موفق نيربية
في أواسط أيار/مايو 2014، أعلن بان كي مون الأمين العام السابق للأمم المتحدة عن قبوله استقالة الأخضر الإبراهيمي كموفد خاص إلى سوريا، مشترك بين المنظمة الأممية والجامعة العربية. وكان ذلك نهاية للآمال بانتقال سياسي سوري، ينهي الأزمة ويلبي طموحات السوريين، من خلال عملية سياسية سلمية.
قبل ذلك بقليل، كان الإبراهيمي قد حذّر من إجراء انتخابات رئاسية في سوريا، وأكّد أن حصولها سوف ينسف مفاوضات السلام، الهادفة إلى إنهاء ثلاثة أعوام من الصراع؛ واتّهم النظام في الوقت نفسه باللجوء إلى «مناورات تسويفية» لتعطيل المفاوضات، ولم يكن من فراغ، أن بان كي مون قد أشاد بجهود الإبراهيمي وصبره الكبير في مهمته «شبه المستحيلة».
وكانت مكاتب الأمم المتحدة بمدينة جنيف يوم 30 يونيو/حزيران 2012 قد استضافت اجتماعاً لـ»مجموعة العمل من أجل سوريا»، بناءً على دعوة كوفي أنان المبعوث المشترك آنذاك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية إلى سوريا.
ضمّ الاجتماع كلا من الأمين العام للأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية، ووزراء خارجية الاتحاد الروسي وتركيا والصين وفرنسا وقطر (رئيسة لجنة جامعة الدول العربية لمتابعة الوضع في سوريا) والعراق (رئيس مؤتمر قمة جامعة الدول العربية) والكويت (رئيسة مجلس وزراء الخارجية التابع لجامعة الدول العربية)، والمملكة المتحدة وإيرلندا الشمالية والولايات المتحدة، وممثلة الاتحاد الأوروبي السامية للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، بوصفهم مجموعة العمل من أجل سوريا. أقرّ ذلك الاجتماع بياناً مفصلاً حول الأزمة، أكد ضرورة الضغط على جميع الأطراف لتطبيق خطة البنود الستة المعروفة بـ»خطة أنان» بما في ذلك وقف «عسكرة الأزمة»، مشددا على ضرورة أن يتم «الحل بطريقة سياسية، وعبر الحوار والمفاوضات فقط، الأمر الذي يتطلب تشكيل هيئة حكم انتقالية، من قبل السوريين أنفسهم، ومن الممكن أن يشارك فيها أعضاء الحكومة السورية الحالية»، ومتوقعاً أن حل الأزمة قد يحتاج إلى سنة كاملة. ذلك البيان الشهير أصبح اسمه» بيان جنيف 1» منذ ذلك الوقت.
كان الرافض الكبير لتلك التسوية هو النظام بالطبع، ولكن الرافض «الآخر» كان عملياً هو المجلسَ الوطني السوري، ممثّل المعارضة والثورة السوريّتين آنذاك. فقد انتقد المجلس ذلك البيان مباشرة في اليوم التالي لصدوره، وقال إنه «كان يأمل بتحرك أكثر جدية وفاعلية في التعامل مع النظام»، وإن ما توصّل إليه المؤتمر «يفتقر إلى آلية واضحة للعمل»، لأنه لا يتضمّن صراحة تنحّي بشار الأسد عن السلطة مع الطغمة المحيطة به». ثمّ وصف الرئيس الأسبق للمجلس آنذاك ما جرى في جنيف بأنه «مهزلة بالمعنى الحرفي للكلمة» ودعا الشعب السوري إلى «خوض معركة التحرير الشعبية والانتصار فيها». أصبح واضحاً بعدها أن هناك خللاً في جسد المعارضة السورية وغربة عن السياسة وعقلية مغامرة؛ فانصبّ الاهتمام على إعادة النظر في تركيبتها، التي تغلب عليها نسبياً الروح الانتقامية والعجز عن قبول عملية سياسية. خرجت إلى النور وقتها» المبادرة الوطنية» التي حازت دعم الأوروبيين والأمريكيين، وحتى العرب من الناحية النظرية. وتمّ تكليف الخارجية القطرية بإدارة واستضافة تأسيس «الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة»، ولكنّ تلك العملية لم تكن ناجحة على الإطلاق، لأنّها ضمّت قوى ناشئة – غير سياسية – رافضة للعملية السياسية أيضاً، وقلّصت وجود القوى الوطنية الديمقراطية – والسياسية – إلى الحدّ الأدنى.
