د-عبدالله تركماني
يدفعني إلى إعادة نشر هذه المحاضرة، التي أعددتها منذ 20 عاماً، أنها لم تفقد قيمتها المعرفية، بل بالعكس نحن أحوج ما نكون إلى الحوار الثقافي اليوم، إزاء مخاطر التعصب والتطرف والإرهاب.
خلال سنة الحوار بين الحضارات طرحت غزوة نييورك في11 سبتمبر/أيلول 2001 تحدياً حقيقياً وجاداً أمام كافة المبادرات الخاصة بالحوار لإثبات مصداقيتها وتأثيرها المتعدد الأبعاد في العالم كله، سواء على دوائر صنع القرار أو وسائل الإعلام أو المراكز الأكاديمية والبحثية أو منظمات المجتمع المدني، فهذا التأثير وتلك المصداقية هما المعيار والحكم على صلة هذه المبادرات بالواقع المعاش والقدرة على إحداث تغيير إيجابي في مناهج التفكير والسلوك والتعامل مع الآخر. ولئن كان الحوار بذاته ليس جديداً، إلا أنّ أرضية جديدة تشكلت إثر غزوة نييورك التي تركت بصماتها بقوة على خارطة العلاقات الدولية، بما فيها الجوانب الثقافية. إذ أصبحت الدعوة لحوار الثقافات حيناً، وحوار الحضارات والأديان أحياناً أخرى، تمثل القاسم المشترك بين الكثير من المثقفين ورجال السياسة والدين والمفكرين، ليس في العالم العربي فقط، بل في العالم كلِّه أيضاً.
ومن المؤكد أنّ العالم غنيٌّ بثقافات القارات الخمس، ومضطر إلى صياغة قواعد لتعايشها وانسجامها، ويحمل في ذاته القدرة على مواجهة تحديات تاريخه الكبرى. فتاريخ الجنس البشري هو سلسلة من الانتقالات، الثقافية والجغرافية، تقودها في عصر ما حضارة ما في موقع ما. وهكذا انتقل من الحضارة الفرعونية والآشورية والفينيقية إلى الحضارة اليونانية، ثم الرومانية فالعربية – الإسلامية، وأخيراً، وليس آخراً، الحداثة الغربية.
وبدلاً من المزاعم الخرقاء عن اختلاف الحضارات المعاصرة وصراعاتها المزعومة ينبغي التحرك للكشف عن المضامين الثقافية المشتركة الكامنة في أغلب ثقافات الجنس البشري، والتي تنشد حرية الإنسان وانتصاره المتلاحق على اختناقات الضرورات المختلفة. ففي عالم تكتنفه تحوّلات عميقة، كيف نفكر في تواصل التاريخ الإنساني وفي المحافظة على حلم البشرية بحياة أفضل لأكبر عدد ممكن من الناس؟ وهل نستطيع الحفاظ على رؤية لمشروع كوني يتماشى مع التعددية ويغتني بالثقافات المتنوّعة؟
وإزاء هذا الطموح، كيف يمكن لنا أن نضبط آلية الحوار الثقافي والتفاعل الحضاري مع العصر؟ وأين يقف عالمنا العربي من التغيّرات العميقة التي شهدها العالم؟ وما هي أهمية الحوار في بناء الحضارة الإنسانية المشتركة؟ وأية إنسانية مشتركة للمستقبل؟
I – ارتباك منهج ومصطلحات الحوار الثقافي
لا شكَّ بأنّ الخطاب الثقافي، في ظل ما تشهده المجتمعات المعاصرة من تحدّيات وتحوّلات، هو خطاب الأزمة: فمن جهة، هناك الانهيارات السياسية والأيديولوجية التي أصابت العديد من الأفكار والنظم والمشاريع. ومن جهة ثانيـة، هناك الطفرات المعرفية التي شهدتها الفلسفة وعلوم الإنسان، والتي أسفرت عن انبثاق قراءات جديدة للحداثة وشعاراتها المتعلقة بالعقل والحرية والتقدم. ومن جهة ثالثة، هناك الثورات العلمية والتقنية والمعلوماتية التي ندخل معها في طور حضاري جديد. وعليه، يبدو أنه من الضروري أن يعمل المرء على إعادة صياغة وترتيب أفكاره، بما يمكّنه من فهم وتشخيص هذه التحوّلات العميقة بداية، ومن ثمَّ الانخراط في تحويل وتغيير الواقع في اتجاه التكيّف الإيجابي مع معطيات وتحوّلات العالم المعاصر.
فعلى رغم الاهتمام الواسع بالحوار الثقافي وأهمية الدور الذي يُتَوَقَّعُ أن يؤديه فغالباً ما اتسمت مبادراته بالارتباك المنهجي وبنوع من الاندفاع وربما التلقائية أيضاً، كما لو أنّ قضايا الحوار وغاياته ومنهج إدارته أصبحت مسلمات معلومة، وأنّ ما ينقصنا هو مجرد جمع النخب من أهل الرأي والخبرة حول طاولة واحـدة.
