حيّان جابر
ترتبط إيران مع دول المنطقة العربية وشعوبها بتاريخٍ طويلٍ حافلٍ بالتقلبات، فهي جزءٌ من تاريخ المنطقة وحضارتها وانكساراتها الطويلة والممتدّة إلى آلاف السنين، الذي يعبّر عن واحدةٍ من أقدم الحضارات البشرية وأعرقها. لن تتناول الدراسة استعراضاً كاملاً لتاريخ علاقة ما يعرف اليوم بدولة إيران مع مجمل تاريخ شعوب المنطقة ودولها الراهنة، بل سوف تقتصر على دراسة العلاقات الراهنة أو ما يعرف بالتاريخ الحديث.
نظرة تاريخية
مضى 43 عاماً على الثورة الإسلامية الإيرانية؛ ثورة الخميني، أو بالأصح ثورة تحالف مجموعة سياسية متباينة عقائدية وأيديولوجيا في مواجهة نظام الشاه، أفضت، في نهايتها، إلى سيطرة الخميني على النظام الإيراني، عبر قمع حلفائه الثوريين وقتلهم، وتشييد نظام سياسي إسلامي قائم على الاسترشاد، يعتبر الثورة من مهامه الاستراتيجية، من أجل بناء نظام إقليمي ودولي جديد.
إذاً تم اسقاط نظام الشاه الملكي في العام 1979؛ أحد حلفاء أميركا الإقليميين في مرحلة الحرب الباردة، أي في زمن نظام دولي ثنائي القطبية، حيث كانت إيران الشاه؛ رفقة تركيا والاحتلال الصهيوني، في تلك المرحلة، ضرورة استراتيجية أميركية في صراعها مع الاتحاد السوفيتي، أولاً لحماية المصالح الأميركية في المنطقة، وثانياً خط دفاع إقليمي أمام جارها الشمالي الاتحاد السوفيتي.
شكّل الظرف الدولي عاملاً مساعداً في نجاح الخميني بإقامة نظام إسلامي في إيران، يتبنّى مفهوم الثورة الإسلامية، أو ثورة المستضعفين، نظراً إلى عدم اصطفافها مع طرفي الصراع، إذ رفعت طهران حينها شعار “لا شرقية ولا غربية”، فضلاً عن تراجع حدّة الحرب الباردة نتيجة تراجع قدرات الاتحاد السوفيتي وإمكاناته في تلك المرحلة التي أفضت، بعد أكثر من عقد بقليل، إلى انهياره وتفكّكه، الذي أحدث تحولاً نوعياً في العلاقات الدولية والنظام الدولي، حتى أصبحنا في مرحلة نظامٍ أحاديّ القطبية، تهمين الولايات المتحدة عليه.
شكّلت الحرب الإيرانية – العراقية أولى مظاهر صدام إيران مع دول المنطقة العربية؛ تصدير الثورة، كانت الحرب تعبيراً سياسياً عن شعار تصدير الثورة، وامتداداً لنزاع حدودي تاريخي بين طرفيها، على الأهواز وشط العرب وجزر طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. انتهت الحرب بإعلان وقف إطلاق نار متبادل بين الجانبين عام 1988 بوساطة الأمم المتحدة، اعتبر بمثابة فشل إيراني وضربة قوية لشعار تصدير الثورة الإسلامية.
لم تكد تنتهي تلك الحرب حتى بدأت حرب الخليج الثانية، في أعقاب احتلال العراق الكويت، اتخذت إيران موقف الحياد من تلك الأزمة، مطالبةً انسحاب القوات العراقية من الكويت، وانسحاب القوات الأجنبية؛ الأميركية تحديداً، من المنطقة، وفصل القضية الفلسطينية عن الأزمة الكويتية. قدّمت إيران مبادرة سلام في هذا الشأن، محاوِلةً لعب دور الوسيط الإقليمي الحيادي، ومتجنّبةً الدخول بأي صدامٍ مع دول المنطقة أو أميركا، بغرض تعزيز مكانتها الإقليمية سياسياً، والحفاظ على وضع إقليمي يتيح لها إمكانات التمدّد مستقبلاً، في العراق ودول ضعيفة غير قادرة على مواجهة إيران.
