محمود الحمزة
تتحدث هذه الدراسة عن الاستشراق الروسي من جانبين: الأول اهتمامه بالمعرفة والبحث عن الحقيقة، والثاني توجهاته السياسية.
أولًا: الاستشراق الروسي وبحثه عن المعرفة:
حول مدرسة الاستشراق الروسية:
لم يكن مصادفة أن أسمي كتابي الجديد الذي نشرته مؤسسة وعي للأبحاث والدراسات في شهر آب/ أغسطس 2022، “الاستشراق والعالم الإسلامي”[1] لأن الثقافة الإسلامية والعربية كانت في صلب اهتمام الباحثين الروس المستعربين والمستشرقين. وهنا يجب أن نميز بين كلمتي: الاستشراق والاستعراب.
مصطلح الاستعراب (Arabistika)، كما يقول شيخ المستشرقين السوفييت والروس اغناطيوس كراتشكوفسكي في مقدمة كتابه نبذة من تاريخ الاستعراب الروسي[2] الذي صدر عام 1949، بالمعنـى الواسع للكلمة، هو مجموعة المناهج والمقررات التاريخية واللغوية المستندة إلى دراسة المواد العربـية. ويـرتبط به مسائل تعليم تلك المواد والتـرجمات والنشاطات العلمـية والتوعوية. ويشيـر كراتشكوفسكي إلى أن مصطلح الاستعراب كان يعنـي في الفتـرات الماضية تجمـيع معلومات عن البلدان العربـية والثقافة العربـية أكثـر منه مجالا علمـيا متكاملًا.
ويبدو أن مصطلح الاستعراب درج استخدامه في روسيا وبخاصة من كراتشكوفسكي ليمـيّـز مدرسة الاستشراق الروسية من مثيلاتها الأوروبـيات اللواتـي حافظن على استخدام مصطلح الاستشراق، وقد يعود السبب إلى أن كراتشكوفسكي نفسه كان مستعربًا بامتـياز، وربما أيضًا لأن روسيا هي دولة آسيوية شرقية مثلما هي أوروبـية، لذلك يحتمل مصطلح الاستشراق في روسيا أكثر من مقاربة.
وعند مقارنة الاستشراق الروسي بالغربي نجد أن المستشرقين الروس في أغلبيتهم العظمى أنصفوا التاريخ العربي والإسلامي وقيموا عاليًا الإسهامات التي قدمها العلماء العرب والمسلمون في القرون الوسطى، إضافة إلى تأثر كبار الكتاب والشعراء الروس بالثقافة الإسلامية وبسيرة النبي محمد الذي تمرد على تقاليد الجاهلية فكتبوا عنه كثيرًا من الشعر والنثر.
وفي وقت عرف عن الاستشراق الغربي أن له أهدافًا سياسية بحتة واستعمارية -وقد عرض ادوارد سعيد ذلك بشكل معمق في كتابه “الاستشراق”- تعامل الاستشراق الروسي بموضوعية كبيرة مع موضوع الاستعراب وقدموا إسهامات عظيمة في دراسة المخطوطات العربية وأبرزوا محتوياتها العلمية والأدبية بما فيها النظريات الجديدة، وبينوا أن العلماء العرب والمسلمين لم يكونوا نقلة ومترجمين بل أيضًا مبدعين وقدموا أفكارهم العلمية من خلال الشروحات التي سطروها في متن المخطوطات اليونانية المدروسة أو في مؤلفات مخصصة لهذا الهدف.
ومع ذلك، كما يـرى كراتشكوفسكي، فإن اهتمام الإمبـراطور بطرس بالإسلام لم يكن محض مصادفة، بل ارتبط بالخطط السياسية والحروب الطويلة مع العثمانيين الذين يعتنقون الإسلام ويكتبون بالحروف العربية. وقد سبق أن أمر الإمبـراطور عام 1716 بتـرجمة القرآن إلى اللغة الروسية في بطرسبورغ.
وكان توجه مدرسة الاستشراق في سان بطرسبورغ هو التركيز على الطابع المعرفي العلمـي البحت، والحرص على استقلالية عملها، حيث بذل العلماء في بطرسبورغ جهدًا كبيرًا لتحقيق درجة من الاستقلال المهنـي ونشر الدراسات بعيدًا من التوجه السياسي.
