادها مجموعة من القيم السلبية التي تؤثر في سلوكهم وشخصياتهم، إذ يتعلم الفرد منذ مرحلة الطفولة قيم الطاعة والخضوع والامتثال والخجل والمسايرة. يضاف إلى ذلك، بحكم ما تعرض له المجتمع السوري خلال العقود الأخيرة على الصعيد السياسي، أنّ العائلة السورية تقوم بنقل الخوف المتوارث لأبنائها، وتلعب دوراً داعماً لاستمرار العلاقات الاستبدادية في المجتمع بكافة تجلياتها. بل أنّ أغلب الآباء يتابعون ما بدأته السلطة بإقصاء أولادهم عن السياسة وتضييق الخناق على من يريد أن يدخل حقلها منهم، وذلك لأنهم اقتنعوا أو أقنعوا أنفسهم بأنّ السياسة شأن مفارق لشؤونهم، بل إنها ” داء خطير ” يودي بحامله إلى التهلكة.
ومما لا شك فيه أنّ الشباب السوري يختزن طاقة نضالية هائلة، وقدرة على إنتاج قيادات بسرعة قياسية، واستعداداً للتضحية لا حدود له. وقد تمكن، من خلال شعارات تتعلق بالخبز والحرية والكرامة، من إقناع فئات مختلفة من الشعب السوري بالانضمام إلى حركة التغيير، فضلاً عن لعبه دور مؤثر في الدعاية لهذا التغيير من خلال تبادل الرسائل والصور عبر ” التويتر ” و” الفيسبوك ” وبث كل ذلك إلى العالم.
وهكذا، فإنّ سورية المستقبل بحاجة ماسة إلى دولة مدنية تعمل بمقتضى دستور عادل وديمقراطي، يكون جميع المواطنين متساوين في الحقوق والواجبات دون تمييز أو تفرقة، وطن تكون العلاقة فيه بين الدولة والمجتمع أساسها المواطنة وحقوق الإنسان، والقانون العادل هو أعلى سلطة لخدمة الجميع. مما يتطلب مبادرة الشباب وسعيهم لبلورة خياراتهم ورؤاهم، ومحاولة تجديد ما هو موجود وبث الروح فيه، أو إبداع أشكال جديدة للتعبير عن أنفسهم، والمشاركة في تحسين أوضاعهم، وليكون لهم دور في بناء وطنهم، فقد يكون هذا الدور هو الأكثر أهمية والأشد حسماً في مستقبل سورية.