ساهم الحدثان الإقليمان المذكوران، حرب تحرير الكويت والحرب الإيرانية – العراقية، في دفع إيران إلى مراجعة أدواتها تجاه الإقليم، نتيجة الهزيمة العسكرية التي تلقتها على يد القوات العسكرية العراقية، وبحكم النتائج التي فرضها احتلال الكويت إقليمياً، من تعزيز الوجود العسكري الأميركي الدائم أو شبه الدائم.
عملت إيران على تعزيز أدوات تدخلها الإقليمي غير المباشرة، استناداً إلى: شعار تصدير الثورة، الجيوبوليتيك الشيعي، العمل على فرض إيران مركزاً شيعياً وإسلامياً وسياسياً، القوة المالية، القوة العسكرية، خطاب معاد لأميركا والاحتلال الصهيوني.
جذبت العوامل السابقة شرائح شعبية وقوى سياسية عديدة، خصوصاً في المرحلة التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفيتي؛ يسارية ويمينية، كما عزّزت من الانقسامات الطائفية، ومن بلورت قوى طائفية سياسية وعسكرية. أجادت إيران، في المرحلة التي أعقبت تحرير الكويت، الموازنة بين الخطابين، الطائفي التقسيمي والسياسي الثوري المعادي لنظام الهيمنة والاستفراد والاستغلال الأميركي.
يمكن اعتبار المرحلة الممتدّة منذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية إلى احتلال العراق أميركياً، مرحلة بناء الأذرع الإيرانية إقليمياً، على اعتبارها أدوات السيطرة الإيرانية الرئيسية، خصوصاً في لبنان، وفي الفضاء المعارض العراقي السياسي والمجتمعي.
تزايد نفوذ الأذرع الإيرانية العراقية ودورها بعد إسقاط نظام صدام حسين واحتلال العراق أميركياً، ذاك الاحتلال الذي تؤكّد تقارير دولية عديدة على أهمية دور إيران في تحقيقه. مثّل العراق أول نموذج إقليمي للسيطرة والنفوذ الإيراني، رغم دورها السابق في لبنان، الذي كان محكوماً بجملةٍ من التوازنات اللبنانية الداخلية، والإقليمية خصوصاً مع سورية.
نجحت إيران في التمدّد إقليمياً بعد احتلال العراق، الأمر الذي مثّل نقطة تحوّل في علاقات إيران تجاه الإقليم، بعد فشلها في التوسع عبر الحرب المباشرة؛ الحرب العراقية – الإيرانية، إذ نجحت بدايةً في التوغل، ومن ثم في السيطرة على العراق، عبر أذرعها الإقليمية؛ قوتها الخشنة غير المباشرة، وهو الأسلوب الذي اعتمدت عليه في أعقاب الموجات الثورية العربية، منذ نهاية العام 2010، إذ امتدّت أذرعها النشطة إلى دول عربية عديدة، أبرزها سورية واليمن.
عكست التصريحات الإيرانية ذلك، كما في تصريح علي يونسي؛ مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني، في العام 2015 “العراق ليس جزءا من نفوذنا الثقافي فحسب، بل من هويتنا.. وهو عاصمتنا اليوم.. وهذا أمرٌ لا يمكن الرجوع عنه، لأن العلاقات الجغرافية والثقافية القائمة غير قابلة للإلغاء، ولذلك إما أن نتوافق أو نتقاتل”. وكذلك في تصريح حيدر مصلحي، وزير الاستخبارات الأسبق في حكومة محمود أحمدي نجاد، في العام نفسه “إيران تسيطر فعلاً على أربع عواصم عربية”.
التحولات الإقليمية والدولية
تمرّ المنطقة الإقليمية والعالم أجمع بتحوّلات متسارعة مفتوحة على احتمالات عديدة، منها ما يتعلق بالبنى الاجتماعية والسياسية الداخلية؛ الوطنية، وأخرى تتعلق بالعلاقات الدولية والنظام الدولي المسيطر، فكما شكّلت الموجات الثورية الشعبية في المنطقة العربية فرصاً لتمدّد النفوذ الإيراني، مثلت كذلك تحدّيات كبرى أمامه، في ضوء التطوّرات التي يشهدها لبنان وبدرجة أكبر العراق. وهنا علينا استذكار أن العراق، بعد احتلاله، كان أولى نجاحات التمدّد الإيراني تجاه المنطقة، وهو ما يحمل، في طياته، أبعاداً سياسية ولوجستية واستراتيجية ونفسية، يجعل من خسارته أو تضعضع النفوذ الإيراني فيه ضربةً قاسمة أو شبه قاسمة للمطامح والاستراتيجية الإيرانية تجاه المنطقة.