إذ لابدَّ من امتلاك فهم دقيق لديناميكية التحوّلات الشاملة المتسارعة ونهج صيرورتها وطبيعة محدداتها والعوامل الفاعلة فيها وما يصحُّ وما لا يصحُّ أن يكون موضوعا للحوار، وذلك حتى تأتي مواقفنا حكيمة من حيث كونها:
1 – هادفة، تعكس حالة استيعاب منهجية للواقع ولمكامن المصلحة الحقيقية في ما يتعلق بغايات تكييف هذا الواقع والتكيّف معه، وحيث لا نبدو كأننا في حالة صراع محبطة مع حقائق الواقع ذاتها، وفي حالة تناقض موضوعي مع مقتضيات المواكبة الحضارية، التي أصبحت أهم محددات مصيرنا.
2 – من حيث كونها محمية من مخاطر الوقوع تحت تأثير حالة من التشويش المرجعي والمنهجي الذي يؤدي إلى إدارة الحوار بروح ورؤية عاطفية، وبآلية سجالية، يتحول معها الحوار إلى غاية قائمة بذاتها.
وبالنسبة للمصطلحات، فربما كان من الضروري أن نحدد معنى الثقافة في تميّزها عن الحضارة وفي تقاربها منها، خاصة أنّ الكثيرين غالباً ما يدمجون بين هذين المفهومين. فالحضارة في المعنى الحصري هي نمط عيش وطريقة تعامل مع الكون ومع الإنسان الآخر ومع المجتمعات يركز على الوسائل والأدوات والمنتجات المادية، بينما الثقافة هي حياة الروح والفكر والقيم تعنى أساساً بالقيم والجوانب المعنوية.
إنّ الثقافة مصطلح خلافي يتراوح مدلوله بين اتجاهين: أولهما، يكاد يحصر مدلول الثقافة بالإنتاج الفكري والأدبي والفني واللغوي. وثانيهما، يوسع المدلول حتى تكاد كلمة الثقافة ترادف الحضارة. وبهذا الصدد نلاحظ أنّ كلمة ” ثقافة ” باللغة العربية تتميز تميّزاً واضحا عن كلمة ” حضارة “، وذلك بتركيزها على الجوانب النظرية والفكرية والروحية والفنية والجمالية بشكل عام، أي على النواحي المعنوية من الحضارة. ويبدو ذلك واضحاً في تعريف ” المعجم الوسيط ” إذ يعرّف الثقافة بأنها ” العلوم والمعارف والفنون التي يُطلَب الحذق فيها “. ويسانده في ذلك ” المعجم الفلسفي ” الذي يفرّق بين كلمة ” الحضارة ” التي تميل إلى الطابع الاجتماعي والمادي الأشمل، وكلمة ” الثقافة ” التي توصف بأنهــا ” كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق، وتنمية لِمَلَكَةِ النقد والحكم، لدى الفرد أو في المجتمع، وتشتمل على المعارف والمعتقدات، والفن والأخلاق، وجميع القدرات التي يسهم فيها الفرد في مجتمعه، ولها طرق ونماذج عملية وفكرية وروحية، ولكل جيل ثقافته التي استمدها من الماضي، وأضاف إليها ما أضاف في الحاضر، وهي عنوان المجتمعات البشرية”.
بينما تُستعمَل كلمة ” ثقافة ” في الغرب للتعبير عن الحضارة الشاملة، بمؤسساتها ومظاهرها وأسسها المادية والمعنوية، حيث تشمل الأمور التالية: تهذيب وتدريب العقل والعواطف وآداب السلوك وغيرها، وحصيلة هذا التدريب كلها، ومفاهيم وعادات ومهارات وفنون وأدوات ومؤسسات …، أي الحضارة. ويظهر ذلك في تعريف قاموس وبستر للثقافة ” نموذج كلي لسلوك الإنسان ونتاجاته المتجسدة في الكلمات والأفعال وما تصنعه يداه، وتعتمد على قدرة الإنسان على التعلّم ونقل المعرفة للأجيال التالية “.
وفي هذا السياق، تبرز أهمية الثقافة باعتبارها تعبّر- بداية – عن قدرة الجماعات البشرية على التكيّف، بطريقة خلاقة، مع البيئة التي تعيش فيها. وهنا تبرز نسبية وتعددية الثقافة القائمة على تاريخيتها المعيّنة بمكان وزمان محددين، كما تجعل كل نظام اجتماعي- ثقافي يتميز بما يمكن تسميته بـ ” الشخصية الأساسية “، وهي جماع صفات وميول واتجاهات، توجد بنسب وطرق مختلفة بين أفراد ثقافة ما، وهذا جانب مهم يؤكد ” الخصوصية الثقافية ” للأمم.