وفي البدايات تمت الاستعانة بعلماء ومستشرقين من الغرب، لكن عددهم تضاءل في القرن 18م وعُوض عنهم بمستعربـين روس. وبدأ تدريس اللغة العربـية في المدارس الروسية بشكل ممنهج في النصف الثانـي من القرن الثامن عشر. وشهدت مدة حكم الإمبراطورة كاتـيـرينا الثانـية موجة من التـرجمات إلى الروسية لمؤلفات وقصص عربـية من لغات أوروبـية مثل ألف ليلة وليلة وقصص أدبـية أخرى، إضافة إلى إدخال تعليم اللغة العربية في عدد من المدارس والجامعات.
ومنذ بدايات القرن التاسع عشر بدأت تتبلور قاعدة واضحة لمدرسة الاستعراب العلمـي في روسيا التـي تـزامنت مع نشاط علمـي كبـيـر مثل جمع المصادر وتصنـيفها في المكتبات وكانت مدينة بطرسبورغ مركزًا أساسيًا لذلك النشاط.
أدت أبحاث العلماء في كثيـر من الدول منذ بداية القرن العشرين إلى التعريف بدور العلماء الموسوعيين العرب في القرون الوسطى (الذين عاشوا وعملوا في مساحة واسعة ممتدة من إسبانـيا وشمال أفريقيا حتى الهند) في تطويـر فروع كثيـرة من العلم: التاريخ، الجغرافيا، الكيمـياء، البـيولوجيا، الطب، العلوم الرياضية والفيـزيائية. وكان للعلماء السوفييت والروس نصيبًا وفيـرًا وإسهامًا متمـيـزًا في دراسة الثقافة والعلم العربـيين، ومنهم مستعربـين ومتخصصين في بعض المجالات العلمـية الدقيقة.
ونمـيـز في تاريخ دراسة العلم العربـي في روسيا والاتحاد السوفيتـي جانبـين مرتبطين بقوة في ما بينهما: التسلسل الزمنـي لهذه الدراسة وإشكالية الدراسة وموضوعاتها.
تتميـز المرحلة الأولى من دراسة العلم العربي في روسيا بالبحوث في مجال الاستعراب بالمعنى الضيق للكلمة: دراسة اللغة والأعمال الأدبـية والدينـية. واختتمت هذه المرحلة في أواسط القرن 19 بنشوء مدرسة الاستعراب الروسية التـي حظيت بتقديـر عال من المستعربـين في العالم بأجمعه. أما دراسة المؤلفات العلمـية للعلماء العرب، فتعود إلى مرحلة متأخرة نسبـيًا وقد بلغت مستوى متقدمًا من التطور في العقود السبعة الأخيـرة.
موسوعات روسية لدراسة المخطوطات العربـية
قدم المستعربون الروس دراسات معمقة في تاريخ العلوم العربـية التـي ازدهرت في المدة من القرن الثامن وحتى القرن السابع عشر للمـيلاد. ولم يكتفوا بكتابة البحوث المنفردة والمتخصصة في موضوع معين، بل أسهموا في تعمـيم نتائج بحوثهم وبحوث علماء آخرين وكتبوا مؤلفات لها طابع الموسوعية. وتلك الأعمال الموسوعية التعمـيمـية كثيـرة مثل كتب غالينا ماتفييفسكايا (ما زالت تعيش في مدينة اورينبورغ الروسية) “دراسات في العدد في الشرق الأوسط والأدنـى القروسطي” و”دراسات في المثلثات الكروية” و “حول تاريخ الرياضيات في آسيا الوسطى” و “لمحة من تاريخ حساب المثلثات” وموسوعة “علماء الرياضيات والفلك في العالم الإسلامـي في القرون الوسطى ومؤلفاتهم” (ق. 8-17).
