د-محمد مروان الخطيب
يتكرّر مشهد معاناة أهلنا في الداخل السوري وخاصة المهجّرين في الشمال الغربي من سورية في جميع الفصول تقريباً، ولكّنه يشتد ويقسو في فصل الشتاء مع العواصف المطرية التي تضرب مخيمات النازحين وتُغرق خيامهم، التي لا تتوفر فيها متطلبات التدفئة، إضافة إلى قدم الخيم وتدمير العديد منها نتيجة العوامل الجوية المختلفة، مما يؤدي إلى إصابة الأطفال وكبار السن بنزلات البرد، وظهور أعراض صدرية وجلدية عليهم. إلى جانب حدوث حالات وفاة بين النازحين نتيجة انخفاض الحرارة، وفي مقدمتهم الأطفال. فقد غمرت مياه الأمطار مخيمات يسكنها آلاف النازحين، الذين فروا خلال السنوات الماضية من قصف عصابات الأسد والطيران البوتيني لبيوتهم وأحيائهم، فدفعوا ثمن الابتعاد عن القذائف والصواريخ بالعيش في مخيمات تفتقد أبسط مقومات الحياة.
هذه المخيمات التي شكّلت على مدار سنوات متواصلة مدنًا من قماش لقاطنيها، وضعتهم في مواجهة مباشرة مع العديد من التحديات التي تحولت إلى طقوس معاناة دورية وسنوية، جراء معالجتها بحلول إسعافية فقط، تعالج ظاهر القضية، لا أسبابها وجذورها. ففي خلال الأيام القليلة الماضية ونتيجة الأمطار الغزيرة أدت إلى إلحاق الضرر بـ 79 مخيمًا في ريف محافظتي إدلب وحلب شمالي سورية، حيث تضررت 1900 خيمة بشكل جزئي، و920 خيمة بشكل كلي، وكانت تقطن في هذه الخيام نحو 2250 عائلة. وعادة ما تسبب هكذا أمطار بتشريد مئات العائلات معظمهم من النساء والأطفال، بعدما تسقط خيمهم وتفسد المياه أغراضهم. أما العائلات المحظوظة، فتلجأ إلى المخيمات المجاورة التي لهم فيها أقارب، فيسكنوا عندهم ليعيشوا نزوحًا آخر، لكن هذه المرة من مخيم إلى مخيم. وعادة ما تحول الأمطار الغزيرة طرق المخيمات الترابية إلى وحلٍ وطين، فضلاً عن رياح وعواصف تمزّق الخيام التي لم تغرق بعد، ليجد المُهجّرون أنفسهم في العراءِ مجدّداً، مع اضطرارهم إلى نزوحٍ جديد، كما تعتبر الحرائق أحد الأسباب الرئيسة للتهجير الثاني، والتي تنشأ نتيجة عوامل مختلفة، حيث اندلعت الحرائق في العام الماضي في 148 مخيماً، مع توقعات بزيادة الحرائق خلال الفترة القادمة وخاصةً مع الاعتماد على وسائل تدفئة غير صحيحة.
حيث أنه ونتيجة الإجتياح الأخير على ريف إدلب الجنوبي لعصابات الأسد وداعميه من الطيران البوتيني والمليشيا الطائفية الصفوية، أدى إلى وجود أكثر من 1.5 مليون مهجّر سوري يعيشون أوضاعاً مأساوية في مخيمات نظامية وعشوائية يبلغ عددها تقريباً 1259 مخيّماً – قرب الحدود التركيّة – شمال غربي سورية، سبق أن نزحوا وتتالى نزوحهم مرّة بعد مرّة نتيجة الحملات العسكرية المتكرّرة والقصف المستمر للعصابات والطيران البوتيني. ومما يزيد الأوضاع سوءاً هذا العام هو انخفاض نسبة الاستجابة للمنظمات الإنسانية العاملة في هذه المناطق، إلى جانب سعي روسيا لعرقلة دخول المساعدات الأممية عبر معبر باب الهوى الحدودي مع تركيا، إذ سينتهي العمل بالقرار الدولي الخاص بدخول هذه المساعدات إلى المناطق الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد في كانون الثاني 2023، أي في ذروة فصل الشتاء.