فإذا كانت الثقافة كلمة مرادفة، تبعا لرؤية بعض الخبراء في الميدان الثقافي، لمجموع القيم والعادات والتقاليد والآداب والفنون والأساطير والدين، وجميع النظم التي تحدد سلوك الأفراد والجماعات وتوجهها، فتصبح هي نفسها – أي الثقافة – الطريقة التي يعبّر بها مجتمع أو مجموع من المجتمعات عن نفسه مادياً ومعنوياً، وفي إنتاج وعيه الذاتي، الجمعي والفردي، لتشمل جميع الصيغ والتوجهات والتصورات والمنظورات والمبادئ الكبرى والحلول المحتملة، التي تترسخ لدى شعب أو جماعة من الجماعات، انطلاقاً من تفاعل هذه الجماعة الطويل مع البيئة المادية والطبيعية. إذ يرى الدكتور برهان غليون أنّ هذه الطريقة هي التي تصوغ من خلالها الجماعة صورة وجودها، وشخصيتها والمعاني العميقة والمثـل، التي تقود سلوكها وتوجهها، بوصفها معطى تاريخياً حياً، ترثه الجماعات جيلاً بعد جيل، وتعيد استثماره وتوظيفه لتبلور المواقف المطلوبة في مواجهة الظروف الجديدة التي تعترضها، وفهمها، وفي الرد عليها أيضاً.
ومن هنا فإنّ حوار الثقافات يعني إدخال كل تجارب الحياة داخل مجال النظر والتأمل، وإشراك الرؤى التي جسدتها ثقافات الشعوب، صغيرها وكبيرها، في التنقيب عن الأبعاد التي فقدها الإنسان خلال فرص التاريخ، والتي تجلت في هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون وعلوم ودول. إنها المقاربة التي لا تكترث للانتماء الكلي الذي يدمج حقائق الجزئيات بقالب لفظي، بقدر ما تلاحق التجارب المفردة والمختلفة، من أجل اكتشاف الأبعاد التي سطّحتها حياة الاستهلاك وطمسها منطق السيطرة. إنها مقاربة ميكرو- ثقافية، لا تقيس الثقافات بحجم صخبها، بقدر ما تسجل تجارب إنسانية يكون داخل كل منها إنسان آخر وحياة جديدة.
فلربما يكون تعبير حوار الثقافات هو التعبير الإنساني عن رغبة كل الشعوب لتلبية نداء عميق لإنسانية أضحت ظمأى للسلام، وليس أمامها سبيل للتقدم والرقي إلا التضامن بعد أن تقاربت فيما بينها وسقطت حواجز الزمان والمكان، بفضل ثقافة العولمة. وهذا يفترض وجود حدٍّ أدنى من المرجعية المشتركة، والقيم التي تشكل مرجعية هذا الحوار وحافزه، ليست اليوم شيئاً آخر سوى القيم التي عممتها الحضارة الحديثة وعمقت مفاهيمها، أعني قيم الحرية والعدالة والمساواة بين جميع البشر شعوباً وأفراداً على حدٍّ سواء. وهذا يعني أنّ الحوار لا يدور في إطار الخصوصيات القومية أو الثقافية، ولكن في إطار المشترك الحضاري، أي القواعد والمعايير والقيم التي يقبل الجميع النظر إليها باعتبارها قاسماً مشتركاً مقبولاً من جميع أو أغلب المجتمعات البشرية. لكنّ هذه القواعد والمعايير والقيم ليست هي موضوع الحوار وإن كان النقاش فيها ضرورياً أحياناً لإنجاح الحوار، وإنما موضوعه هو المشاكل المختلفة التي تعاني منها البشرية اليوم.
ولعلَّ منبع تجدد الإشكال الثقافي اليوم راجع إلى تصادم حقيقتين بارزتين هما: أولاهما، الالتزام الجماعي بمقتضيات الكونية الناتجة عن مسار تَوَحُّد البشرية واقتران مصائر أبنائها، من خلال الثورة الاتصالية والاندراج في الاقتصاد العالمي. وثانيتهما، الإقرار النظري والمعياري بحق الثقافات في الاختلاف والتمايز وتماثلها من حيث القيمة والمشروعية. والواقع أنّ مكمن الإشكال عائد إلى صعوبة صياغة تأليفية لهاتين الحقيقتين.
إنّ حوار الثقافات مقولة كونية بامتياز، تستدعي النظر بمنظور كوني لواقع العالم، واستحضار مشكلة الكون بأسره لا الانزواء داخل ذاتيات متضخمة تحجب التعرف على خارطة العالم البشرية، وتعيق فهم الذات على حقيقتها. أي ليست إشكالية الحوار في استعادة كل ثقافة موقعها الضائع ودورها المفقود في شبكة علاقات القوة التي لا حصر لها في العالم، أو الدخول في سجال قِيَمِيٍّ أو تبارٍ أيديولوجي بين الكيانات الثقافية، فهذا ليس إلا إعادة إنتاج لفائض القوة ونظام السيطرة الذي يدمّر العالم حالياً.
وليس حوار الثقافات بحثاً عن قواسم مشتركة بين الحضارات الكبرى القائمة، أو الاتفاق على تقاسم سلطة القرار بين التجمعات البشرية الكبرى، فهذا توافق خفي مع مقولة ” صراع الحضارات ” في تفرّد الكتل الثقافية الواسعة في صنع مستقبل العالم، وفي تأبيد أحاديات ثقافية وقِيَمِيّة كقدر محتوم، وفي تحييد الإشكاليات المعاصرة.