وكذلك مؤلفات أدولف يوشكيفيتش (ت 1993) “نظرية الخطوط المتوازية” بالاشتـراك مع بوريس روزنفلد[3] و”تاريخ الرياضيات في القرون الوسطى” و”تاريخ الرياضيات من العصور القديمة وحتى ثلاثينيات القرن العشرين” وأعمال بوريس روزنفلد (ت عام ) “عن عمر الخيام” بالاشتـراك مع يوشكيفيتش وتـرجمة كتاب “أبو الريحان البـيـرونـي” وتـرجمة “القانون المسعودي” و”تاريخ الهندسة اللاإقليدية” وأصدر روزنفلد مع إحسان أوغلو موسوعة باللغة الانكليـزية: “Mathematicians، astronomers and other scholars of Islamic civilization and their works (7th-19th c.)” . وعمل مريم روجانسكايا “المـيكانـيكا في الشرق القروسطي”.
موسوعة تاريخ الرياضيات في القرو ن الوسطى ليوشكيفيتش:
باكورة أعمال يوشكيفيتش وأول بحث علمـي في روسيا عن تاريخ الرياضيات العربـية كان بحثه الموسوم: “الجبـر عند عمر الخيام” الذي كتبه قبـيل الحرب العالمـية الثانـية لكنه رأى النور فقط في 1948. وفي حينها رحب المستعرب إ. كراتشكوفسكي (ت 1951) بهذا البحث واقتـرح على يوشكيفيتش أن يتعلم اللغة العربـية ويتابع أبحاثًا كهذه. وقد كان كراتشكوفسكي من محبـي الثقافة العربـية والإسلامـية وأشار ليوشكيفيتش إلى كنوز العلوم العربـية والإسلامـية المحفوظة في مكتبات روسيا. لم يتعلم يوشكيفيتش العربـية إلا قليلًا لكنه أسس مدرسة لدراسة تاريخ الرياضيات العربـية وهذا جهد عظيم فتح الطريق على مصراعيه للاستعراب العلمـي الروسي. وكان عالم الهندسة المعروف بـ روزنفلد أول من انخرط عام 1951 في هذه المدرسة وقدم فيما بعد إسهامًا عظيمًا في مجال دراسة العلوم العربـية. أما في طشقند 1959 فقد بدأت غ. ماتفييفسكايا بدراسة الرياضيات العربـية وقدمت للمكتبة العلمـية مئات البحوث القيمة في تاريخ الرياضيات العربـية، وقدمت م. روجانسكايا أبحاثًا مهمة في تاريخ المـيكانـيكا العربـية. وهؤلاء الباحثون كلهم إضافة إلى غيـرهم عملوا تحت الإشراف المباشر أو غيـر المباشر ليوشكيفيتش.
ومن أهم أعمال يوشكيفيتش كتابه “تاريخ الرياضيات في القرون الوسطى” الذي صدر في موسكو عام 1961 الذي تـرجم إلى 6 لغات، فهو من أهم أعماله. وهذا الكتاب القيم يحتوي على فصل عن الرياضيات في البلاد الإسلامـية[4]. ويحتوي الكتاب على 4 فصول في تاريخ الرياضيات: في الصين والهند والبلاد الإسلامـية وأوروبا القروسطية. ونشيـر هنا إلى أن بحوثه حول الرياضيات الصينـية فتحت عيون الباحثين في العالم على دور علماء الصين في تطور الرياضيات وأثـرهم في الحضارة الإنسانـية وبذلك كانت له الريادة في هذا المجال.
وأشاد مؤرخ العلوم المصري-الفرنسي البـروفيسور رشدي راشد بتمـيـز أبحاث يوشكيفيتش ومنزلتها القيمة حول الرياضيات العربـية. ويقول مؤرخ العلوم التـركي-الألمانـي البـروفيسور فؤاد سيـزغين في موسوعته الشهيـرة “تاريخ التـراث العربـي” عن يوشكيفيتش: “يجب أن نبـرز بشكل خاص الإنجاز الهائل الذي قدمه يوشكيفيتش في الفصل الثالث من كتابه “تاريخ الرياضيات في القرون الوسطى” عن الرياضيات العربـية. وما يؤكد أهمـية هذا العمل ذكره المتكرر في الأبحاث في العالم كله كمصدر مهم في تاريخ الرياضيات العربـية.
أما فصله عن الرياضيات الإسلامية المتضمن في هذا الكتاب (مكون من 146 صفحة) فقد تـرجم في السبعينيات مع التعديلات إلى اللغة الفرنسية والألمانـية ولاقى تـرحيبًا وتقديـرًا كبـيـرين في الأوساط العلمـية في العالم.
