مصطفى هاشم
في اليوم الذي يتذكر فيه العالم ضحايا الاختفاء القسري، هناك عشرات الآلاف منهم في السجون السورية وحدها، بعضهم منذ عقود، ومنهم من قضى حياته داخلها بدون علم أحد، في حين تأمل بعض العائلات أن يكون أبناؤهم على قيد الحياة.
وبحسب الأمم المتحدة، فإنه “يكثر استخدام الاختفاء القسري أسلوبا استراتيجيا لبث الرعب داخل المجتمع. فالشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي، بل كذلك يصيب مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل”.
تاريخ قديم
وفي سوريا، فإن ارتباط الإخفاء القسري بالاعتقال السياسي، “قديم قدم حزب البعث، منذ سبعينيات القرن الماضي، وهو جزء من الذاكرة السورية ومعاناتها مع حكم سلطوي”، بحسب مدير المركز السوري للمساءلة والعدالة، في واشنطن، محمد العبدالله الذي تحدث لموقع “الحرة”، مشيرا إلى أن هناك آلاف المفقودين منذ حقبة الثمانينيات أي قبل تسلم بشار الأسد السلطة في البلاد.
مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، رامي عبد الرحمن، يشرح لموقع “الحرة” قصة أحد المتعاملين مع المرصد تم الإفراج عنه في شهر مايو الماضي، من خلال دفع رشاوى، ويقول: “أبلَغَنا بعد خروجه من سجن عدرا بأنه كان معه أردنيين فلسطينيين، أحدهم معتقل منذ عام 1981 من دون أي محاكمة، وآخر منذ عام 1998″، مشيرا إلى أن بعض المعتقلين، “لا أحد يسأل عنهم، لأن أهاليهم ماتوا”.
أرقام وإحصائيات
وتشير إحصائيات المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى تسجيل 121 حالة اختفاء قسري فقط في النصف الأول من العام الحالي، و792 حالة اعتقال تعسفي من قبل مختلف الأطراف المتحاربة.
وتتداول وسائل إعلام سورية أرقاما تقديرية لعدد المعتقلين والمختفين قسريا بأنها ما بين 100 إلى 130 ألفا، “لكنها محض أرقام تقديرية وليست دقيقة لأسباب كثيرة، منها عدم تجاوب الحكومة عن عدد المعتقلين لديها، كما أنه غير معروف من هم ومن قضى خلال المعارك، ومن تم اعتقاله ومن تم إعدامه ومن تم تصفيته”، بحسب العبدالله.
ويقول العبدالله: “هناك حالات اعتقال يتم الإفراج عنها لكن العائلات لا تخبر بها وتتستر عنها لأنه يتم الإفراج عنها ضمن مقابل مادي أو رشوة لمسؤولين فتخشى العائلة إعادة اعتقال الشخص إذا تم الإفصاح عن الإفراج عنه، لكن العدد مقدر بعشرات الآلاف من المختفين قسريا”.
وأصدر بشار الأسد، في بداية مايو الماضي، مرسوما تشريعيا يقضي بمنح “عفو عام عن الجرائم الإرهابية المرتكبة من السوريين قبل تاريخ الثلاثين من أبريل لهذا العام عدا التي أفضت إلى موت إنسان”.
ويقول عبد الرحمن لموقع “الحرة” إنه “كان من بين من خرجوا ضمن العفو الرئاسي، سوريون تم إخفائهم قسريا منذ أكثر من عام، وبعضهم دفعوا أموالا ورشاوى حتى يخرجوا، وصل الأمر إلى سبعة آلاف دولار عبر سماسرة وضباط”.
مصير المفقودين
تتوزع حالات الإختفاء القسري ما بين الفصائل المسلحة المختلفة وما بين النظام السوري، “فعندما يعتقل النظام شخصا لأسباب سياسية، لا أحد في الغالب يعرف أين تم أخذ هذا المعتقل، أما الفصائل فيتم التعرف أين تم أخذ هذا المعتقل، لأن كل فصيل يسيطر على منطقة جغرافية معينة، ولذلك في هذه الحالة الأخيرة يتم التعرف على من قام بالاعتقال بعد عدة أيام، لكن من يعتقله النظام يصعب تعقب مكانه”، بحسب عبد الرحمن لموقع “الحرة”.
