د- عبدالله تركماني
مرت موجتا تغيير ودمقراطية شهدهما العالم بعد الحرب العالمية الثانية دون أن تمسا واقع التأخر العربي، ولكن بعد نهاية الحرب الباردة، دخلنا في مرحلة جديدة تماماً جعلت زعماء عرباً ” يلمّسون على رؤوسهم ” قبل أن يلمّسها ” عمرو “. ومنذ سنة 2010 شهدنا موجتان من ثورات الربيع العربي، في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والعراق والسودان والجزائر ولبنان، كانت شعارات الحرية والكرامة والتغيير هي السمة الرئيسية للحراك الشعبي في كل هذه الدول، وبالرغم من المآلات التي وصلت إليها هذه الدول، يمكن القول أنّ العالم العربي اندرج في سيرورة تاريخية للتغيير.
لقد خضعت الدول العربية إلى أنظمة سياسيـة لم تستطع أن تتخلى عن نزعات الاستبداد المتحدرة من عصور التاريخ القديمة والمتأخرة، فظل هامش الحريات محدوداً في بعضها، أو غائباً تماماً في بعضها الآخر، مؤثراً بذلك في سلوك الشعوب العربية وقيمها العملية. وساهم القمع والتهميش في قتل الرغبة في الإنجاز والسعادة والانتماء، ومن هنا ساد الشعور باللامبالاة والاكتئاب السياسي، ومن ثم ابتعاد المواطنين عن المساهمة في إحداث التغيير المنشود، إلى أن وصل الأمر إلى انسداد كامل في المجال السياسي وتعثر في ميدان التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فانطلق الربيع الذي أخفق في هذه المرحلة، ولكنه سيعاود الانطلاق مستفيداً من دروس العشرية الماضية.
طالما أنّ عدم الاستقرار السياسي والتمييز بين المواطنين واحتدام الصراع والتنافس على المناصب بين أهل الولاء (أهل الكفاءة إما مهمّشون أو مهاجرون أو منفيون بسبب مواقفهم السياسية)، النابع من الافتقار إلى قاعدة ثابتة ومقبولة للتداول السلمي على السلطة، وتمفصل السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، وحرية تشكيل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني.
إنّ القضايا التي ينبغي أن تكون محور تفكيرنا اليوم كثيرة جداً وتكاد تحتل جميعها مرتبة الأولوية، وهنا مصدر الصعوبة التي لا غنى لنا عن أن نواجهها بشجاعة. ونكتفي، هنا، من هذه القضايا بالعناوين الآتية، التي نقدمها في صيغة تساؤلات: ماذا أعددنا لكي نواجه حقبة تعثر ثورات الربيع العربي، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وخططاً للحاضر والمستقبل؟ هل تتوافر شروط حقيقية لصياغة مشاريع ديموقراطية للتغيير، تحول دون احتمال قيام مشاريع ظلامية أو حروب أهلية تغرق بلداننا في المزيد من التأخر والمزيد من الأزمات؟ مَن هي القوى المؤهلة لصياغة تلك المشاريع الديموقراطية، وما هي أدواتها وما هي قدراتها على جعل تلك المشاريع قادرة على جذب الجماهير إليها، بعد كل الخيبات التي أُصيبت بها مشاريع التغيير في الحقبة الماضية؟ ما هي إمكانات بلداننا، شعوباً وحركات سياسية وثقافية، للالتحاق بالحركة العالمية للدمقرطة والتقدم، من أجل أن يكون لبلداننا مكان في صياغة مستقبل العالم؟ ما فائدة الشعارات المضخمة إذا كنا لا نستطيع تجسيدها على أرض الواقع، وهل تقبل المجتمعات العربية بأن تحكم بشعارات بينما تحرم من الخبز والحقوق وأسس الحرية والكرامة الإنسانية؟
كلما تابعنا نزيف الدم ومخاطر التفكك في سورية وليبيا والعراق ولبنان، أو معاناة أكثر الشعوب العربية الأخرى في ظل أنظمة الاستبداد، تأكد لنا أكثر من أي وقت مضى أنّ هناك طريقاً واحداً وسبيلاً واضحاً، وهو القيام بعملية مراجعة شاملة لجوانب حياتنا ومواجهة شجاعة مع مشاكلنا ومصارحة أمينة لشعوبنا التي لا تقتات بالشعارات ولا تعيش بالأحلام ولا تقودها الأوهام، إذ لا بدَّ من وعي صادق ومكاشفة كاملة تطفو فيها الحقائق على السطح وتختفي منها الازدواجية التي نعيش فيها، وتتقدم الشفافية للتعاطي المجدي مع المخاطر والتحديات، وتنفتح على الغير وترتفع فيه قيم الإنسان وكرامته وتقل معه صلاحيات الحاكم الفرد. كما لا يجب أن يغيب عن الذهن أنّ تيار الإصلاح الذي نتحدث عنه والمراجعة الشاملة التي نريدها هي أمور لن تتحقق بغير إرادة عامة تلتقي حولها كل قوى التغيير والديمقراطية والسلام.
إنّ العشرية السوداء، بما أفرزته من إحساس عميق بالثمن الباهظ والفاتورة الفادحة التي ندفعها نتيجة للأنظمة الشمولية ودوائر الحكم المغلقة، تدعونا اليوم إلى المضي نحو عملية إصلاح شامل لا تتجه إلى تغيير القيادات الفاسدة والمفسدة فحسب، بقدر ما تتجه إلى تغيير السياسات وأنماط التفكير. لقد آن الآوان لكي نتحرك نحو الإصلاح الجاد والتفكير الشامل والابتعاد عن العشوائية السياسية، إنه وقت للصحوة المطلوبة والرؤية الغائبة والرشد المنتظر.
لقد حان الوقت للتغيير، لبدء الطريق نحو التخلص من التبعية والتهميش وإعادة إنتاج الفقر والتأخر والتفاوت والجهل والتسلط، وذلك من خلال الاعتراف بانهيار عصر عربي بأنظمته وأحزابه ومؤتمراته وعقائده، وإجراء مراجعة شاملة للشعارات الكبيرة المعتمدة على أفكار تجاوزها الزمن، ونقد للذات، والبدء بقبول وفهم الوقائع العالمية الجديدة وانعكاساتها المحلية، ووضع حلول للحاضر والمستقبل لا تُستحضر من مفاهيم الماضي إلا بمقدار ما تنطوي على جدوى للحاضر والمستقبل.