موسوعة “علماء الرياضيات والفلك في العالم الإسلامـي القروسطي ومؤلفاتهم” (ق. 8-17م)[5]
أما العالمة غالينا ماتفييفسكايا فأمضت ثلاثين عامًا في تـرجمة ودراسة المخطوطات العلمـية العربـية والإسلامـية ونشرت مئات الدراسات والبحوث العلمـية المعمقة ونذكر من أعمالها: “تاريخ دراسة المقالة العاشرة لإقليدس” و”دراسات حول العدد في المشرق الإسلامـي في القرون الوسطى” وموسوعة “علماء الرياضيات والفلك المسلمـين وأعمالهم في القرون 8-17 ” (3 أجزاء). ولها دراسات عن الخوارزمـي والبـيـرونـي والفارابـي وابن لبان وابن عراق ونصيـر الدين الطوسي وابن البغدادي وابن قرة وابن سينا والصوفي والقزوينـي وأبـي عبد الله الخوارزمـي (صاحب مفتاح العلوم) والعاملي وغيـرهم.
وقد صدرت الطبعة الروسية عام 1983 في موسكو. أما تـرجمتها إلى اللغة الإنكليـزية فقد تمت بتصرف من قبل روزنفلد وإحسان أوغلو من دون أن يذكر اسم ماتفييفسكايا فيها.
وتعد هذه الموسوعة من أهم أعمال ماتفييفسكايا. وقد ضمنتها خلاصة أبحاثها في تاريخ الرياضيات العربـية التـي قامت بها على مدى عشرات السنـين وقد أعدت هذا المؤلف الضخم بالتعاون مع المستعرب الروسي- الأميركي المعروف بـ روزنفلد. وتتكون الموسوعة من 3 أجزاء.
الجزء الأول من الموسوعة مكون من 479 صفحة. شارك في كتابته يوشكيفيتش وروزنفلد.
وفي مقدمة المجلد الأول ورد ما يأتي: “يهدف هذا الكتاب إلى تقديم معلومات مفصلة عن المراجع والمؤلفات المعروفة حتى وقتنا لعلماء الرياضيات والفلك في منطقة شاسعة ممتدة من آسيا الوسطى وأذربـيجان وشمال القوقاز وإيـران وأفغانستان وتـركيا وشمال الهند والبلدان العربـية في آسيا المتقدمة وشمال أفريقيا وشبه جزيـرة البـيـرينـيه في المدة من القرن 7 وحتى 17 مـيلادي. وقد ارتبطت تلك البلدان في المرحلة المذكورة (شمال القوقاز وتـركيا وشمال الهند فقط في القرون الأخيـرة) بديانة مشتـركة هي الإسلام ولغة علمـية واحدة هي العربـية. وقد تشبعت العلوم في هذه البلدان بعلوم الحضارات الغابـرة والعلوم القديمة وعلوم المرحلة الهيلينستـية وعلوم الهند. كما ارتبطت بعلوم الصين وأوروبا الغربـية. وقد جمعت علوم المسلمـين القروسطية بشكل رائع، انطلاقًا من العلوم السابقة لهم، بـين العلوم التطبـيقية للشرق القديم والعلوم النظرية لليونان. وعلى يد العرب وُضعت أسس علوم رياضية جديدة كالجبـر وحساب المثلثات وتطورت تطورًا جوهريًا الطرائق الحسابـية والإنشاءات الهندسية. وبشكل مواز للرياضيات طُورت علوم الفلك والجغرافيا الرياضية والمـيكانـيكا والبصريات ونظرية الموسيقا.
ويشيـر المؤلفان إلى ضرورة الأعمال الموسوعية التـي تعمم نتائج البحث في تاريخ العلوم العربـية. وأول من عرضها من المستعربـين كان غ. سوتـر “علماء الرياضيات والفلك العرب ومؤلفاتهم” التـي صدرت عام 1900 وصدرت ملحقات وإضافات لها عام 1902 من قبل سوتـر وكذلك عام 1925 من قبل أ. رينو. وهناك عمل ضخم هو “تاريخ الأدب العربـي” لكارل بـروكلمان الذي صدر في 1898-1902. و”مقدمة في تاريخ العلم” لجورج سارتون نشرها في المدة 1927-1948. وموسوعة “تاريخ التـراث العربـي” لفؤاد سيـزغين الذي صدر المجلد الأول منها عام 1967، وكرس المجلد الخامس منها لتاريخ الرياضيات العربـية وصدر عام 1974.
