د- محمد مروان الخطيب
يعيش في شمال سورية أكثر من ثمانية ملايين نسمة من المقيمين والنازحين، معظمهم بحاجة إلى العناية الصحية من مختلف الجوانب، إلا أنه نتيجة تدهور الظروف الاقتصادية، ونقص الكوادر الطبية وقلة خبرتهم، وعدم الاستقرار الأمني في كثير من المناطق، ووجود عدد كبير من مخيمات النازحين في المنطقة، حيث تشير تقارير برامج تقييم الاحتياجات الإنسانية العائد للأمم المتحدة (HNAP) أن 55 % من الأسر في هذه المناطق تضم فرداً عاجزاً، ويمكننا في ظروف هذه المناطق تقدير مدى الصعوبة والمشقة التي قد يلاقيها النساء والفتيات خصوصاً لتلقي الخدمات الطبية وكذلك ذوي الاحتياجات الخاصة، في ظل تكاليف التنقلات بين المناطق التي غدت مكلفة بشكل ملحوظ.
فبعد هذه السنوات من الأحداث، غدا معظم السوريين بحاجة ماسة إلى العناية الصحية بمختلف جوانبها، إذ يعاني سوري واحد من بين 30 سورياً من حالة صحية نفسية وخيمة، نتيجة التعرض طويل الأمد للعنف. كما تشير التقديرات إلى أن العدد الإجمالي للأشخاص ذوي الإعاقات بأنواعها المختلفة 2,9 ملايين شخص، منهم 1,5 ملايين شخص مصاب بإصابات نتيجة الحروب. وهم يعانون من أوضاع أكثر ضرراً في الحصول على خدمات للرعاية الصحية مطلوبة بشدة. هذا دون الحديث عن الأمراض المزمنة كالسرطان وغسيل الكلى وغيرها من الأمراض التي تثقل كاهل الجميع، ونظراً لكون حوالي نصف الخدمات الصحية تقوم بها منظمات دولية أو محلية بما يعادل 40 -45% من مجمل المرافق الصحية، إلا أن الاعتماد شبه التام على المنظمات الدولية في إدارة المرافق الصحية ينبئ بصعوبات جمة في هذا القطاع، إذ أن عملها واستمراريتها متوقف على الدعم الخارجي بالدرجة الأولى والمنح التي قد لا تكون دائمة أو تتباين كماً من فترة لأخرى.
وقد كانت للظروف التي عانت منها العديد من المناطق الثائرة إضافة إلى تردي الخدمات الطبية فيها، العامل الرئيس لعودة العديد من الأمراض التي كانت قد اختفت أو تضاءلت بسبب النهضة العلمية في مجال الطب خلال السنوات الأخيرة، وأبرزها الأمراض السارية كالسلّ، والأمراض المستوطنة البيئية كالليشمانيا، والملاريا، والتهاب السحايا، والتهاب الكبد. وخاصة في المناطق التي تعرضت للحصار والحملات العسكرية والتي واجه سكانها نقصاً حاداً في الغذاء، وتعرضوا للتسمم بمواد جرثومية وكيماوية بشكل مباشر أو عبر المحاصيل التي تشرّبت جذورها هذه المواد، الأمر الذي شكّل خطراً على السكان الذين اضطروا لتناول أي شيء دون اعتبار للأضرار المترتبة عليه وبالإضافة إلى هذه الأمراض، مما أدى إلى زيادة نسبة المصابين بالسرطانات بشكل كبير، فبحسب منظمة الصحة العالمية تحل سورية حالياً بالمركز الخامس في منطقة غرب آسيا بإصابات السرطان. كما كان لتلوث البيئة وغياب نمط الحياة السليم الدورٌ الكبيرٌ في زيادة حالات التشوهات الخلقية وحالات الإجهاض والولادة المبكرة، التي تعاني منها النساء في سورية مؤخراً، حيث ارتفعت نسبة التشوهات الخلقية 3% خلال السنوات الخمس الأخيرة.