المستوى الدولي
تجاهر كل من الصين وروسيا برغبتهما في تقويض النظام العالمي أحادي المركزية، وبناء نظام عالمي بديل متعدّد المراكز، الذي يجري وصفه غالبا بنظام متعدّد الأقطاب، لكن الكاتب يعتقد أن استخدام مصطلح التعدّدية القطبية تجانبه الدقة، نظراً إلى تشابه التوجهات الاقتصادية والسياسية الخارجية بين مجمل الدول المتصارعة على طبيعة النظام الدولي، الأمر الذي يجعلها جميعا من تمثيلات نظام أحادي القطبية، رأسمالي بتوجهات امبريالية، في غياب قطب أخر مختلف أيديولوجياً واقتصادياً وسياسياً، كما كان عليه الوضع في عصر الحرب الباردة الثنائي القطبية.
إذا، قد يصحّ اعتبار الأحادية القطبية العالمية أيديولوجياً واقتصادياً وسياسياً أمراً لا مفرّ منه حالياً، في حين يتصاعد الصراع على الدولة أو الدول المركز في ظل نظام عالمي أحادي القطبية. تسعى أميركا إلى إفشال التطلعات الصينية والروسية بجميع الوسائل المتوفّرة، بصورة تتشابه مع التي استخدمتها في خضم الحرب الباردة. لذا يصف بعضهم المرحلة الراهنة بمرحلة الحرب الباردة الجديدة، بين أميركا والمعسكر الغربي؛ بريطانيا والاتحاد الأوروبي، من جهة، وكل من الصين وروسيا منفردتيْن في أغلب الأوقات ومتّحدتين أحياناً من جهة ثانية.
يفتح الصراع الدولي على شكل النظام العالمي، أو على الدول المركز فيه الباب أمام عشرات الاحتمالات، مثل توحيد الجبهتين، الروسية والصينية، في مواجهة الترويكا؛ الأميركية والبريطانية والأوروبية، وهو احتمالٌ قد يعزّزه تطور العلاقات الروسية – الصينية، أخيرا، سيما بعد توقيع اتفاق شراكة استراتيجية غير محدودة، قبل غزو أوكرانيا بفترة وجيزة. كذلك هناك احتمال تباعد الجبهتين، الروسية والصينية، وتباين مسارهما، صعوداً وهبوطاً.
أيضاً؛ قد تتعدّد الجبهات الدولية مستقبلاً إن طال الصراع الدولي الراهن، فقد تتنامى القوة والمطامح الهندية أو البرازيلية أو اليابانية أو الألمانية، كي تنتهز فرصة فرض ذاتها مركزاً عالمياً مستقلاً بذاته، وفق مسار الصراع الدائر، ووفق قدرة تلك الدول على استثمار المرحلة الراهنة في مراكمة قوتها. هنا تجدر الإشارة إلى تضاعف الميزانية العسكرية الخاصة بهذه الدول أخيرا.
إذاً نحن أمام احتمالات لا متناهية العدد، أو على الأقل كثيرة، على صناع القرار ومعدّي الاستراتيجيات أخذها بعين الاعتبار، رغم ضعف احتمالية حدوث بعضها وفق توازنات اللحظة الراهنة. لكن التوازنات الراهنة ترجّح كفة ثلاثة احتمالات: نجاح أميركا في الحفاظ على مكانتها مركزاً عالمياً وحيداً. نجاح صيني، روسي منفرد أو مشترك في إنهاء أحادية المركز الأميركي. إطالة زمن الصراع، واستعصائه على الحل.
تفرض هذه الاحتمالات الثلاثة على الدول ذات الاستراتيجيات الطموحة؛ إيران منها، اتباع سياسية الحياد الحذر، الذي يميل إلى أحد أطراف الصراع أحياناً، من دون التورّط في الانخراط المطلق معه أو التبعية له، وهو ما ينطبق على دولٍ عديدة، منها بما يخصّ منطقتنا الإقليمية إيران وتركيا، وبصورة أوسع قليلاً يمكن اعتبار الهند وباكستان منها أيضاً.