وتضمن لمحات تاريخية عن فروع الرياضيات العربـية مثل التـرقيم والحساب وجمع المتسلسلات والمعادلات الجبـرية الخطية والتـربـيعية ومن الدرجات الأعلى واستخراج الجذور ونظرية الأعداد والإنشاءات الهندسية والبـراهين الهندسية ونظرية الخطوط المتوازية والتحويلات الهندسية، وحساب المثلثات والطرائق التفاضلية والتكاملية. وكذلك عن العلوم الطبـيعية: الفلك والآلات الفلكية والجغرافيا والمـيكانـيكا والبصريات ونظرية الموسيقى وغيـرها. وتطرق إلى فلسفة الرياضيات والعلوم الطبـيعية عند العرب والمسلمـين.
وعرضت في هذا الجزء معلومات قيمة عن الموسوعات العربـية وفلسفة الرياضيات والعلوم الطبـيعية وكذلك مسائل التأريخ. ثم يورد الكتاب قائمة بأهم المصطلحات العلمـية العربـية وتـرجماتها إلى اللغة الروسية. ويسرد المؤلفان قائمة بأهم المكتبات العالمـية التـي تحتوي على المخطوطات العلمـية العربـية والإسلامـية من 43 دولة ومدينة أجنبـية وعربـية. ونجد في هذا الجزء عرضًا لمجموعات المخطوطات المصورة في 7 دول. ويُختتم الجزء بعرض أعمال علماء من القرون الوسطى وباحثين معاصرين في تاريخ العلوم العربـية والإسلامـية وعددهم نحو 1500.
أما الجزء الثانـي من الموسوعة (يقع في 650 صفحة) وهو الأهم من بـين الأجزاء الثلاثة، حيث يعرّف هذا الجزء بحياة ومؤلفات أكثـر من ألف عالم رياضيات وفلك عربـي ومسلم عاشوا بـين القرنـين الثامن والسابع عشر. وقد أشار المؤلفان في هذه الموسوعة إلى أن مؤرخ العلوم سوتـر عرض لحياة وأعمال حوالى 500 عالم عربـي ومسلم، وأرادا أن يوسعا هذه الموسوعة لتشمل ألف عالم. فقدمت الموسوعة خدمات لا توصف للباحثين في تاريخ الرياضيات والفلك العربـي، المستخدمـين للغة الروسية، وما زالت حتى الآن.
وفي هذا الجزء يعطي المؤلفان لمحة عن حياة كل عالم وعن مؤلفاته بلغته الأم وعن تـرجماتها إلى اللغات الأخرى والدراسات التـي أجريت حولها. وعرضت محتويات أهم المخطوطات.
وكرس الجزء الثالث من الموسوعة (372 صفحة) للتعريف بعلماء لم تعرف تواريخ حياتهم، وبمخطوطات مجهولة المؤلف وكذلك فهارس رتبت بحسب أسماء العلماء وأخرى بحسب عناوين المؤلفات.
ولا بد من تقديـر جهد الباحثين الروس على اهتمامهم بالعلوم العربـية ودراستها بعمق والتعامل مع إسهامات العلماء العرب والمسلمـين بإنصاف وموضوعية. وبخاصة لأن المستعربـين الروس أكدوا موقفهم في إبـراز الجهد القيم للعلماء العرب وتأثيـرهم في تقدم الحضارة الإنسانـية بشكل عام والأوروبـية منها بوجه خاص.
وأدعو الجهات المسؤولة والمهتمة بإحياء التـراث العلمـي العربـي والإسلامـي أن تهتم بذلك الكنز من البحوث والدراسات التـي قام بها المستعربون السوفييت في الكشف عن مكنونات عشرات من المخطوطات العربـية في الرياضيات والفيـزياء والفلك وغيـرها. وعلينا تـرجمة أهم البحوث إلى العربـية لتكون في متناول الباحثين الشباب. وهذا المشروع يحتاج إلى جهد جماعي كأن يتبناها مركز علمـي عربـي مهتم بالتـراث بعد رصد المبالغ المالية اللازمة للمتـرجمـين والناشرين.