توصيات الأمم المتحدة تقول: أنه ينبغي أن يكون لكل 10000 نسمة 22 كادر صحي ما بين الأطباء والممرضين، وفقًا لهذه التوصية تبدو المنطقة في أزمة حقيقة، حيث أن الكثير من النقاط الطبية والمستوصفات لا تحتوي على طبيب إختصاصي، فقط ممرضون متمرسون يقومون بأدوار الأطباء في الحالات الإسعافية والمعاينات الطبية، أي أن العدد أدنى بكثير من توصيات الأمم المتحدة ولو بضم العاملين في القطاع الصحي الخاص. ويعود نقص الكادر الطبي إلى عدة أسباب، أهمها الهجرة لخارج البلد، كما تضم المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة 23 مستشفى خاصاً، لكنها تأتي في المرتبة الثانية من حيث إقبال المرضى، والخدمات المقدمة. إلا أنه في الشهر الأول من هذا العام، واجهت المشافي في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية أزمة دعم كبيرة من المانحين الدوليين، ما أدى إلى تراجع أعمالها والخدمات التي تقدمها للسكان في هذه المناطق.
وبالإضافة لانقطاع الدعم عن هذ القطاع الحيوي، فإن الشمال السوري يتعرض مراراً وتكراراً لهجمات من روسيا وعصابات الأسد، ما يفاقم معاناة الأهالي والطواقم الطبية، إذ تعرضت المشافي خلال سنوات الثورة لخسائر كبيرة، ووثقت منظمة الصحة العالمية 337 هجوماً على مرافق طبية في شمال غرب سورية بين عامي 2016 و2019، وأكدت أن نصف المنشآت الطبية البالغ عددها 550 منشأةً في المنطقة باتت خارج الخدمة، وأوضحت “لجنة الإنقاذ الدولية (IRC)” أن نحو 70% من العاملين في القطاع الصحي غادروا البلاد، وباتت النسبة اليوم طبيباً واحداً لكل 10 آلاف نسمة، ويضطر الكثير من العاملين في القطاع الطبي إلى العمل أكثر من 80 ساعة أسبوعياً.
إلا أن أخطر ما يحدث في هذه المناطق هو التخريب الذي تتعرض له معدلات التغطية التطعيمية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن طفل واحد من بين ثلاثة أطفال فاتته التطعيمات المنقذة للحياة وقد بدأت منظمة الصحة العالمية وشركاؤها أنشطة التطعيم التكميلي في عام 2017، ووصلت إلى 2,5 ملايين طفل (تتراوح أعمارهم بين 0 و59 شهراً) بـ 3 جرعات من لقاح شلل الأطفال وتطعيم 5 ملايين طفل (تتراوح أعمارهم بين 6 أشهر و12 عاماً) ضد الحصبة. وتم تطعيم 2,4 ملايين طفل تقريباً من خلال أنشطة التطعيم عبر الحدود.
وفي ظل توقف منظمات إنسانية وإغاثية دعمها لبعض المستشفيات العاملة في هذه المناطق، وسط ما يعانيه القطاع الصحي من شح الإمكانيات وقلة الدعم. حيث أن المشكلة الأساسية هي عدم وجود دعم مستدام للقطاع الصحي، في ظل عدم وجود جهة رسمية معترف بها دولياً، وأغلب الدعم المقدم هو عبارة عن منح من قبل المانحين الدوليين عن طريق المنظمات الإنسانية العاملة في المنطقة، وهو ما لا تستطيع حكومتا “الإنقاذ والمؤقتة” الحصول عليه بسهولة، لأنهما جسمان غير معترف بشرعيتهما دولياً. مما يبرز الحاجة إلى تفعيل جسم سياسي معبر عن الحاضنة الشعبية للثورة يفرض نفسه على الساحة الإقليمية والدولية ويجسد المشروع الوطني في الإدارة الرشيدة للمناطق الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد.
المصدر: إشراق