وفي المقابل، لا نريده حوار الأمنيات والدعوات الأخلاقية الساكنة، التي يدمنها المهمشون كلما صدمتهم مجريات الأمور، أي لا نريده تعبيراً عن أخلاق الضعفاء الذين يعوضون ضعفهم بسمو قِيَمِهم وتعالي ما ورائياتهم.
وهنا يجدر بنا أن نكشف طبيعة الحوار الداخلي للثقافة الواحدة والاستمرار في الحوار الخارجي مع الآخرين، إذ ليس الحوار بين الثقافات في الواقع سوى النتاج الطبيعي لحوار كل ثقافة مع نفسها أولاً. والمقصود هو منظومة المرجعيات الفاعلة في إنتاج وإعادة إنتاج الثقافة نفسها، باعتبارها القوة الفاعلة في بلورة خصوصية الحضارات. إذ إنّ معرفة هذه الخصوصية والإقرار بها والتعامل معها، باعتبارها النتاج الطبيعي لتجارب الأمم يفسح في المجال أمام الممكن في الحوار بين الثقافات وتعميقه، بما يخدم المعنى الإنساني القائم وراء تنوّع الثقافـات.
II – أوليات استراتيجية ثقافية عربية للحوار مع الثقافات الأخرى
إنّ اكتشاف الآخر عملية ممتدة في الزمان، غير أنّ ذلك لا ينفي أنّ هناك لحظات تاريخية فاصلة تشتد فيها الحاجة إلى الاكتشاف المكثف للآخر. فقد برزت الحاجة إلى اكتشاف الغرب لدى المفكرين العرب في بداية النهضة العربية الحديثة، عقب غزو نابوليون بونابرت لمصر في حملته المعروفة، وبروز تقدم النموذج الحضاري الغربي إذا ما قورن بوضعية التأخر التي كانت ترسف فيها المجتمعات العربية. ولهذا كان سؤال النهضة الأولى: لماذا التأخر وكيف نكتسب أسباب التقدم؟
ويجدر بنا اليوم أن نتعلم من روّاد نهضتنا العربية الحديثة، وأن نقلع عن تحميل مسؤولية عجزنا وتأخرنا على الآخر الغربي، فإذا نسبنا مسؤولية كل ما نتعرض له من إجحاف وظلم إلى الآخرين، فلن يكون من الممكن أن نحدد لأنفسنا مهاماً خاصةً بنا، وسنظل أسرى منطق دائري يجعلنا نعكف على انتظار الخلاص بالصدفة. بينما المطلوب أن نتحرر من هذه النزعة، وأن نجري تغيّرات ثقافية جوهرية، تتضمن – قبل كل شيء – الاعتراف بمسؤوليتنا المباشرة عن أوضاعنا الراهنة وعن مصائرنا، ومن ثمَّ عن المعطيات الأساسية لمستقبلنا في الإطار العالمي.
ومما لاشكَّ فيه أنّ كل ثقافة يمكنها أن تكون فخورة بما حققته وقدمته للعالم، ولكن يجب أن تعي كذلك نواحيها المظلمة. لهذا السبب يجب على كل ثقافة أن تطبق على نفسها مبدأ النقد الذاتي. وفي هذا المجال الأساسي، الذي هو مجال الطريقة التي ننظر بواسطتها إلى أنفسنا، ثمة الكثير الذي لم يتحقق. فالخطوة المنطقية الأولى نحو الحوار يجب أن تكون حوار الذات، بروح نقدية، وبرؤية عميقة وبعيدة لسياق التطور العالمي ومعالم دورنا الحضاري الممكن ومقوّمات تحقيقه وعناصر الإعاقة في الوصول إليه. مسلحين في كل ذلك بشجاعة المصلحين وبإيمان يعيد للعقل سلطانه وللمنهج التاريخي النقدي مكانته، ثمَّ معرفة عميقة بالغير وبمصالحه، وبنظام تفكيره وأولوياته إزاء ما يهمنا من قضايا، وبرغبة صادقة وأمينة في التفاعل البنّاء القائم على الثقة والصدق في بناء وخدمة المصالح المشتركة، من منطلق الاحترام المتبادل وروح الشراكة العادلة والأخوّة الإنسانية الناضجة.
إنّ الخطاب العربي المعاصر الذي ينظر، في بعض أنماطه المرجعية، للحضارة الغربية باعتبارها حضارة مادية لا يجوز الاقتباس من أفكارها، هو خطاب مضادٌّ لعملية حوار الثقافات التي دارت طوال التاريخ. وكما أنّ تلك النظرة إلى الثقافة الغربية، بحسبانها كتلة واحدة صماء، تعجز عن التفرقة الواجبة بين تياراتها المتعددة المتنوعة، فإنّ الحضارة التي تظن أنها مكتفية بذاتها ولا تستمع إلى الثقافات الأخرى ولا تتعلم منها ولا تقتبس الصالح من أفكارها وإبداعاتها ولا تتأثر برؤيتها، هي ثقافات مقضي عليها بالجمود والفناء.
