حتى تاريخ 25 آذار من العام 2011، لم يكن لـ وفا مصطفى ارتباط في سوريا سوى بالأوراق الرسمية والجغرافية، بل ولدت وتربّت وعاشت على أن انتماءها لفلسطين ولا حاجة لهوية أي بلد آخر، إلا أن مشاركتها في مظاهرة سوق الحميدية بذلك التاريخ، “كبست الزر”، وصنعت أول علاقة لها مع سوريا.
وفا علي مصطفى، صحفية وناشطة سورية، ولدت في بلدة مصياف بريف حماة، وعاشت أولى سنوات حياتها في مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين جنوبي العاصمة دمشق، ومع اندلاع الثورة السورية واعتقال والدها المعروف في المخيم باسم “أبي صامد”، غادرت مع والدتها وشقيقتها إلى ألمانيا كلاجئة، وهي الآن تحصي الأيام بانتظار معرفة مصير أبيها، وتحلم بالسفر إلى فلسطين والعمل كمراسلة حربية هناك.
حالة وفا ليست خاصة، بل هي حال شريحة واسعة من السوريين، ممن كانت فلسطين أساس حياتهم وانتمائهم الأول وهدفهم الأخير، واستطاعت وفا مصطفى، في لقائها الأخير مع أحمد بيقاوي على “بودكاست تقارب”، أن ترسم صورة حية بتفاصيل وفيرة وحقيقية عن فلسطينيي سوريا، الذين يرون في هذا الانتماء أعقد بكثير من ثنائية سوريا وفلسطين.
وكالة أنباء “وفا”
لا تعرف وفا على وجه التحديد السبب الذي دفع والدها إلى تسميتها بهذا الاسم، لكنه كان يؤكد لها دائماً “اسمك وفا وليس وفاء.. على اسم وكالة أنباء فلسطين”، لكنها تعتبر أن هذا الاسم شكّل أول حجر في بناء هويتها.
تقول وفا إن تواصلها البصري بدأ منذ طفولتها من منزل عائلتها والشوارع والناس في مخيم اليرموك، نحو فلسطين التي شكّلت بذور معرفتها ووعيها الأول، فيما لم يكن منزل العائلة يضم أي رموز لها علاقة بسوريا، فمحتوياته من الرموز كانت عبارة عن خريطة فلسطين، ولوحة كبيرة للأقصى، وأشرطة كاسيت فرقة “العاشقين”، وصور “أبي صامد” عندما كان مقاتلاً مع الفدائيين على الجبهة في لبنان، إبان الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982.
تصرُّ وفا على عدم تعريفها كلاجئة، ولا ترى اللجوء هوية بالنسبة لها، وتؤكد على أن هذا الإصرار موجود بسياق السوريين الذين يعيشون في أوروبا، وفي سياق العنصرية في المجتمعات الأوروبية من السوريين والخوف منهم، كما هو موجود أيضاً في سياق الاندماج.
وترى وفا أن الآخرين، بما فيهم المجتمع الغربي، يستخدمون هوية اللاجئين لتعريفهم، وهذا خاطئ تماماً بالنسبة لها، وتشدد على أن اللجوء “هو جزء من التجربة وليس جزءاً من الهوية”.
الهوية المركبة والقضية المحلية
يصف أحمد بيقاوي فلسطين لدى شريحة من السوريين بأنها “قضية محلية”، في محاولة لفك “معضلة الهوية المركبة والمتشابكة” لدى هذه الشريحة، ويسأل وفا إن كانت فلسطينية أم سورية، لكنها لا تحب هذا السؤال، وتعتبر أن القصة أعقد من ذلك.
تؤكد وفا على أنها تتصرف بشكل “عضوي وعفوي” على أن انتماءها لفلسطين، هكذا تربت وهكذا خاضت تجاربها الأولى، بما فيها المدرسة والجامعة، ولم يكن لديها أي انتماء سوى لفلسطين، ولم يكن يعنيها في سوريا شيء، فليس هناك حاجة إلى الانتماء إلى بلد آخر.