من هذه الرؤية السياسية أو الاستراتيجية، يمكن فهم توقيع إيران اتفاق الشراكة الاستراتيجية مع الصين، والتلكؤ في تنفيذ بنوده، كذلك يمكن فهم إصرار إيران على إبقاء الباب موارباً مع أميركا ودول الاتحاد الأوروبي، من خلال مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي، على اعتباره من شروط بناء علاقةٍ مستدامةٍ بين جميع الأطراف، مع الأخذ بعين الاعتبار تناقض الاتفاق النووي أو الاتفاقات التي تبعت نسخته الأولى مع اتفاق الشراكة الإيرانية – الصينية على المستوى الاقتصادي، الأمر الذي يهدّد؛ في حال إحيائه مجدّداً، تطبيق اتفاق الشراكة مع الصين، ما يفسّر التردد أو الحذر الإيراني، ويعبر عن حيادها الحذر.
يطال الحياد الحذر توجهات إيران الإقليمية، خصوصا بما يتعلق بسياساتها تجاه حلفاء الولايات المتحدة أو أصدقائها، كما في علاقتها مع كل من السعودية والاحتلال الصهيوني، فرغم التصعيد الصهيوني المتكرّر على مصالح إيران ومراكزها في سورية وداخل إيران، نلحظ غياب الرد الإيراني المباشر أو غير المباشر أو محدوديته، عبر أذرعها الإقليمية؛ حزب الله مثلاً، بل على العكس نلحظ تقارباً بين قوى إيران داخل لبنان؛ حزب الله وحركة أمل، من جهة والاحتلال الصهيوني من جهة أخرى، متمثلاً في تهيئة رئيس البرلمان رئيس “أمل”، نبيه برّي، الأجواء اللبنانية والدولية من أجل بدء المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود اللبنانية مع دولة الاحتلال. في حين تراجع التصعيد الإيراني المباشر وغير المباشر تجاه السعودية، بالتزامن مع رعاية النظام العراقي الذي تتبجّح إيران بالسيطرة عليه من خلال أذرعها، جلسات حوار بين إيران والسعودية، كما خفّضت جماعة الحوثي المدعومة إيرانياً من هجماتها التي تستهدف الأراضي والمصالح السعودية.
من ذلك كله، تبدو إيران حذرة تجاه التطورات الدولية، وربما مستعدّة لتغيير أدوات سياساتها الإقليمية وفق نتائج الصراع الدولي على قيادة العالم وتوجيهاته.
المستوى الإقليمي
لا تقلّ الأحداث الإقليمية أهميةً عن الدولية منها، حيث شهد الإقليم منذ نهاية 2010 موجات ثورية شعبية هدّدت استقرار النظام الإقليمي وشكله، تمكّنت إيران من احتواء التغييرات التي فرضتها الموجة الثورية الأولى، بل استطاعت تحويلها إلى فرصةٍ أتاحت لها التوغل داخل الإقليم، حيث مدّت نفوذها إلى أربع عواصم عربية، بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء.
لن ندخل كثيرا في شرح تفاصيل هذا التمدّد، مكتفين بنتائجه التي وضعت إيران في مواجهة مباشرة مع شعوب أو جزء كبير من شعوب المنطقة، سيما داخل الدول الأربع التي طالها نفوذها وأذرعها، وهو ما فرض تحدّيات أمنيةً وسياسيةً كبرى على إيران، وأجبرها على زيادة حجم إنفاقها الخارجي المرتفع أصلاً، إذ تقدّر تقارير رسمية أميركية حجم إنفاق إيران على حزب الله بـ 800 ملايين دولار سنوياً.
بعد سيطرة إيران على أربع عواصم عربية، تراجعت قوة إيران الناعمة في المنطقة العربية كثيراً، الأمر الذي فرض تحدّيات جمّةً صعدت على السطح سريعاً، كما كشفته الموجات الثورية اللاحقة، خصوصاً في العراق ولبنان، اللذين شهدا ويشهدان احتجاجاتٍ شعبية متقطّعة تستهدف النظام السياسي المسيطرة فيهما، والقوى الطائفية الفاعلة فيه، وفي مقدّمتها القوى المحسوبة على إيران، كما يطال إيران تحديداً.