وعندئذ، لابدَّ من أن نميّز بين نوعين من الوعي الثقافي حسبما أورد الدكتور جابر عصفور: وعي ماضوي تقليدي، ووعي مستقبلي استشرافي. الوعي الأول وعي أصولي، نقلي، يحاول أن يشدَّ حياتنا إلى الوراء، وذلك على نحو يغدو معه سؤال المستقبل سؤالاً غائباً في حياتنا وليس عنصراً تكوينياً من عناصرها الحيوية.
وأما الوعي الثاني فهو نقيض الوعي الأول، لأنه وعي يفتح أفق التجريب والمبادرة، ويقيس على الحاضر في حركته إلى المستقبل، ولا ينشغل بالماضي إلا بوصفه عنصراً من عناصر الحاضر الذي يقبل التحول والتطور والمساءلة. ولذلك فهو وعي حداثي بالضرورة، وتجريبيته هي الوجه الآخر من نسبية اجتهـاده، فهو وعي لا يعرف الحلول الجاهزة أو الإجابات المسبقة، ولا يؤمن بالمطلقات الإنسانية التي تشلُّ الحركة، أو الدوائر المغلقة للفكر. وسؤال المستقبل عنصر تكويني في هذا الوعي وعلامة عليه، سواء في حرصه على الارتقاء بالإنسان من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، أو الانتقال بالمجتمع من وهاد التأخر إلى ذرى التقدم.
وهكذا، يبدو واضحاً أننا أحوج ما نكون إلى إعادة صياغة الخصوصية الثقافية العربية، بمعنى أننا في حاجة ملحّة إلى عملية إحياء ثقافي، فالثقافة العربية الراهنة تمرُّ في مرحلة انحطاط وردة واضحين. إذ هناك تراجع عن التفكير المستقبلي لفائدة التفكير الماضوي، الذي يجهد في محاولة إرجاع العالم العربي إلى العصور المظلمة، ويحفّزه على التشبث بمرجعية ماضوية، وكأن الماضي ينبغي أن يحكم الحاضر والمستقبل.
إنّ الحوار مع الآخر يوفر مكاسب كبيرة: فهو يجنبنا تصادماً محكوماً بالخسارة، نتيجة اختلال المعادلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية بين الطرفين، العربي والغرب، ويشكل صمام أمان لمجتمعاتنا يجنبها اندفاع العولمة إليها بشكل غير منضبط، كما يوفر أجواء مناسبة للاحتفاظ بالذات وتقاليدها وشخصيتها المستقلة المتفتحة.
ما موقفنا من قضية حوار الثقافات بعد التأصيل السابق؟ أتصور أنه لابدَّ أن يكون موقف الدعم، ما ظل الحوار من منطلق التنوع البشري الخلاق أولاً، وبحثا عن أفق متوازن للتفاعل بين العام والخاص، العالمي والعربي ثانياً، وقائماً على الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف والتميّز بخصوصيته ثالثاً، وداعماً لقيم العدل الاجتماعي وآفاق الحرية الفكرية والإبداعية رابعاً.
III – مكانة ودور الحوار الثقافي في بناء الحضارة الإنسانية المشتركة
إنّ الاهتمام العالمي بالحوار الثقافي والحضاري أبرز مستوى النضج الذي وصلت إليه البشرية، وأظهر مدى رغبة الأمم في الاتجاه نحو تغليب نزعاتها الإنسانية المسالمة على نزعاتها الصدامية الصراعية. فقد أحدثت سنة الحوار الحضاري، خلال عام 2001، في الساحة العالمية هزة أبرزت كل ما يرتبط بالبشرية من شوائب، وجعلت هذه الشوائب تطفو على السطح، بعد أن كانت مختفية وراء حجب المجاملات والنفاق. كما أبرزت جانب القوة في حضارتنا المعاصرة، وكذلك أظهرت ما تنطوي عليه الساحات العربية والعالمية من ضعف قد يؤدي إلى الإبادة والدمار.
لقد أظهرت هذه السنة مدى الهوة التي تفصل بين غنانا الحضاري على المستوى النظري وبين فقر حركتنا الثقافية في واقعنا العملي، كما أنها غلّبت العلاقة الثقافية والحضارية بين الشعوب على محدودية العلاقات العربية والإقليميـة، وفرضت نقاشاً جاداً في العالم.