ثانيًا: الاستشراق الروسي والسياسة:
المدرسة السياسية في الاستعراب السياسي[6]:
شكلت ثورات الربيع العربي حالة من الصدمة غير المتوقعة لأغلب المستعربين الروس. ومن الغريب أن قدراتهم العلمية لم تمكنهم من فهم كل ما يجري في البلدان العربية من تحولات عميقة بنيوية وفكرية وسياسية وإنما اكتفوا بربط تلك الأحداث بالمخططات الإمبريالية العالمية وحلف الناتو. أي عوضًا عن البحث في الأسباب الاجتماعية والسياسية ربطوا ثورات الربيع العربي بالعوامل الخارجية والجيوسياسية. وإذا أخذنا بالحسبان أن روسيا من الناحية الجيوسياسية تعد دولة أوراسية وتربطها بالمشرق العربي علاقات تاريخية قديمة ثقافية وروحية، ولديها مدرسة استعرابيه عريقة، كان يفترض من باحثيها المستعربين أن يدرسوا القاع العربي بعمق والتحولات الاجتماعية والسياسية والفكرية التي جرت في المجتمعات العربية، وتحديدًا في النصف الثاني من القرن الفائت. إلا أنهم فضلوا اللجوء إلى أسهل الطرق، وحملوا الغرب الإمبريالي مسؤولية كل ما يحدث. ويمكن القول إن مدرسة الاستعراب السياسية الروسية تعاني حاليًا أزمة عضوية أدت إلى إفلاسها وتقهقرها إلى مستوى التحليلات السطحية التقليدية البعيدة من التحليل العلمي الرصين، والاكتفاء بالقول: “كل الذنب يتحمله الغرب”.
أسباب إفلاس مدرسة الاستعراب السياسية الروسية:
أولًا:
لقد أُسست مدرسة الاستعراب السياسية الروسية الحديثة في المرحلة السوفيتية، وتحديدًا في بداية الخمسينيات من القرن العشرين بعد وفاة ستالين، أي في بداية الحرب الباردة والمجابهة بين القطبين العالميين الاشتراكي والرأسمالي على الساحة الدولية. في تلك المرحلة اتجه الاتحاد السوفييتي للبحث عن حلفاء له في بلدان العالم الثالث، ومن ضمنها دول المشرق العربي التي أحرزت استقلالها السياسي بعد الحرب العالمية الثانية، وبدأت تتطور اقتصاديًا واجتماعيًا تحت قيادة البورجوازيات المحلية الوطنية، ضمن استمرارية مشروع النهضة العربي الذي بدأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
تنحصر مشكلة مدرسة الاستعراب السوفييتية الغارقة بالمقولات الأيديولوجية الشيوعية، أنها نظرت إلى دول المشرق العربي بمنظار ماركسي لينيني، ومن زاوية الصراع بين الاتحاد السوفييتي والإمبريالية العالمية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. ولذلك قيم المستعربون السوفييت الأنظمة العربية التي كانت سائدة في الخمسينيات من القرن الفائت بأنها أنظمة رجعية وتدور في فلك الإمبريالية العالمية، ومشروع النهضة العربية كله الطامح إلى إقامة أنظمة مدنية ديمقراطية، كانت تنظر إليه مدرسة الاستعراب السوفييتية، على أنه دعايات وشعارات غربية.
في المقابل، قدم الاتحاد السوفييتي مختلف أشكال الدعم للحركات والأحزاب السياسية القومية واليسارية مثل حركة القوميين العرب والناصريين والبعثيين، وأطلق عليها مصطلح الحركات “الثورية الديموقراطية”، تيمنًا بظاهرة الديمقراطيين الثوريين الروس التي كانت سائدة في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقيّمت مدرسة الاستعراب السوفييتية بشكل إيجابي الانقلابات العسكرية في مصر عام 1952 وسوريا عام 1963 وغيرها من الدول العربية، مثل السودان والعراق وليبيا والجزائر بقيادة الحركات والأحزاب «الديمقراطية الثورية»، وعدّت الأنظمة السياسية التي أنتجتها هذه الانقلابات العسكرية أنظمة تقدمية معادية للقوى الرجعية والإمبريالية العالمية. ولم تأخذ بالحسبان حقيقة أن هذه الانقلابات العسكرية حرفت الدول العربية عن مسار تطورها الطبيعي، وأدخلتها في متاهة العطالة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تحت شعارات براقة مزيفة. وهذه الحقيقة لم تكن تهم المستعربين السوفييت، وكل ما كان يهمهم هو بروز حلفاء جدد للاتحاد السوفييتي على الساحة الدولية، في صراعه ضد المعسكر الإمبريالي العالمي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية. وبالنسبة إلى صيرورة تطور الأنظمة التقدمية اجترحت قريحة المستعربين السوفييت نظرية “التطور اللا رأسمالي” اعتقادًا منهم أن هذه الدول يمكن أن تقفز فوق مرحلة الرأسمالية، وتنتقل فورًا إلى النظام الاشتراكي.
ونسخت هذه الأنظمة التجربة السوفييتية الاقتصادية والاجتماعية، من خلال الإصلاح الزراعي وتأميم الشركات الصناعية الكبيرة والمتوسطة وأحيانًا الصغيرة، والهيمنة على التجارة الخارجية والداخلية. وقد أدت عملية النسخ المتهورة للتجربة السوفييتية وتطبيقها على الواقع العربي إلى نتائج اقتصادية واجتماعية كارثية، أدخلت “الدول التقدمية” في حالة من العطالة والشلل الكامل، وأصبحت تعيش على معونات الدول الخليجية الاقتصادية والقروض الأجنبية. ونظرًا إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وانتشار الفساد والرشوة والبيروقراطية في الدول “التقدمية” ونهب ثروات البلاد، وخشية سقوط هذه الأنظمة، نسخت الفئات الفاسدة الحاكمة “الديمقراطية الثورية ” تجربة المخابرات وأجهزة الأمن الستالينية في الدول الاشتراكية، وبخاصة السوفييتية منها والألمانية الشرقية، لقمع الشعوب العربية وتحويل المجتمعات “التقدمية” إلى سجون ومعسكرات اعتقال.
ثانيًا:
الموقف السلبي الذي تتخذه مدرسة الاستعراب الروسية من الإسلام ودوره في الحياة الروحية والاجتماعية والسياسية في المجتمعات العربية والإسلامية. ومن دون أخذ العامل الإسلامي بالحسبان ودوره لا يمكن فهم حقيقة ما يجري في الدول العربية، وبالأخص دور الإسلام الروحي والفكري في إثر انهيار الأيديولوجيات القومجية والماركسية، وبالأخص في إثر فشل التجارب الشمولية في الاتحاد السوفييتي ودول أوروبا الشرقية ومثيلاتها في مختلف القارات. وتعود جذور موقف مدرسة الاستعراب الروسية السياسية السلبي من الإسلام إلى المرحلة السوفيتية التي كانت تعد الأديان معرقلة لتطور المجتمعات، وهذا الموقف السلبي من الإسلام دفع الاتحاد السوفييتي إلى الاعتماد على الأقليات الدينية، كما هو الحال في سورية، وعندما ثار الشعب السوري من أجل حريته وكرامته نسي أغلب المستعربين الروس المدخل الاجتماعي والسياسي في تحليل الحركات الاجتماعية والسياسية، وعدّوا ما يجري في سورية ثورة السنة ضد سلطة الأقليات الدينية، ولم يفهم بعضهم أن جوهر الثورة السورية وهدفها سياسي اقتصادي اجتماعي وهو إطاحة نظام دكتاتوري شمولي والانتقال إلى نظام ديمقراطي تعددي يحرر كافة أطياف الشعب السوري من سلطة الاستبداد والفساد.
ثالثًا:
رأت مدرسة الاستعراب السياسية الروسية أن ثورات الربيع العربي ستؤدي إلى إطاحة النخب الحاكمة في الدول العربية، وستعم الفوضى والخراب، وبنتيجتها ستفقد روسيا مصالحها، كما جرى في ليبيا وقبلها في العراق. وهذا الخوف الروسي من ثورات الربيع العربي يكمن في أن الروس، وعلى مدى عقود عدة، كانوا يحصرون علاقاتهم مع الدول العربية بالنخب الحاكمة، ولم تكن لهم علاقات وقنوات مع الأحزاب والحركات المعارضة، ولذلك كانوا بعيدين عن الشارع العربي، ولم يفهموا حقيقة أن الشعوب العربية ترى الحكام العرب فئة فاسدة تنهب ثروات البلاد، وخائنة لمصالح الشعوب العربية القومية، وما هي أكثر من بيادق تتربع على عروش الحكم بدعم من الدول الغربية، ولذلك لم يفهم المستعربون الروس أن في ثورات الربيع العربي توجد اتجاهات معادية للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط المؤيدة للسياسة الإسرائيلية خلال عقود عدة.
ويمكن القول إن إخفاق مسيرة التحولات الديمقراطية في روسيا في إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، أسهم إلى حد كبير في عودة هيمنة التيارات الفكرية والسياسية ذات الطابع القومي والمحافظ في الساحة الفكرية والسياسية الروسية. ولذلك لا يفهم المستعربون الروس لماذا تريد الشعوب العربية الحرية والديمقراطية، والشعوب العربية أيضًا، وبالمقابل، لا تفهمهم. ولا يمكن أن تغفر لهم مساندتهم المفتوحة واللاأخلاقية لطاغية دمشق.
المراجع:
الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي، محمود الحمزة، مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث، دار ابن كثير. بيروت. 2022
نبذة من تاريخ الاستعراب الروسي، كراتشكوفسكي إغناطيوس، موسكو -لينينغراد. 1950.
نظرية الخطوط المتوازية في المصادر العربية، روزنفلد بوريس، يوشكيفيتش أدولف، سامي شلهوب وكمال عبد الرحمن (مترجمين)، معهد التراث العلمي العربي. جامعة حلب. 1989.
Les Mathématiques Arabes (VIIIe –XV siecles) ، Adolf P. Youschkevich ، Vrin، Paris، 1976.
علماء الرياضيات والفلك في العالم الإسلامي في القرون الوسطى وأعمالهم (ق. 8 – 17)، غالينا ماتفييفسكايا وبوريس روزنفلد. موسكو، 3 مجلدات. 1983.
Mathematicians, Astronomers & other Scholars of Islamic Civilization and their works (7th-19th c.), Rozenfeld B.A., Ihsanoglu E., IRCICA, Istanbul. , (2003).
إفلاس مدرسة الاستعراب السياسي الروسية، محمود الحمزة وعمر شعار، 2015
[1] الاستشراق الروسي والعالم الإسلامي. محمود الحمزة. مؤسسة وعي للدراسات والأبحاث. دار ابن كثير بيروت. 2022
[2] كراتشكوفسكي إغناطيوس، نبذة من تاريخ الاستعراب الروسي، موسكو -لينينغراد. 1950.
[3]روزنفلد بوريس، يوشكيفيتش أدولف، نظرية الخطوط المتوازية في المصادر العربية، سامي شلهوب وكمال عبد الرحمن (مترجمَين)، معهد التراث العلمي العربي. جامعة حلب. 1989.
[4]Adolf P. Youschkevich. Les Mathématiques Arabes (VIIIe –XV siecles) ، ، Vrin، Paris، 1976.
[5] غالينا ماتفييفسكايا وبوريس روزنفلد، علماء الرياضيات والفلك في العالم الإسلامي في القرون الوسطى وأعمالهم (ق. 8 – 17)، موسكو، 3 مجلدات. 1983.
Rozenfeld B.A., Ihsanoglu E., Mathematicians, Astronomers & other Scholars of Islamic Civilization and their works (7th-19th c.), IRCICA, Istanbul. , (2003).
[6] إفلاس مدرسة الاستعراب السياسي الروسية، محمود الحمزة وعمر شعار. 2015 https://www.harmoon.org/reports/%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b4%d8%b1%d8%a7%d9%82-%d8%a7%d9%84%d8%b1%d9%88%d8%b3%d9%8a-%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-%d9%88%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d8%a9/
المصدر: مركز حرمون للدراسات المعاصرة