وتفتقر الكثير من هذه المخيمات لأبسط الخدمات الإنسانية بدءاً من شبكات الصرف الصحي والمطري، وتأمين العوازل الضرورية لمنع دخول مياه الأمطار إلى داخل الخيام، إذ أن عزل الخيم والأرضيات داخل خيم النازحين تعد مشكلة كبيرة، خاصة مع انتهاء العمر الافتراضي لغالبية المخيمات، إضافة لكون 63% من أراضي المخيمات غير معزولة، كما أن ظاهرة الصرف الصحي المكشوف ضمن مخيمات النازحين تزيد من معاناة النازحين، إذ أن نسبة المخيمات المخدمة بالصرف الصحي لا تتجاوز الـ37% فقط، في حين أن المخيمات العشوائية بالكامل لا تحوي هذا النوع من المشاريع، كما أن المياه النظيفة والصالحة للشرب غائبة عن 47% من المخيمات النازحين، ويتوقع زيادة أعدادها نتيجة توقف المشاريع الخاصة بها. كل هذا يؤدي إلى زيادة في الأمراض الجلدية، نتيجة عوامل مختلفة أبرزها انتشار الحشرات واستخدامات المياه، حيث نجد أكثر من 22% من إجمالي المخيمات تحوي بين سكانها مصابين بأمراض جلدية.
إضافة إلى تزايد الإصابات المسجلة بمرض “الكوليرا”، نتيجة ضعف توريد المياه النظيفة، وارتفاع أسعار صهاريج المياه. ونظراً لتخفيض نسبة الاستجابة للمنظمات الإنسانية العاملة في مناطق المعارضة السورية فإن ذلك سيؤثر بشكل كبير على العمل لتأمين الظروف المقبولة لهذه المخيمات، مما يعني أن المعاناة مستمرة في تلك المناطق، فالأموال التي وعد المانحون بتقديمها في مؤتمر المانحين السابق كانت نحو أربعة مليارات دولار، لم يصل منها إلى الآن سوى ثلثها، ولن يصل في أحسن الأحوال نصفها مع نهاية العام. فالدول المانحة مشغولة بأزماتها الاقتصادية وتعهداتها في الحرب الأوكرانية.
وإذا كان البعض يجد في الانتقال من خيم عشوائية إلى وحدات سكنية خلاصاً من شقاء نزوح طويل، فإنه ومع اقتراب دخول فصل الشتاء تزداد المعاناة بسبب النقص الشديد في وسائل التدفئة والوقاية من الثلوج والأمطار التي تهدد ملايين السوريين، وينعكس انخفاض درجات الحرارة بشكل مباشر على الأطفال وكبار السن ممن هجرهم النظام ودفعهم للنزوح من منازلهم جراء القصف العنيف، إضافة أن عملية تأمين الوحدات السكنية تحتاج إلى زمن وإمكانيات مادية، وهذا ما هو غير متوفر في ظل الانقسام الأميركي – الغربي والأولوية الأوكرانية والأزمات الاقتصادية العالمية والانهيارات السورية، إذ أننا لا يجب أن ننتظر في الظروف الراهنة مبادرات كبيرة عن سورية. لذلك قد يكون الحل منحصراَ بعودة المدنيين إلى منازلهم وبلداتهم ومحاسبة عصابات الأسد وروسيا على جرائمهم بحق المدنيين.
وفي ظل هذه الصورة القاتمة، قد يظن البعض أنه آن أوان الوصول إلى نهاية المأساة السورية، لنكتشف بعد عودة الكوليرا، بأننا مخطئون، وخاصة بعد أن أصبحت القضية السورية مسألة منسية وخارج أولويات الاهتمام الدولي، مما يجعلنا في أمس الحاجة إلى إعادة رص صفوفنا وترتيب أجنداتنا لنستعيد قرارنا الوطني أولاً، ونعيد الثقة بين رأس المال الوطني وحاجة أهلنا الحقيقية بعيداً عن عمليات التغيير الديموغرافي وتثبيت عمليات التهجير القسري لتصبح أمراً واقعاً، وبذلك نكون قد بدأنا رسم الطريق لإعادة الثورة إلى مسارها الصحيح.
المصدر: إشراق