ففي عالم مليء بالابتكارات وبالتحوّلات الراديكالية، كيف نفكر في تواصل التاريخ، وفي المحافظة على الحلم البشري بحياة أفضل لأكبر عدد ممكن من الناس؟ وهل نستطيع الحفاظ على رؤية لمشروع كوني يتماشى مع التعددية ويغتني بالموروثات الثقافية المتشابكة؟ أم سيُفرض نموذج حضاري واحد؟ هل نحن إزاء عملية تثاقف، بما تعنيه من إصغاء متبادل من سائر الثقافات إلى بعضها، أم إزاء عنف ثقافي مفروض بقوة المال والسلاح؟
لقد بدأت فكرة ” حوار الحضارات ” تنتشر وتتطور بموازاة فكرة ” صراع الحضارات ” وفي مواجهتها، وكان أول من تلقفها المنظمات الثقافية الدولية. ففي مواجهة الصراعات المتزايدة حول مفاهيم الهوية المنغلقة، تكتسب أفكار الحوار والتنوع البشري الخلاق، التي تبنتها منظمة ” اليونسكو “، جمهوراً متزايداً في أوساط النخب الثقافية والسياسية، باعتبارها تهدف إلى احترام الاختلاف بوصفه سبيلاً للاتفاق، وتأكيد أنه ما من أمل في سلام البشرية إذا ما ظلت حضارة من الحضارات أو ثقافة من الثقافات أو أمة من الأمم تمارس قهراً سياسياً أو فكرياً على غيرها من الحضارات أو الثقافات أو الأمم، بدعوى أنّ الطبيعة والتاريخ ميزاها على غيرها بما لا يمتلكه سواها. فمستقبل البشرية مرهون بالاحترام المتبادل، والتخلي عن رواسب التمييز العرقي أو التعصب المذهبي، والتسليم بأنّ إنكار الخصائص الثقافية أو الحضارية لشعب من الشعوب إنما هو نفي لكرامة هذا الشعب وكرامة الإنسانية جمعاء.
وهكذا لا يستقيم حوار الدول والجماعات إلا بشرطين: أولهما، إدراك أنّ الحوار ليس بين ثقافات ولكن بين جماعات ومجتمعات، وأنّ موضوعه بالتالي ليس هويتي وهويتك، وقِيَمِي وقِيَمِ الآخر، ولكن مشكلات مشتركة اقتصادية وسياسية وثقافية، بما في ذلك قِيَمِيَّة، أو مشكلات لاتُحَلُّ إلا بصورة مشتركة وعالمية. وثانيهما، أنّ هدف الحوار ليس الوصول إلى إضعاف الاختلافات الثقافية والحضارية ولا إيجاد تسوية بين القِيَمِ المختلفة التي تميّزها، ولكن العمـل، فيما وراء الثقافات الخصوصية، لإيجاد قاسم مشترك أعظم من القِيَمِ التي تؤسس لإجماع إنساني تاريخي، وتدعم بالتالي فكرة تكوين مرجعية أخلاقية عالمية تضمن الالتزام السليم بالمبادئ المشتركة. فقد أصبحت مثل هذه المرجعية العالمية ضرورة بموازاة تطور العولمة، بما تمثله من مركز احتكام جماعي للضمير الإنساني في مواجهة تجاوز القانون والأخلاق من قِبَلِ جماعات وشركات ودول تعمل من منطق الدفاع الأناني عن مصالحها الخاصة، حتى لو كانت نتيجة ذلك تدمير موارد المجتمع الدولي وزعزعة استقراره.
وعندما نتحدث عن حوار بين مجتمعات وجماعات لا بين حضارات ولا بين ثقافات، فهذا يعني أننا نتحدث عن حوار بين بشر يتمتعون بملكات عقلية وعاطفية متشابهة ومشتركة، وهو وإن حصل بين شعوب تنتمي لثقافات مختلفة في اختياراتها ومنظومات قِيَمِها إلى هذا الحدِّ أو ذاك، فهو من صنع أفراد يملكون إرادةً ووعياً قادرين على تجاوز خصوصياتهم الثقافية الضيقة وتحديد المشاكل المختلفة التي تتعرض لها البشرية، وعلى التوصل إلى تعيين أسبابها، وعلى التفاهم حول وسائل حلها. فلا ينبغي لنا أن نتصور أنّ هناك مجتمعات أسيرة حضاراتها أو ثقافاتها، لا تستطيع أن تخرج منها ولا أن تتجاوز معاييرها، ولو حصل ذلك لما كان هناك أي مبرر للحديث عن حوار أصلاً. إنّ الناس أسياد مصيرهم بالرغم من الخصوصيات الضاغطة، ولأنهم كذلك فمن الممكن الحوار معهم، والأمل بإمكانية الالتقاء في منتصف الطريق بما يسمح بالتوصل إلى حلول تضمن مصالح الأطراف المختلفة.
إنّ التقارب بين الجماعات لا يتحقق من خلال التقريب بين مذاهبها أو منظومات قِيَمِها أو مرجعياتها الثقافية الخاصة، ولا يتحقق- بالتالي- من خلال إضعاف ما تشعر أنه يمثل خصوصيتها، وإنما يتمُّ ذلك التقارب بين الجماعات من خلال توسيع دائرة مشاركتها في مرجعيات إضافية، وتحريرها – من ثمَّ – من حتمية الاعتماد المطلق والأحادي على مرجعياتها الثقافية التاريخية. وهذا يعني إيجاد فرص أكبر لتنويع هذه المرجعيات، بحيث يبدو الانفتاح على الآخر إثراء للنفس لا إفقاراً لها.