من ناحية ثانية؛ تشهد العلاقات بين دول الإقليم تقارباً واضحاً بين مجمل دوله، باستثناء إيران، كما في التقارب التركي مع كل من السعودية وتركيا والإمارات، وكذلك بما يخصّ قطر وكل من السعودية ومصر، وبدرجة أقل الإمارات، فضلاً عن اتفاقيات التطبيع الإبراهيمي، التي ترقى بنودها إلى مستوى تحالفي أو بالأصح تبعي، إذ يهمين الاحتلال الصهيوني على الدول الموقعة على هذه الاتفاقيات بعلاقات اقتصادية وأمنية واستراتيجية تعزّز من مكانته الإقليمية.
تضع هذه التقاربات، وربما التحالفات الإقليمية، إيران في موقع دفاعي، على الرغم من علاقتها الجيدة مع بعض الأطراف؛ مثل تركيا وقطر، فعلى الرغم من قدرات إيران العسكرية، إلا أن نتائج التصعيد العسكري غير مضمونة، حتى في ظل التفوّق النووي الإيراني؛ إن حصل، فاستخدام السلاح النووي في محيط إيران الإقليمي أمرٌ غير ممكن، نظراً إلى نتائجه وتداعياته على إيران ذاتها.
تملك دول الإقليم؛ مجتمعةً ومنفردةً، قدرات عسكرية نوعية وكمية لا تقلّ عن قدرات إيران، بل على العكس تتفوق عليها من حيث الكفاءة والفاعلية، فغالبية عتاد دول الإقليم العسكري غربي المصدر، في حين طوّرت إيران قدراتها العسكرية بكفاءاتٍ محلية، لم يتم اختبار فاعليتها العسكرية، بل يمكن التشكيك بفاعليتها ودقتها استناداً إلى بعض تجارب إيران العسكرية والصاروخية التي فشلت في إصابة أهدافها.
من هنا، لا ترغب إيران في دخول مواجهة إقليمية مع أيٍّ من دول الإقليم، خوفاً من تحولها إلى مواجهة مفتوحة على عدة جبهات. لذا تسعى إيران إلى تهدئة الأجواء الإقليمية وتجميدها من دون أي تغيير جيوسياسي، كما في نموذج الهدنة اليمنية. كذلك لن تتمكّن إيران في المدى المنظور من الاستعانة بدعم دولي واضح من أيٍّ من شركائها الدوليين، سواء روسيا أو الصين، نظراً إلى انشغالهم بملفات دولية أهم وأكبر، تتمحور في مجملها حول الصراع على هوية النظام المسيطر عالمياً.
مستقبل إيران الإقليمي
من كل ما سبق، نلحظ ارتكاز سياسية إيران الإقليمية منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية على ثلاثة عوامل رئيسية:
القوة الناعمة: القائمة على تبنّي مفهوم ثوري ظاهرياً يدعو إلى تقويض الهيمنة الأميركية، وبناء نظام عالمي أو إقليمي جديد إسلامي الطابع، تشكّل إيران مركزه الرئيسي ومحرّكه الوحيد. وعليه، تقوم قوة إيران الناعمة على ثلاث دعائم، معاداة أميركية والاحتلال الصهيوني، استنهاض القوى الإسلامية، توحيد القوى الطائفية الشيعية والقريبة منها.
القوة الخشنة: أو القوة العسكرية المباشرة، رغم عدم دخول إيران في مواجهات عسكرية مباشرة في المنطقة العربية منذ وقف إطلاق النار مع العراق، تُبدي إيران اهتماماً كبيراً بالجانب العسكري، التقني والبحثي والكمّي، وهو ما يتجلّى في نواحٍ عدة، مثل تعدّد القوى العسكرية الإيرانية، الجيش النظامي (قرابة 900 ألف جندي)، قوات الحرس الثوري (125 ألف عنصر)، قوات التعبئة الشعبية؛ الباسيج (90 ألف عنصر مع إمكانية زيادة العدد إلى قرابة المليون متطوّع عند الضرورة). كذلك تخصّص إيران جزءا كبيرا من ميزانيتها السنوية لأغراض عسكرية، وفق تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام؛ سبيري، السنوي للعام 2021، تحتل إيران المرتبة 14 عالمياً من حيث الإنفاق العسكري (24 مليار و600 مليون دولار). لا تشمل هذه الأرقام الإنفاق على الأبحاث وعلى بعض الهياكل العسكرية، مثل فيلق القدس والباسيج، كما لا تشمل الانفاق العسكري غير المعلن، عن طريق عائدات الصادرات الإيرانية غير الشرعية، سيما النفطية منها، وكذلك التبرّعات الطوعية والإجبارية، أيضاً لا تشمل عائدات استثمارات الهياكل العسكرية الاقتصادية، وخصوصا الحرس الثوري الذي يملك استثمارات عدّة في مجالات متعدّدة كهربائية وعقارية، تقدّر بعض التقارير الرسمية عائدات الحرس الثوري الإيراني السنوية بـ 12 مليارات دولار.
