علي محمد شريف
لم يحدث لساكني الأرض عبر التاريخ أن أجمعوا على رأي واحد في قضيّة أو مسألةٍ ما محدّدة، سواء تعلق الأمر بشأنً آنيّ أو مستقبليّ، عقليّ أو حسّي، مادّي أو معنويّ. وفي عصرنا تلجأ المجتمعات السياسية المتحضرة إلى تغليب رأي الأكثريّة لاتخاذ قراراتها بما يخصّ شؤونها ويتعلق بسيادتها ومصالحها، وهو ما يصحّ تسميته بتقديم المصلحة العامّة على ما دونها من مصالح خاصّة فرديّة أو فئوية. لكنّ الأكثريّة في الواقع حالة مؤقتة قد تنتجها ظروف خاصّة أو استثنائية سرعان ما قد تتحوّل إلى أقلية وفقاً للمتغيّرات الذاتية والموضوعية الناجمة عن التجربة أو الظروف الجديدة، وقد تكون الأكثريّة مجرّد صورة كاذبة تمّت صناعتها أو فبركتها بوسائل وآليّات مخادعة ومضللة.
يعدّ التشريع مثالاً حيّاً على سبل تنظيم العلاقات ومعالجة اختلاف الآراء بين أبناء المجتمع الواحد، حيث يتبدّى جليّاً صراع المصالح وبالتالي الإرادات بين عددٍ من الأجنحة يمكن اختزالها في طائفتين. إحداهما تلك التي تتجه لطبع المجتمع بطابع شعبويّ تمييزيّ يوافق تطلعاتها الرغبويّة ويلبي طموحاتها الذاتيّة الفردانيّة، وطائفة أخرى، هي الأعمّ والأوسع، تجد تحقق مصلحتها في وجود نظام عادل يحكم المجتمع. وفي حين تجنّد الطائفة الأولى قدراتها ونفوذها لاستصدار حزمة قوانين تشرعن الاستبداد والطغيان بما يمكنها من تنفيذ مآربها العدوانية التسلطية، تجهد الثانية لبناء منظومة قانونية متكاملة على أسس المواطنة وقيمها تضمن تطبيق مبادئ حقوق الإنسان الأصيلة، وحمايتها وممارستها.
إنّ مبدأ حماية الإنسان وحقوقه الطبيعية ينبغي أن يتقدّم على كلّ غاية أو مصلحة في ذهن المشرّع، ولكن هل يكفي النصّ لتكون حقوق الإنسان مصونة بدون ضمانات حقيقية تكفل التطبيق والممارسة؟ بالتأكيد لا. إذ تكاد لا تخلو الدساتير والقوانين الوطنية في العالم من بنود الحريات والعدالة والكرامة، كذلك وبالرغم من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والقوانين والمعاهدات الدولية المتعلقة بالحقوق السياسية والثقافية والاقتصادية فإن الجرائم ضدّ الإنسانية، وجرائم الحرب والإبادة الجماعية، والانتهاكات الخطيرة للإنسان وحقوقه تمارس بكلّ وقاحة وصلف من قبل الأنظمة التوليتارية والطغيانية في سورية وغيرها من دول العالم دون وجود وازعٍ أو رادع من مجلس الأمن الدولي أو الهيئات السياسية والقضائية الأممية.
ثمة، بالتأكيد، قصور وشلل في النصوص الإجرائية وآليات المحاسبة والردع، وثمّة تجاهل من القوى الكبرى المعنية بحفظ الأمن والسلم الدوليين قد يصل حدّ التواطؤ، بل والاشتراك الجرميّ، والأهمّ ثمّة غياب للأكثرية المهتمّة بمصير الإنسان والعالم، فليس من المعقول مثلاً ان تمتنع محكمة دولية عن محاكمة طاغية ومجرم حرب وأن تدعه يفلت من العقاب فقط لأنّ الدولة التي يحكمها هذا المجرم لم توقع على قانون إنشاء المحكمة وتصادق عليه.
إنّ تغليب المصلحة العامّة في إطارها الأوسع واعتماد مبدأ الأكثرية في اتخاذ القرار، كالاستفتاء على الدستور او اختيار ممثلي البرلمان والحكم، يقتضي فهماً معاصراً لمعنى الدولة الحديثة، ووعياً متقدماً بمفهوم الأكثرية يبتعد عن الانتماءات العرقية والأيديولوجية وغيرها مما يقوّض ركائز هوية المجتمع الوطنية والإنسانية.
إنّ رغبات الإنسان وأفكاره وميوله المكتسبة عرضة للتغيير والبهتان وربما الموت، بل إنّ طبيعة هذا الكائن “العاقل” وحاجاته المتجدّدة تفترض إمكانية في انتماءاته وولاءاته الفكرية والنفسية، وتبديله لأولياته ومسلماته وحتى للجغرافية التي اختارها سكناً لحياته ومماته، فما كان حلماً جميلاً في زمن مضى قد يغدو كابوساً في قابل الأيّام. يبقى أنّ الثابت الوحيد والحقيقة التي لا يمكن دحضها على هذه الأرض هي انتماء الإنسان لإنسانيته وللطبيعة الفطرية التي ينطوي عليها خلقه وتكوينه، ما يوجب عليه البحث في ذاته وفيما حوله عن كل ما يؤكد هذا الانتماء ويعزّزه.
لا بدّ إذاً في ظل هذا الزيف والتضليل من صناعة أكثرية حقيقية ثابتة تمتلك القوة والقدرة على وقف الكارثة المحيقة بالكون، ولتحقيق هذا الهدف تنبغي ثقافة تنويرية مغايرة ومناهضة للسائد من أنماط التدجين والتحشيد الظلاميّ، ولا بدّ من إعمال العقل والارتقاء بالمعرفة بعيداً عن التجديف والإبهام والتلقين، باتجاه الإجابة عن أسئلة الكون وعن المستقبل الغامض البشرية.
المصدر: إشراق