ويقول: “في أحدى المرات اندلع احتجاج من قبل الأهالي في سجن في عفرين تسيطر عليه فصائل موالية لتركيا على سبيل المثال، تم اكتشاف أن هناك 13 امرأة معتقلات داخل هذا السجن منهم اثنتان من الأكراد لم يكن أحد يعلم بوجودهن، وهذا عند الفصائل، فما بالك بالنظام الذي لديه مئات السجون وأجهزة أمنية مختلفة”.
ويحكي عبد الرحمن أيضا عن شاب صديق له في الساحل السوري، “اعتقلته أجهزة أمنية تابعة للنظام منذ عدة أيام، لمدة ساعات فقط، لكنه رجع وجسمه كله صار أسودا من كثرة الضرب والتعذيب”.
وأضاف: “وقبل خروجه أعاد التأكيد للضباط بأنه لم يفعل شيئا، بأخبروه بأنهم يعلموا بأنه لم يفعل شيئا ولكن “عشان ما تفكر تعمل شيء”، فما بالك بمن هم مختفون قسريا منذ 2011”.
“الحلقة الأصعب”
مصير المفقودين هو “الحلقة الأصعب”، بحسب وصف العبدالله، مشيرا إلى أنه عندما تم تسريب صور قيصر المصور في الشرطة العسكرية الذي انشق عن عمله بالجيش السوري، وأظهر حالات إعدام لآلاف المعتقلين السوريين، “أصبح معروفا أن من تم اعتقاله وانتهى بفقدان قسري أو إخفاء قسري، قسم من هؤلاء تم إعدامهم وتصفيتهم داخل السجون”، موضحا أن “هذا أحد الأسباب التي تدفع النظام السوري لعدم الإفراج عن جميع السجناء والإعلان أنه ليس لديه سجناء اليوم، لأن ذلك سيفصح عن عدد المعدمين والمقتولين تحت التعذيب داخل السجون لذلك يبقي الموضوع غائما وضبابيا بهذه الطريقة”.
بل إن هناك عائلات مفقودين كانت قد اقتنعت بموت ذويهم داخل السجون، “لكنهم فوجئوا بالعفو الرئاسي الأخير، حيث أن مصير المفقودين غير معلوم لكنه غير إيجابي، لأن معظم حالات الاعتقال السياسي تنتهي بمفقودين وهؤلاء إن تم الإفراج عنهم، يحدث ذلك بعد سنوات مديدة من الاعتقال، لكن حالات كثيرة منها تنتهي مع الأسف بالموت أو التصفية أو أحكام إعدام ميدانية بمحاكمات سرية داخل السجون”.
“الجهود الدولية منعدمة”
يرى عبد الرحمن أن “الجهد الدولي منعدم، ولا يوجد جهد دولي حقيقي في إطار محاولة وقف ملف الإخفاء التعسفي”، واصفا بأنها “جهود إعلامية لا أكثر ولا أقل”.
ويعتبر العبدالله أن “المنظمات والمجتمع المدني في مأزق في موضوع المفقودين، لأن الأمر يتطلب دورا للحكومة السورية وإشراكها بالحل، لكن النظام السوري يرفض أن يكون جزءا من الحل، لأنه أساس المشكلة، ولأن أي حل بأي صيغة سيؤدي إلى كشف أعداد الذين تم تصفيتهم تحت التعذيب أو تم إعدامهم”.
وبما أن النظام السوري غير متعاون في هذا الملف، فإن “دور المنظمات غير الحكومية يقتصر على توثيق حالات الإخفاء القسري والمفقودين من الخارج لأن وصولها ليس مطلقا، كما أن هناك حالات احتفاء قسري في الريف وعائلاتهم ليس لديها اتصال بالإنترنت أساسا، فضلا عن أن عامل الخوف يدفع الكثير من الأهالي إلى عدم التجاوب مع المنظمات الحقوقية، ولذلك هناك أسباب كثيرة تجعل دور المنظمات محدودا، رغم أن هناك محاولات للضغط والمناصرة والمطالبة من المجتمع الدولي بالتحرك، لكن المجتمع الدولي ليس لديه الحلول”.