في بعض الأحيان، لا يأخذ الانتماء إلى فلسطين كثيراً من التفكير كما تقول، فهو تلقائي وجزء من الهوية، فعلى سبيل المثال أطلق عمها أسماء (جنين ورفح وبيسان) على بناته، ووالدها أطلق عليها اسم وفا، وترى ذلك على أنه “جزء من إثبات الولاء لفلسطين وقضيتها، كما أنه جزء من الاقتراب وإظهار الهوية التي تمثل صاحبها”.
تشير وفا إلى أن المرة الأولى التي شعرت فيها أن سوريا تعنيها كانت مع انطلاق الثورة السورية، وسماع شعارات الحرية في المظاهرات التي شاركت فيها، وهناك أدركت وفا أنها تنتمي لسوريا ولهؤلاء الناس الذين يهتفون لحريتها وكرامتها، وتؤكد على أن الانتماء لسوريا لم يؤثر على علاقتها مع فلسطين أو الانتماء إليها.
فلسطين “المشكلة”
شاركت وفا في مظاهرة نظمها ناشطون سوريون أمام السفارة الليبية مع اندلاع الثورة هناك. كانت تقف في الصف الأول مع نساء أخريات، حينها لاحظ ضابط الأمن خريطة فلسطين في القلادة على رقبتها، حينها اقترب منها ولطمها على وجهها وخاطبها مستنكراً “يا فلسطينية يا كلبة.. أنتي شو دخلك بشؤون سورية؟”.
تؤكد وفا أن النظرة لدى الكثيرين بأن اللاجئين الفلسطينيين في سوريا كانوا “معزوزين” لدى نظام الأسد هي خاطئة وغير صحيحة، وتشير إلى الحادثة أمام السفارة الليبية بالقول “إذا كنتُ فلسطينية، فإذن ليس من حقي أن يكون لي رأي أعبر عنه وأجاهر به، أو أن أمارس السياسية أو حتى أن أكون في جانب سياسي”.
وتعتبر أن هذه الحادثة توضح العقلية الأمنية التي كانت تُمارس تجاه الفلسطينيين في سوريا، الأمر الذي أثبته لاحقاً تدمير مخيم اليرموك وحصار أهله، وتشير إلى أنها حرصت لاحقاً على عدم استخدام أي رموز خلال نشاطها المعارض للنظام، أولاً لأن ذلك مطلوب حتى لا يتم التعرف عليها، وثانياً لأنها أرادت أن تشارك وفق انتمائها السوري، الذي اكتشفته مؤخراً.
تقول وفا إنه خلال وجودها في ألمانيا، أدركت وتعلمت معنى أن يكون شخص ما منتمياً لفلسطين في بلد مثل سوريا.
جغرافيا فلسطين في مصياف
منذ الرابعة عشر من عمرها، تحلم وفا أن تصبح مراسلة حربية في فلسطين، ولذلك درست الصحافة في سوريا، إلا أن معارضتها للنظام واعتقالها وفصلها من الجامعة حرمها من إكمال دراستها، لكن الحلم الآن ليس ببعيد عن التحقيق.
قد تُسنح الفرص لوفا أن تزور فلسطين، بعد أن تحصل على الجنسية الألمانية وتحمل جواز سفرها، عندها ستزور غزة ورام الله، لكنها ستشعر بالغصة لأنها ستزور فلسطين من دون أبيها.
تقول وفا إن سنوات حياتها في مخيم اليرموك وحتى في بلدتها مصياف، كانت “جغرافيا فلسطين المتخيلة”، وهذا ما صنعه والده ومن هم في جيله، ليصنعوا لأبنائهم أحلاماً لا تُنسى عن فلسطين.