ولكي ينجح حوار الثقافات لابدَّ أن يتمَّ بين منظمات المجتمع المدني في الجامعات وفي النوادي الفكرية ومراكز الأبحاث، وليس بين المنظمات الحكومية فقط، بين الناس كافة في المستوى الذي يملكه الناس من مفردات الحوار، من المواقع التي مثلت الحضارة قاعدة لها وعمق وامتداد لحركتها ولمفاهيمها ولعلاقاتها.
IV – أية إنسانية مشتركة للمستقبل
تعلّمنا من التاريخ أنّ الثقافات المنشغلة بسؤال المستقبل والمشتغلة به في آن هي الثقافات المتطلعة إلى التحول، الباحثة عن التغيير، الساعية إلى التقدم، وأنه بالقدر الذي تعي به الثقافة سؤال المستقبل، من حيث هو عنصر حضور فاعل في تكوينها، تتحدد قابليتها للتطور، وقدرتها على التقدم، ورغبتها في الإبداع الذاتـي. وبقدر غياب سؤال المستقبل عن الثقافة، وانشغالها عنه بنقائضه، تتهوس بماضيها الذي يشغلها عن مستقبلها، ويحول بينها وبين التطلع إلى ممكنات الغد.
وعندما نتأمل حضور أو غياب سؤال المستقبل في الثقافة على هذا النحو فإنّ حضور السؤال نفسه أو غيابه يغدو موضوع بحثنا وهدف تأملنا، بوصفه علامة كاشفة في ذاتها، أو بوصفه ينطوي على مدلولات متعددة، تكشف عن الشروط الفاعلة في علاقات إنتاج الثقافة وعمليات استقبالها. أما إذا تأملنا الثقافة نفسها من منظور سؤال المستقبل، فإنها تتحول من موضوع مباشر للبحث وتغدو بنية قابلة للتأمل، من حيث ما يمكن أن تقوم به من دور أو أدوار في المستقبل، وما ينتظرها من تحديات أو مخاطر، وما يمكن أن تؤول إليه من تحولات تتراوح بين أقصى درجات الإيجاب أو أقصى درجات السلب.
وسواء كنا في الوضع الأول الذي يتأمل سؤال المستقبل في الثقافة، أو في الوضع الثاني الذي يتأمل مستقبل الثقافة نفسها، فإنّ كلا الوضعين وجه لعملية عقلية واحدة، ذلك لأنّ تأمّل حضور رؤى المستقبل أو غيابها في الثقافة هو الخطوة الأولى على طريق الإجابة عن السؤال الخاص بمستقبل هذه الثقافة.
ولكن ثمة اتجاهات في الغرب تعمل على تعطيل هذا الميل نحو ثقافة عالمية قائمة على التنوّع البشري الخلاق، ومن ذلك فكرة ” صراع الحضارات ” التي أطلقها صموئيل هنتغتون. إذ يقول ” إنّ الحضارات هي القبائل الإنسانية، وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق كوني “. ويذهب إلى تعريف موضوعه بالقول ” إنّ الثقافة والهويات الثقافية، والتي هي على المستوى العام هويات حضارية، هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة “. ويبشّر بعالم تكون فيه الهويات الثقافية – العرقية والقومية والدينية والحضارية – واضحة، وتصبح ” هي المركز الرئيسي، وتتشكل فيه العداوات والتحالفات وسياسات الدول طبقاً لعوامل التقارب أو الاختلاف الثقافــي “.
ولا شكَّ أنّ نظرية هنتغتون حول ” صراع الحضارات “، خاصة إذا لاقت رواجاً في أوساط النخب السياسية والثقافية الغربية، تحمل في طياتها احتمالات تزايد ظهور أصوليات تسعى إلى إثارة الشعور بالخصوصيات القومية، ومواجهة الآخر، وكأن استمرار حضارة ما لا يتمُّ إلا بالتهام أو إضعاف الحضارات الأخرى. في حين أنّ العالم أحوج ما يكون إلى حوار الثقافات كأسلوب جديد في التفكير، تفرضه التغيّرات الهائلة في عالم اليوم، إضافة إلى أنه تقليد قديم شهدته البشرية على مرِّ العصور.
بالرغم من ذلك، نعتقد أنّ القرن الواحد والعشرين سيشهد درجة أكبر من التسامح بين الثقافات، وهو تسامح يقوم على أساس المعرفة والفهم لتلك الثقافات ومبررات وجودها، ومعاني رموزها، والسلوكيات المرتبطة بها، والقيم التي تكمن وراءها. وهو الأمر الذي سيجعل التسامح قيمة من قيم المستقبل، رغم اختلاف النظرة والفكرة والسلوك والمعتقد. وهذا من المؤشرات الهامة على أنّ قيم المستقبل ستكون قيماً إيجابية فاعلة أكثر منها مواقف سلبية انفعالية، حيث سيجري الاهتمام بالمستقبل والنظر إلى الأمام، واحترام قوى التقدم والنجاح والإنجاز أكثر من النظر إلى الوراء وتمجيد الماضي والارتباط به أو الاستكانة والرضا بالأمر الواقع، ومحاولة إيجاد مبررات لقبوله. وإن كان هذا لا يعني التنكر للتراث الثقافي، وإنما يعني مراجعته وإحياءه من خلال إبراز الجوانب الإيجابية فيه التي تضيف إلى الحضارة الإنسانية.