وحين ابتدأت التحضيرات لانعقاد أولى جلسات التفاوض، ابتدأت أصوات الرفض بالتصاعد على الفور، فقد أكّد رئيس المجلس الوطني السوري – الذي انضم على مضض إلى جسم الائتلاف – في أكتوبر/ تشرين الأول 2013، على عدم مشاركة المجلس، وهدّد بالانسحاب من الائتلاف إذا قرر المشاركة، وإلى جانب ممثلي المجلس – العديد منهم- كان هناك رفض من» ممثّلي المجالس المحلية»، وهي كتلة كبيرة تمّت إضافتها في الدوحة عند تأسيس الائتلاف. بالنتيجة، قام 44 عضواً بالانسحاب عند بحث المشاركة في الهيئة العامة للائتلاف، ما يشكّل حوالي أربعين في المئة منها، ورغم كلّ تمنّيات الداعمين العلنية. وعادوا بالطبع عن انسحابهم بعد ذلك، على أمل. تلك المشاعر المشروعة بالغضب، تمّ دعمها بقوة مادية من خلال قصف النظام لغوطة دمشق بالأسلحة الكيميائية، على الرغم من محاولة سدّ الطريق على تأثيرها التخريبي للعملية السياسية، من خلال قرار مجلس الأمن رقم 2118 في سبتمبر/أيلول 2013، الخاص بالعدوان الكيميائي الذي أسفر عن أكثر من 1400 ضحية، كثير منهم أطفال ونساء وشيوخ.
كان ذلك القرار قد احتوى في معظمه التدابير المطلوبة لنزع السلاح الكيميائي من النظام، ولكنه نصّ أيضاً في مادته رقم 15 على مساءلة جميع المسؤولين عن استخدامه، واحتوى في مادته رقم 16 التبنّي التام لبيان جنيف 1، وتنفيذه» بدءا بإنشاء هيئة حكم انتقالية تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى وتُشكل على أساس التوافق». كما دعا في مادته رقم 17 إلى» عقد مؤتمر دولي بشأن سوريا ومن أجل تنفيذ بيان جنيف 30 يونيو/حزيران 2012». ولم يعد أحدٌ أبداً في مجلس الأمن، وفي النظام والمعارضة، لتظهير وتفعيل تلك المادة.
انعقد لقاء جنيف 2 في أوائل عام 2014، في أجواء احتفالية وبحضور فاعل متفائل للأخضر الإبراهيمي، وللكثير من السوريين.. ولكن تلك الأجواء ما لبثت أن تكشّفت عن حالة عجز وشلل كاملين، بفعل»استراتيجية» النظام المعلنة التي تداوم على تجنب موضوع الاجتماعات وهدفها، وتضييع الوقت في مناورات. بعد شهر تماماً من انعقاد جنيف 2، صدر كذلك قرار مجلس الأمن رقم 2139، بإجماع الأعضاء الخمسة عشر، مرة ثانية بعد القرار 2118. يتعلّق القرار الجديد بالأمور الإنسانية الخاصة بسوريا وبفكّ الحصار عن المدن والبلدات المحاصرة في حمص والغوطة ونبل والزهراء، ويدين بشدة في مادته الأولى «الانتهاكات الواسعة النطـاق لحقوق الإنسان والقـانون الإنساني الدولي من جانب السلطات السورية، فضلا عن الاعتداءات على حقوق الإنسان وانتـهاكات القانون الدولي الإنساني من قبل الجماعات، بما في ذلك جميع أشـكال العنـف الجنسي والإنساني، وجميع الانتهاكات والاعتداءات الجسيمة المرتكبة ضد الأطفال بمـا يخـالف القـانون الدولي واجـب التطبيـق، كالتجنيـد والاسـتخدام، والقتـل والتـشويه والاغتـصاب، والاعتـداء علــى المــدارس والمستشفيات، والاعتقــال التعــسفي والاحتجــاز والتعــذيب وســوء المعاملة، والاســتخدام كــدروع بــشرية، علــى النحــو المــبين في تقريــر الأمــين العــام للأمــم المتحدة عــن الأطفال والنزاع المسلح في سوريا». بحماسة صَوّتَ المندوب الصيني على ذلك القرار، ووافقت عليه روسيا أيضاً، وكان بالإجماع. إلّا أن ذلك لم يمنع استقالة الإبراهيمي بعد ذلك، خائب الرجاء من الدولتين الراعيتين اللتين كانتا قد وعدتا بمساعدته ولم تفعلا، ومن النظام في جوهر الأمر؛ ولكن أيضاً من تردّد المعارضة المتمثّلة بالائتلاف، ومشاركتها في إضافة عصيّها الخاصة، التي لا تقتصر على الرفض والاستجابة لروح التطرّف التي أخذت تزداد على الأرض، بل على شيء من التفسّخ والفساد واضطراب النظر.
انتقلت الحالة السورية من وضع مُقبِل مكافئ نسبياً للانتفاضة الشعبية، وعمليّتها السياسية، إلى مرحلة أخرى سوف تكون أكثر إثارة للخيبة والمرارة والضياع. لكنّ التدهور كان كامناً في جذر ما يجري، وعَكَسَ استبدال الابراهيمي بديمستورا ذلك التدهور!
المصدر: القدس العربي