لكن نانسي سودربيرغ، وهي سفيرة سابقة لدى الأمم المتحدة، قالت في مقابلة مع قناة “الحرة”، الثلاثاء، بمناسبة اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، بأنه “يجب ملاحقة المسؤولين في الدول التي تحتجز الناس ويرتكبون جرائم فظيعة، لأن جريمة الإختفاء القسري لا يمكن التسامح معها”.
وأكدت أن “القدرة الدولية يجب أن تتطور لتعقب مسار الاختفاء، والأمم المتحدة وبعض الدول يمكنها أن تفعل المزيد، فعلى سبيل المثال يمكن استخدام أقمار صناعية للعمل على هذا الملف”.
ووفقا للإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 133/47 في 18 ديسمبر 1992 بوصفه مجموعة مبادئ واجبة التطبيق على جميع الدول، فإن الاختفاء القسري يحدث عند: “القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغما عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون”.
وسائل ضغط
ويقول العبدالله إن “هناك حاليا دراسة يتم إعدادها ضمن الأمم المتحدة حول فكرة إنشاء آلية دولية خاصة لكشف مصير المفقودين في سوريا، وكان من المفترض أن يتم نشرها الثلاثاء، لكنها لم تصدر حتى الآن”.
وأضاف أن “هذه الدراسة قد تكشف عن بعض الأفكار المتداولة ضمن الأمم المتحدة للتعامل مع هذا الملف، لكن أي آلية تعمل على المفقودين لا تستطيع الوصول إلى داخل السجون في سوريا أو معلومات من داخل أجهزة الأمن سيكون دورها شبيه بدور المنظمات، وهو مناصرة أو مطالبات بالإفراج ولن تؤدي إلى نتيجة عملية واقعية ملموسة”.
وتابع أن “هناك أفكارا مثل الضغط على دول متحالفة مع نظام بشار، فمثلا كان هناك توقع لدور روسي بوساطة من المجتمع الدولي، لكن بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، عاد الموضوع إلى الأدراج، لأنه ليس هناك دولة غربية ستتواصل مع روسيا بموضوع المفقودين في سوريا طالما استمرت الحرب في أوكرانيا”.
يقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان وجود نحو 200 ألف مفقود في سوريا، نصفهم تقريبا في سجون النظام.
يقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان وجود نحو 200 ألف مفقود في سوريا، نصفهم تقريبا في سجون النظام.
هناك أيضا بعض الأفكار لطرح الموضوع مع جامعة الدول العربية ومطالبة بعض الدول العربية الحليفة لدمشق بأن تتوسط بالموضوع، خاصة أن هناك معلومات عن أن العفو الرئاسي الأخير كان بمطالبة إماراتية على اعتبار أن هذا العفو قد يسهل إعادة سوريا للجامعة العربية، لكن العفو الأخير أفرج عن حوالي 500 شخص من عشرات الآلاف لذلك لم يقدم حلا عمليا للأزمة”.
وحذر المرصد السوري لحقوق الإنسان من محاولة نظام بشار الأسد، تلميع صورته عبر إصدار قانون العفو الأخير، ومحاولته التهرب من الانتهاكات الخطيرة التي ارتكبها في سجونه منذ 2011 خاصة أمام توالي التقارير الدولية وضغط المنظمات الإنسانية والحقوقية بخصوص ملف التعذيب والتجاوزات الخطيرة لحقوق الإنسان في السجون والمعتقلات.
وتشير إحصائيات المرصد السوري إلى مقتل أكثر من 105 آلاف معتقل تحت التعذيب داخل سجون نظام بشار الأسد منذ انطلاقة الثورة السورية في العام 2011.
ويشدد مدير المرصد، رامي عبد الرحمن، في حديثه مع موقع “الحرة” على أنه يجب أن يكون هناك إجماع على رفض أن يكون ملف المعتقلين على طاولة المفاوضات، وأنه يجب أن يكون فوق كل مفاوضات وليس ملف تفاوض.
وقال: “يجب أن يكون الإفراج عن المعتقلين والكشف عن مصير المختفين قسريا، شرطا لبدء التفاوض من الأساس”.
المصدر: الحرة. نت