وفي القرن الحادي والعشرين تواجه البشرية خيارين مختلفين لا ثالث لهما: إما إعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم تحت شعار النظام العالمي الجديد، أو خلق نظام ما بعد الهيمنة والذي سيستمد مضمونه من البحث عن أرضية مشتركة بين التقاليد المكوّنة للحضارة الإنسانية، التي تتمثل في:
(أ) – الاعتراف المتبادل بالتقاليد المميزة للحضارات الإنسانية المتعددة.
(ب) – تجاوز نقطة الاعتراف المتبادل والاتجاه نحو تقبّل التفاعل بين الهويات الثقافية المتعددة والتي تسمح بالتعايش بين مختلف التقاليد الحضارية.
ومن أجل ذلك، فلنجرؤ على توكيد وجود أخلاقيات عامة، هي تلك التي ألهمت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948. فعلى العكس من مزاعم أعداء الحرية والأصوليين من كل حدب وصوب، ليست هذه الأخلاقية نموذجاً غربياً، وحصان طروادة الثقافات الموسومة بـ ” العار “، بل إنها ميزة إنسانية. وهي ميزة كل الشعوب، وكل الأمم، وكل الديانات، لأنه ليس ثمة دين تأسس على إفناء الناس وإلغاء تميزهم ورفض رؤيتهم للكون والمجتمع. لذا يجب علينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نعمل على حمايتها وإحيائها وأن نكون على مستوى قيمتها العامة. والتوكيد على هذه العمومية يعني التشديد على التضامن الذي يوحد كل الناس، كما يعني البحث في كل حضارة عن تعبيرات مثال أعلى مشترك، ويعني الإقرار بأنّ الحقيقة يمكن أن تعبّر عن نفسها بعدد لامتناهٍ من اللغات. ليس ثمة أي تناقض بين الأخلاقيات العامة وتنوّع الثقافات، لأنّ احترام هذا التنوّع هو من صلب هذه الإنسانية التي ننادي بها ونتمناها.
إنّ حوار الثقافات هو مشروع حياة البشرية ومستقبلها والمنهج الذي يدفع الشعوب إلى أن تتعاطى مع بعضها بالأسلوب الإنساني الرفيع القائم على أساس التعارف لا الخصام. والحال أنّ مختلف المنظومات الثقافية العالمية تتحسس الحاجة الموضوعية إلى صياغة وتقنين مقتضيات الكونية، حتى ولو اختلفت، جزئياً، في ضبط معايير ومحددات هذه الكونية. بيد أنّ الاعتراض لا يصل إلى قاعدتها القِيَمِيّة من: تفعيل لحقوق الإنسان، وضمان للحريات العامة، وتكريس لأخلاقيات التسامح، والدفاع عن مبادئ السلم والتضامن الإنساني.
ولعلّنا نتمثل ما دعا إليه المهاتما غاندي حين قال ” لا أريد لبيتي أن تحيط به الأسوار من كل جانب إلى أن تسدَّ نوافذه، وإنما أريد بيتا تهبُّ عليه بحرية تامة رياح ثقافات الدنيا بأسرها، لكن دون أن تقتلعني إحداها من الأرض “. وتبدو أهمية هذه الحكمة الهندية فيما إذا أدركنا الدور البارز للثقافة في تشكيل المجتمع الكوني الموحد في القرن الحادي والعشرين.
إنّ الحوار الثقافي بين الدول والشعوب هو حتما بديل عن وسائل العنف والقـوة، فليس هناك من وجه مقارنة أو مقاربة بين حوار السلاح وحوار العقـول. هو مشروع طويل الأمد، ينطوي على مسؤولية الكلمة، وليس سفسطة رواقيين أو مجرد ثرثرة أو متعة الجدل، نتحاور لنتعارف ونتفاهم. إنّ ما نشهده الآن على الساحة الدولية يشكل حافزاً كبيراً للتأكيد على أهمية الحوار الفعّال، القائم على احترام خصوصية الآخر والعمل على تنمية ما هو مشترك إنسانياً لتتمكن الأسرة الدولية من الوصول إلى بناء عالم خالٍ من الصراعات تسيّره الرغبة الإنسانية الشاملة في التقدم. ولكن حوار الثقافات، على الرغم من ضرورته ومن أهميته، لا يكفي من أجل تحقيق ذلك، إذا بقيت الدول الكبرى تمارس سياسات استعمارية توسعية على حساب شعوب عالم الجنوب، وتستمر في محاولاتها تجاهل الشرعية الدولية، وأيضاً تطبيق سياسات الكيل بمعيارين.