تتمتع واشنطن بنوع من التأثير العالمي غير المسبوق الذي يحتاجه العديد من الحلفاء والشركاء لتعزيز أمنهم، وينطبق هذا المبدأ على منطقة البحر الأسود التي تشمل البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، وهي مساحة جغرافية ذات أهمية استراتيجية حيوية للولايات المتحدة وحلفائها في “الناتو”، ومع ذلك تراجع انخراط واشنطن فيها خلال العقود الأخيرة.
كانت نتائج ذلك متوقعة؛ فقد اجتمعت عدوانية روسيا والنفوذ الصيني المتزايد والانتهازية الإيرانية لتخلق بيئة من عدم الاستقرار غير المسبوق في خاصرة أوروبا الجنوبية الشرقية.
ولم يكن هذا هو الحال دائمًا. ويمكن اعتبار حقبة ما بعد الحرب الباردة “العصر الذهبي” لانخراط الولايات المتحدة في البحر الأسود، عندما شمل دعم واشنطن للدول السوفيتية السابقة والمستقلة حديثًا تعزيز الانتقال الديمقراطي، ومنع انتشار الأسلحة النووية، ونزع العسكرة، وإصلاحات السوق الحرة.
وربما كان التجلي الأكثر فاعلية لتصميم الولايات المتحدة خلال هذه الفترة هو مساعدة أذربيجان (وهي منتج إقليمي رئيسي للنفط والغاز) لتصبح مستقلة عن البنية التحتية للطاقة الروسية من خلال تسهيل “ممر الغاز الجنوبي” وخط أنابيب نفط “باكو تيبليس-جيهان”، وهي الخطوط التي أمدت أوروبا بالنفط والغاز غير الروسي مع السماح باستفادة أذربيجان ودول العبور (جورجيا وتركيا).
لكن هذه الأيام ولت وتراجع الانخراط الأمريكي في هذه المنطقة، وقال دبلوماسي متقاعد من المنطقة إن الولايات المتحدة أصبحت الآن “غير مرئية” في البحر الأسود، وقد عبر قادة وخبراء إقليميون آخرون عن الرأي ذاته.
ويمكن القول إن انصراف واشنطن عن هذه المنطقة بدأ بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول. وبغض النظر عن دوافع وقيود السياسة الأمريكية، كان من الممكن ردع الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” عن مغامرته الأخيرة في أوكرانيا، إذا كانت هناك مقاومة أمريكية أقوى لغزو روسيا لجورجيا ولضم القرم غير القانوني في عام 2014.
فراغ تملؤه قوى أخرى
كانت نتيجة ذلك أن منطقة البحر الأسود أضحت فراغًا شجع روسيا والصين وإيران على التقدم لملئه، وفي حين أن الهيمنة التاريخية لروسيا راسخة هناك بشكل أعمق، فإن مبادرة الحزام والطريق الصينية قادرة على تحدي مكانة موسكو هناك.
وبالرغم أن إيران هي الأضعف بين الثلاثة، فإن لديها وسائل علنية وسرية للعب دور أكبر على حساب الولايات المتحدة والأمن الإقليمي الأوسع. ويؤدي ذلك كله إلى تآكل دور واشنطن الطويل كضامن أساسي لأمن أوروبا.
ومع ذلك، فإن غزو روسيا لأوكرانيا اليوم يمثل فرصة لواشنطن لإعادة توجيه تركيزها نحو المنطقة وإعادة الانخراط فيها. على سبيل المثال، ستحتاج أوكرانيا بعد الحرب لإعادة إعمار، في حين أن دول أوروبا الشرقية الأخرى التي هزها الغزو الروسي ستنفق الكثير على الدفاع والبنية التحتية ذات الصلة.
ويجب أن تشمل القيادة الأمريكية استخدام كل من القوة الناعمة والصلبة؛ وتتمثل هذه الأخيرة في شكل مبيعات الأسلحة والتدريبات المشتركة والتبادلات العسكرية، أما القوة الناعمة فعن طريق العقوبات الأقوى ضد روسيا وكذلك المشاريع التجارية مع دول البحر الأسود. ويمكن أن تشمل هذه المشاريع قروض وخطوط ائتمان لإعادة بناء وتوسيع وتعزيز البنية التحتية.
لا إعادة انخراط بدون تركيا
تحتاج الولايات المتحدة إلى تعاون تركي ضمني لنجاح مساعي إعادة الانخراط في منطقة البحر الأسود. ويتطلب ذلك من واشنطن إصلاح العلاقات المتوترة مع أنقرة.
وتتعدد أسباب التوتر في العلاقات التركية الأمريكية، ولكن يأتي على رأسها إحباط تركيا من الدعم الأمريكي لـ”وحدات حماية الشعب” الكردية، بالإضافة إلى العقوبات الأمريكية ضد تركيا بعد شرائها منظومة الدفاع الجوية الروسية “S-400”.
وأدى استحواذ أنقرة على “S-400” إلى طردها من برنامج الطائرات المقاتلة “F-35 “، في حين أن التردد الأمريكي في بيع وترقية طائرات “F-16” لتركيا ألهب المزيد من التوترات. من جانبها، تشعر واشنطن بالقلق من جنوح تركيا بعيدا عن الديمقراطية وعملياتها في سوريا ضد “وحدات حماية الشعب” الكردية.
ولإنجاح جهود التقارب بين تركيا والولايات المتحدة، يجب التركيز على مجالات الاهتمام المشترك، لا سيما الاستقرار الإقليمي وأدوار كل من الدولتين في تأمينه. ويجب أن توضح واشنطن أن إعادة الانخراط في البحر الأسود ستخدم تطلعات تركيا الإقليمية، ولا يجب أن يُنظر إليها على أنها تتحداها.
وعززت حرب أوكرانيا أهمية تركيا الجيواستراتيجية حيث عادت أنقرة إلى الظهور كموازنة طبيعية للنفوذ الروسي في المنطقة. ويتمثل حجر الزاوية في هذه الديناميكية في مشاركة تركيا المستمرة مع الناتو.
وإذا تم تضمين تركيا بقوة في الناتو وعملت مع الولايات المتحدة كوسيط صادق؛ فسيكون هذا أمرا حيويا للاستقرار الإقليمي طويل الأجل. في نهاية المطاف، يجب أن يدرك الطرفان أن أياً من الجانبين لن يحصل على ما يريده بالضبط وعليهما المضي قدما فيما يمكنهما تأمينه.
وإذا تصاعد الضغط على منطقة البحر الأسود من قبل روسيا والصين وإيران؛ فلن يؤدي هذا إلا إلى زيادة عدم الاستقرار في جنوب شرق أوروبا، مما يهدد أهداف واشنطن الاستراتيجية.
كان الدعم الأمريكي لأوكرانيا إيجابيا، لكنه كان بطيئا ولا يزال أقل مما تحتاجه كييف، والآن بعد أن أظهرت أوكرانيا قدرة على مقاومة القوات الروسية، ينبغي تسريع وتعزيز المساعدات العسكرية والاقتصادية.
ويجب أن يكون الدعم الأمريكي لأوكرانيا في إطار الزخم نحو مشاركة إقليمية أكبر، ويجب أن تدرك واشنطن أن إعادة توجيه الانتباه إلى منطقة المحيط الهادي الهندي لا يمكن إنجازها على حساب علاقتها التقليدية عبر الأطلسي.
منذ نحو عقدين، لم يكن لدى الولايات المتحدة رؤية إقليمية طويلة الأجل في منطقة البحر الأسود، لكن يجب أن تستيقظ الآن وتواجه التحدي.
المصدر: الخليج الجديد