الأذرع الإقليمية: تندرج أذرع إيران الإقليمية ضمن قوتها الخشنة غير المباشرة، التي تتدخّل في الدول الأخرى وفق توجيهات المرشد الأعلى، لا تتوفّر معلومات دقيقة ومؤكّدة عن حجمها وحجم تمويلها، في حين يلحظ ذلك في مناطق تأثيرها ونشاطها، أي في كل من لبنان وسورية والعراق واليمن، إذ تحظى بدعمٍ ماليٍّ كبير جداً يتيح لها بناء مؤسّسات عسكرية ومالية واجتماعية وخدمية مستقلة عن الدولة، وتنافس إمكانية دولها، ترعى من خلالها شؤون منتسبيها والمقربين منها.
نلحظ مما سبق ديمومة اعتماد إيران على قوتها الناعمة منذ نشأت الجمهورية الإسلامية، مستفيدةً من حالة الاحتقان الشعبي الناجمة عن العنجهية والتكبّر والاستغلال الأميركي أولاً، ومن خطاب معاداة الدين الإسلامي والمسلمين ثانياً. في المقابل، تراوح استخدام إيران قوتها الخشنة بين المباشر منها في بداياتها إلى غير المباشر في السنوات أو العقد الأخير.
بناء عليه؛ يواجه المخطّط الإيراني التوسّعي تجاه المنطقة العربية جملة من التحدّيات، التي فرضتها التطورات الدولية والإقليمية والسياسات الإيرانية العدائية تجاه شعوب المنطقة، إذ تهدّد هذه التحديات مستقبل إيران في الإقليم، بما قد ينهي سيطرتها على العواصم العربية الأربع التي تبجّحت بالسيطرة عليها، أو على الأقل قد يُنهي سيطرتها على بعضها، لا سيما العراق الذي يمثل الامتداد الأهم والأخطر في الحسابات الإيرانية، نتيجة حجم أذرعها وحاضنتها الشعبية فيه، وبحكم التواصل الجغرافي البرّي الذي يسهّل الإمداد والتواصل وبسرعة. ونظراً إلى أهميته المعنوية والنفسية على اعتباره أولى النجاحات الإيرانية في المنطقة العربية، وأخيراً لوجود مرجعية دينية تاريخية تنافس المرجعية الإيرانية في الأوساط الشيعية.
تبدو قوة إيران الناعمة منهكةً ومتضعضعةً في الآونة الأخيرة، رغم تنامي حجم الإنفاق الإيراني عليها، كما في إنفاقها على مؤسسات إعلامية ناطقة باسمها باللغة العربية. يمثّل تنامي العداء الشعبي لإيران، حتى في أوساط حاضنتها الشعبية التقليدية؛ الطائفية، أحد مظاهر ضعف قوتها الناعمة، إذ لم تحقّق السيطرة الإيرانية على المستوى الإقليمي أي فائدةٍ لشعوب المنطقة بما فيهم المكون الشيعي منهم، بل على العكس أدّت السيطرة الإيرانية، من ناحية أولى، إلى تصدّع المجتمعات وإحداث نزاعاتٍ طائفيةٍ طويلة لا تنتهي، أنهكت جميع شرائح المجتمع وفئاته، مادياً وبشرياً ومعنوياً، كما ساهمت في تدمير البنى الاقتصادية الوطنية والبنى الخدمية، فضلاً عن بنى المنظومة التعليمية.
من ناحية ثانية، وعلى التوازي مع تنامي النفوذ والسيطرة الإيرانية، تنامت قوة أميركا وحليفها الرئيسي الاحتلال الصهيوني وسيطرتهما، بل تمادى الأخير في اعتداءاته داخل فلسطين وخارجها، من احتلال العراق وجزء من سورية أميركياً، إلى الانتشار العسكري الأميركي في عدة دول عربية، مروراً بتوسّع النفوذ الصهيوني اقتصادياً ولوجستياً إقليمياً، خصوصا بعد اتفاقيات أبراهام، الأمر الذي يتناقض كلياً مع هدف التمدّد الإيراني المعلن، الذي يمثل ركيزة رئيسية من ركائز قوة إيران الناعمة.