لكن وفا تؤكد على أنه، مع أن زيارة فلسطين أصبحت اليوم أقرب، إلا أن الأمر أصبح “أكثر قسوة وصعوبة”، وبدل أن أفكر بزيارة فلسطين، أتساءل: إلى أين سأذهب؟ وماذا سأفعل إذا ذهبت؟
عوائل المعتقلين ليسوا ديكوراً للمشهد السياسي
عادة ما يتم تعريف وفا على أنها ابنة معتقل سياسي، مضى على اعتقاله أكثر من 9 سنوات دون أن يعرف مصيره، لكن وفا صحفية وناشطة، وتعمل بشكل مركز على قضية الاعتقال والاختفاء القسري في سوريا
تقول إنه عند تعريفها كابنة معتقل ينزع عنها صفات وسياقات معينة، ويتم حصرها في صفة “ابنة المعتقل”، والتي هي جزء من تجربتها وليس كلها، في محاولة لتحديد ما تقوله وتتحدث عنه ووضعه في “مكان عاطفي”، وتؤكد على أنها “ناشطة وصحفية قبل أن أكون ابنة معتقل”.
تضيف أنه “في بعض الأحيان يُطلب مني الحديث عن معاناتي وتجربتي النفسية، ويتم حرماني وحرمان والدي من خلفياتنا السياسية، وهذا لا أقبله بالمطلق، ليس لأنني أرفض ذلك، بل لأني أرفض بيع معاناتي النفسية، التي غالباً ما يتم شراؤها في المناسبات والسياقات السياسية والنقاشات حول ذلك”.
التغييب القسري في سوريا .. جريمة مستمرة متعددة الضحايا
ووفق وفا، فإن سوريا تغص بتجارب الاعتقال والإخفاء والاستشهاد وغيرها من التجارب المأساوية، دون أن يكون لديها أي تجارب سياسية، وهؤلاء يحق لهم، كما يحق لغيرهم، أن يكونوا ظاهرين في المشهد، يتحدثون عن تجاربهم وما شهدوه في سوريا، وتشدد على أنه لا يجب السماح بأن تُؤخذ تجارب عوائل المعتقلين وتوضع في سياق محدد مسبقاً.
وترى وفا أن صانعي السياسات يأتون بعائلات المعتقلين ويتعاملون معهم على أنهم “ديكور”، ويظهرون للعالم أنهم يسمعون معاناتهم ويحلون مشكلاتهم، لكن السؤال الحقيقي هو ما مقدار الجدية التي تؤخذ فيها قصص المعتقلين، وما المساحة الحقيقية المتاحة لهم، مؤكدة على أن “أهالي المعتقلين ليسوا إضافات لطيفة وإنسانية للمشهد السياسي”.
هل نعلن الهزيمة أم ننكرها؟
تقول وفا إنه بعد 9 سنوات في انتظار الحصول على جواب عن مصير والدها، أصبح كل شيء في حياتها يدور حوله، ماذا تفعل وماذا تقول وماذا تسمع، وهي اليوم غير قادرة على معرفة من تكون من دون أبيها.
تتمنى وفا لو كانت حياتها مختلفة عما هي عليه الآن، وتتمنى لو كانت تقاتل من أجل سوريا أو من أجل فلسطين من دون أن يكون والدها في مكان ما بين الحياة والموت، لأن الأمر يصبح مختلفاً بشكل كامل، فهي تستيقظ كل صباح وأول ما تفكر فيه هو “ماذا سأفعل اليوم حتى أحاول إنقاذ والدي”، لكن في نهاية النهار تكون وفا في حالة كبيرة من “الخيبة والهزيمة”.
كل يوم تضيف وفا رقماً إلى فترة اعتقال والدها عبر تطبيق “واتساب”، وكلما ازداد الرقم تزداد “الخيبة والإحساس بالذنب والعجز”، وتعتبر أن ذلك “معركة غير عادلة، وأتمنى لو أنني لم أكن مضطرة لخوضها”.
تؤكد وفا على أن الجميع في سوريا هم شركاء في المعارك والهزائم والخيبات، لكن الجميع اليوم انتزعوا من سياقاتهم، ويخوضون تجاربهم بشكل صعب وقاسٍ، وترى أن من حق الجميع أن يمارسوا حياتهم كما يحبون، وليس من حق أي أحد أن يعيب على أحد أنه تعب أو هُزم، ومن حق أي أحد أن يعلن الهزيمة لا إنكارها.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا