طارق علي
“بالصعوبة نفسها التي دخلت بها الى الوظيفة أجد الخروج منها صعباً، القرار ليس بيدي”، يقول أحمد ن. الذي يسعى منذ ستة أشهر على الأقل للحصول على موافقة على استقالته من إحدى الدوائر الحكومية السورية في دمشق.
يبتسم أحمد من دون أن يخفي استهجانه حجم المفارقة بين يوم توظيفه قبل 17 عاماً، واليوم إذ يريد ترك الوظيفة، يقول: “يومها لم أترك واسطة إلا واستخدمتها، ومبلغاً إلا ودفعته، ومسابقة إلا وتقدمت لها لأظفر بشرف الوظيفة الحكومية، يا سيدي، الوظيفة في الحكومة قبل الحرب، بل وحتى خلال سنوات الحرب الأولى، لم تكن بالأمر الهين، فهي كانت تمنح صاحبها شرف امتيازاتها الكثيرة، فالراتب مرتفع نسبياً، والقروض لا يوجد أكثر منها، وأدفع 25 ألف دفعة أولى وتملك سيارة سعرها كان نحو 500 ألف فقط، وجديدة بالكامل”.
يكمل أحمد: “اليوم صرت أتوسل الوساطات، وأنا مستعد لدفع الأموال، ليسمح لي بترك الوظيفة، عبر استقالة رسمية تتم الموافقة عليها، ولكنّ الأمر ليس بهذه السهولة على الإطلاق، فإدارة مؤسستي تتدخل، والحكومة تتدخل، والجهات الوصائية تتدخل (الأمن السوري)، ليبدو موضوع الاستقالة شائكاً ومربكاً للغاية، وقد يحصل معك ما لا تحمد عقباه، وقد تسير الأمور بسلاسة، هذا أمر تحدده الدراسة الأمنية التي ستصدر بحقك خلال مرحلة بحثك عن موافقة الاستقالة”.
كل ذلك بعد أن صار راتب أحمد اليوم لا يتعدى 112 ألف ليرة سورية (23 دولاراً أميركياً)، يقول أحمد: “هل تعلم ماذا أفعل بالمئة ألف والبضع؟، أنا أدفعها مواصلات، ثم استدين ثمن الخبز والطعام والخضر والمازوت والغاز والطبابة والتعليم من معارفي، تخيل أن تتحول من موظف مكتنز مكتفٍ بما يملك، الى موظف عالة على مجتمعه لا يملك ثمن طعام أطفاله… الموظف اليوم بات شحاذاً للأسف، بإمكانك البحث، ولو عثرت على موظف واحد سعيد أخبرني”.
وعن دوافع استقالته يؤكد أنّ العمل الحكومي يكبله ويأسره ويحرمه من وقت أساسي في يومه: “لو عملت في القطاع الخاص، الأمر أفضل، ليس بكثير ولكن أفضل نسبياً، حتى لو عملت سائق تاكسي فإنني سأجني أضعاف ما أجنيه من عملي الوظيفي، ولكن ماذا أفعل؟، أنا أتحرق في انتظار الموافقة على استقالتي من دون حدوث مشاكل وتبعات لا أريدها”.
قبل الحرب
كما ذكر أحمد بالضبط، كانت الوظيفة حلماً قبل الحرب، وكان يسعى إليها السوري، الخريج وغير الخريج، واضعاً كل علاقاته وما أمكنه من أموال أحياناً للظفر بالوظيفة المنشودة، والتي لطالما شكلت ركيزة أمان يستند اليها مستغلاً كل حقوقها على أكمل وجه.
كان الموظف السوري مثلاً، يفرش بيته عبر قرض على مرتبه الشهري، يكسي منزله، يتملك سيارته، بل ويتملك منزلاً في المساكن الشبابية حتى، كل ذلك من نِعم الراتب الكثيرة، بعد أن كان سقف الراتب الشهري عشية الحرب يتخطى 500 دولار في المتوسط، وبطبيعة الحال كان يصل الى أرقام أعلى مع إضافة الحوافز والمكافآت وغيرها، وهو رقم كان حقيقة يكفي للعيش والاستمتاع، بل وأكثر من ذلك، كان هذا الرقم كفيلاً بالحفاظ على الطبقة الوسطى التي باتت هباء منثوراً مع تقادم سنيّ الحرب في البلاد، فتضعضع المجتمع، وتفكك، وباتت طبقاته المعروفة مخالفة لكل أساسيات المجتمع. طبقتان فقط، فاحشة الثراء، وبالغة الفقر.
الهروب الجماعي
لا تمثل حالة أحمد شيئاً فريداً في السياق السوري العام، بل ثمة حقيقة ما يمكن وصفه بالهرب الجماعي من الوظائف الحكومية، هروب صار يشمل آلاف الحالات، في ظاهرة غير متوقعة وتحمل ما تحمله معها من مؤشرات ودلالات الى مستقبل البلاد.
لا تقتصر الاستقالات على محافظة واحدة لتكون حالة شاذة، بل شملت الموجة الأخيرة من الاستقالات الجماعية موظفين في دمشق وريفها، السويداء، حمص، اللاذقية وحدها (500 استقالة من مختلف القطاعات)، طرطوس، القنيطرة. ولعلّ أخطر ما في هذه الظاهرة هي ما طاول القطاع الصحي المتهالك أساساً، والذي وجد نفسه في أتون حرب شرسة نهشت جسده لسنوات، وما إن خرج منها حتى دخل معركة كورونا، ومنها إلى وباء كوليرا المستجد والمتنامي أخيراً. ففي هذا القطاع وحده ثمة أكثر من ألف استقالة هذا العام.
كل ذلك وسط خشية نقابية صدرت عن اتحاد العمال والنقابات تقول إنّ: “مسلسل الاستقالات لم ينتهِ والحبل على الجرار، وهذا سيؤدي في نهاية المطاف إلى إفراغ المؤسسات من كوادرها العمالية”.
الهروب
عدد من الموظفين، يمكن القول إنّه ليس قليلاً، لم يحصل على الموافقة الأمنية بترك وظيفته، فقام بتركها عبر التسلل بصورة غير شرعية إلى لبنان، أو تركيا، وذلك لأنّ الموظف إذا كان على رأس عمله سيصعب عليه الحصول على إذن سفر.
وهذا بالضبط ما حصل مع توفيق (اسم مستعار لموظف حكومي في حماة)، لم يستطع الحصول على موافقة على الاستقالة، فهرب بصورة غير شرعية عبر أحد معابر التهريب بين حمص ولبنان، ومن هناك، على ما قاله الى “النهار العربي”، سيتلمس طريقه نحو بلد آخر، “لا يهم إن كان بالقارب أو الطائرة، المهم أنني أريد حياة جديدة أعيش فيها هانئ البال مطمئناً أجني ما يكفيني لأعيش حياة كريمة، فمرتب الوظيفة في بلادي ما عاد يطعم خبزاً، والبقاء هو استنزاف للأيام وحرق للمستقبل”.
بقي اثنان
يمكن القول إنّ من بقيَ في وظيفته حتى اليوم هما اثنان، الأول: لا إمكان أو رغبة لديه في مغادرة البلد، وبالتالي يعمل بالمبدأ القائل (بحصة بتسند جرّة)، وكذلك قد يعمل في وظيفة أو اثنتين إضافة الى وظيفته الأساسية، علّه يحصل بعض الأموال التي تعينه على قضاء يومه.
والآخر هو مرتشٍ لا يترك الوظيفة أياً كانت المغريات، فهو يجني منها أموالاً كثيرةً تفوق دخل مجموعة موظفين مجتمعين، في ظل فساد مستشرٍ صار معروفاً في سوريا.
وبين صبر الأول، وفساد الثاني، ثمة حكايات سورية لا مكان لذكرها، حكايات كثيرة، فلكل سوريٍّ قصته مع الوجع، الظلم، القهر، البحث عن إعالة تكفيه ليظلّ عزيزاً كريماً لا يمدّ يده لأحد.
أخيراً قال “برنامج الأغذية العالمي” إن عدداً قياسياً من السوريين يعانون من انعدام الأمن الغذائي، حيث يكافح 12.4 مليون شخص حالياً للحصول على وجبة أساسية.
ويمثل هذا العدد ما يقرب من 60 في المئة من سكان البلاد، وقد زاد هذا بنسبة هائلة بلغت 4.5 ملايين شخص خلال العام الماضي وحده، بينما يوجد نحو 1.8 مليون شخص آخرين معرضين لخطر انعدام الأمن الغذائي، ما لم يتم اتخاذ إجراءات إنسانية عاجلة.
المصدر: النهار العربي