يفرض تراجع قوة إيران الناعمة عليها أحد خيارين لا ثالث لهما، إما مراجعة سياساتها وممارساتها تجاه الإقليم بسرعة وبفاعلية كبيرة، أو مزيدٍ من الاعتماد على قوتها الخشنة غير المباشرة؛ الأذرع الإقليمية، والمباشرة إن اقتضى الأمر، بغرض مواجهة الشارع المعترض والمحتج عليها وإغلاق الباب أمام إمكانات التغيير السلس.
من التدقيق في سياسات إيران الداخلية والخارجية، نجد أن مراجعة سياساتها وتعديلها أمر شبه مستحيل، إذ لم تؤدٍّ الاحتجاجات الشعبية الإيرانية المتعاقبة إلى أي تغييرٍ في سياسات إيران الداخلية، بل على العكس دفعتها نحو مزيدٍ من التشدّد، بما يخصّ نهب ثروات الشعب الإيراني وإفقاره، وتشديد قبضة المرشد الأمنية والعسكرية الداخلية. كذلك تكشف ممارسات إيران في سورية عن السياق ذاته، إذ لم تعمل إيران على تلبية أيٍّ من مطالب الشعب السوري، بل على العكس تكشف الأحداث عن ضغط إيران باتجاه تشدّد النظام مع الثورة الشعبية مهما كان الثمن، وهو ما سار عليه النظام بدعم وتعاون إيراني كامل، مباشر وغير مباشر.
إذاً تبدو خيارات إيران تجاه الإقليم محصورة في أدواتها الخشنة غير المباشرة فقط، أي العمل على تثبيت سيطرتها عبر الاستعانة بقوى الأمر الواقع، ممثلةً بأذرعها الإقليمية، إذ يصعب على إيران التدخّل بقوتها الخشنة المباشرة في الوقت الراهن، نظراً إلى حساسية المرحلة إقليمياً ودولياً، التي قد تفرض عليها في هذه الحالة مواجهة أكبر وأعقد مع طرف إقليمي أو دولي، أو ربما مع تحالف دولي واسع.
استنادا لذلك كله، على القوة الشعبية التي تعتبر إيران أحد أطراف نهب ثروات المنطقة وإدامة تخلفها وتقسيمها، سلب إيران عناصر قوتها الرئيسية المتمثلة في الخطاب الثوري الرافض لقوى الاستعمار والاستغلال من ناحية، والخطاب الطائفي التعبوي والتحريضي، من خلال تبني توجّهات عملية رافضة ومقاومة جميع أشكال الاستعمار والاستغلال، أميركية كانت أم روسية، تركية، إيرانية، صهيونية أو غيرهم، وفرز برنامج وطني جامع عابر للطوائف والتقسيمات العرقية والإثنية، يوحّد المجتمع ويبلور نضالاً مجتمعياً متكاملاً، ينهي؛ أو يحدّ بالمرحلة الأولى، الصراعات ما دون الوطنية. .. أي علينا الحذر من الانجرار إلى الملعب الإيراني عبر إذكاء الصراعات الطائفية أو حتى الصراعات داخل الطائفة ذاتها، تحت عناوين وطنية أم دينية، فكلاهما يصبّ في الملعب الإيراني على اعتباره ترسيخ لمفاهيم طائفية جهدت إيران على زرعها وإنمائها؛ رفقة القوى الدولية الأخرى، وكسبت خبراتٍ كبيرةً في كيفية استغلالها وتجيرها عاجلاً أم أجلاً وفق مصالحها. بما فيها صراع المرجعيات، الذي يثبت فصلاً لشريحة شعبية عراقية؛ وعربية، تتلاقي مع باقي شرائح المنطقة في مجمل مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، من هنا، يمكن فهم خطأ مقتدى الصدر الأكبر، الذي لم ينزع الصفة الطائفية عن حاضنته الاجتماعية، ويبادر إلى ملاقاة الحراك المدني الاحتجاجي في مطالبه، قولاً وفعلاً، من خلال خطوات تدعم ذلك.
المصدر: العربي الجديد