د. مخلص الصيادي
تدخل سورية “المجتمع والوطن والحضارة” عاما جديدا من أعوام ثورتها المستمرة وما زالت تبحث عن طريق للخلاص، وعن سبيل للخروج من حالة الضياع التي دفعت إليها نتيجة سياسات نظام طائفي مستبد فاسد وقاتل، لكن هذا العام الجديد يحمل ثلاثة مشاهد تتكامل مع بعضها لترسم لنا الجديد في المسار المرتقب للملف السوري.
المشهد الأول: الزلازل التي ضربت المنطقة التركية السورية بقوة، وكان الزلزال المزدوج يوم السادس من فبراير أعنفها. وقد ضرب الزلزال على الجانب السوري محافظتي إدلب وحلب بشكل رئيسي كما وصلت آثاره إلى محافظات الساحل وحماة. ومعظم المناطق التي ضربها الزلزال في سوريا هي الواقعة تحت سيطرة قوات المعارضة.
وقد اتخذ النظام العربي والكثير من دول العالم من الكارثة مدخلا لفتح علاقات واسعة مع النظام بدعوى تأمين وصول المساعدات، ولإبداء التعاطف معه إزاء هذه الكارثة، وكان واضحا للجميع أن النظام لم يكترث بالكارثة نفسها أبدا، وانصب اهتمامه على وضع اليد على المساعدات، واحتجازها لنفسه ولعصاباته، ولم ينل المنكوبون منها إلا الفتات، وكان هذا واضحا، ونقلته وسائل الإعلام المختلفة، بل إنه ظهر من خلال أجهزة إعلام النظام نفسه، وظهر في تصريحات وتعليقات مؤيديه في مختلف المناطق بما فيها مناطق الساحل السوري، لكن ذلك لم يغير من سلوك النظام الأمر شيء، وظهر رأس النظام خلال زيارته بهذه المناسبة لمدينة حلب وكأنه سعيد بهذه الكارثة، لقد كانت الابتسامة والبشر والسعادة تطغى على كل ملامح وجهه حتى بدا وكأنه يحضر حدثا سعيدا، فقد فتحت له الكارثة نافذة للفرج، وسبيلا لتجاوز نظام العقوبات الذي يحيط به وبرجالاته وشركاتهم ومؤسساتهم من كل جانب.
إن حجم المساعدات التي تدفقت على سوريا ملأ مخازن النظام، وأخرجته هذه المساعدات من حالة الاختناق التي وصل إليها نتيجة تدهور النظام النقدي والاقتصادي، فكأن الزلزال جاء غوثا ومددا اقتصاديا وماديا له ولعصاباته، فيما بقي الشعب المنكوب يعاني في مواجهة الكارثة الجديدة التي جاءت في وقت كانت فيه كارثة انهيار العملة والاقتصاد والتضخم في أشد حالاتها.
أكثر من ستة الاف سوري قضوا نتيجة الزلزال، ربعهم في مناطق النظام، وعشرات الآلاف شردوا لكن المساعدات لم تصل إلى هؤلاء، وإنما ذهبت إلى مؤسسات الفساد، وعبر منظومة الفساد تسرب بعضها في الأسواق ليباع للناس.
المشهد الثاني: الافتقاد مؤسسات المعارضة المعتمدة لأي فاعلية على مختلف الصعد وفي مختلف الميادين، فقد تم تعطيل المفاوضات الأممية وما عرف بمسار جنيف ولجنة المفاوضات، واللجنة الدستورية، وصار كل ذلك أثرا بعد عين، وغاب أثر “حكومة المعارضة” والائتلاف وما اتصل به من تشكيلات وهياكل في مواجهة كارثة الزلزال واحتياجات الناس في المناطق المنكوبة، كذلك لم يظهر أي أثر يستجيب للأحداث في صفوف الجماعات المسلحة على اختلاف تسمياتها، وتوارت جميعها في ظل حراك السلطة التركية والقوات التركية في هذه المناطق، ، وصار الملف السوري بكل تكويناته خارج يد المعارضة السورية الخارجية، وبيد القوى الإقليمية والدولية “تركيا ، وروسيا وإيران، والولايات المتحدة”.
وليس لهذا إلا معنى واحدا وهو أن ” الملف السوري” لم يعد ملفا يعبر عن قضية واحدة، قضية شعب قام للتحرر من نظام يقهره، وإنما بات ملفا يحتوي مجموعة قضايا مجزأة ومنفصلة، قضايا ” لاجئين، إعمار، إرهاب، إعادة بناء، مفقودين، حقوق إنسان”، وبات مع هذه التجزئة بالإمكان معالجة كل واحدة من هذه القضايا على حدة، دون ترابط بينها، ودون النظر إليها من زاوية “الثورة الشعبية” أو الحراك الثوري الشعبي.
وتبدو هذه الحقيقة واضحة جلية في الاتفاق الرباعي: “التركي السوري الإيراني الروسي”، وحين ينجح هذا الاجتماع المعلن عنه سيكون الملف السوري كاملا تحت يده، وهنا لا وجود للمعارضة السورية التي أشرنا إليها إلا من خلال الوجود التركي في هذه الآلية، أي أن النظام السوري سيعود في عرف تركيا ممثلا لسوريا، وهذا وضع افتقده النظام السوري منذ اثني عشر عاما.
يجب الاعتراف هنا أن هذا أهم وأخطر تقدم سياسي يحصل عليه نظام بشار الأسد منذ تفجر الحراك الثوري السوري في مارس 2011، وحين تنطلق هذه الآلية الرباعية لا يعود هناك من معنى حقيقي لكل تشكيلات المعارضة الخارجية، وتصبح هذه كلها كيانات على طريق التحلل والانفراط.
ولا شك أن هذا التطور للملف السوري، وهو تطور سلبي بحق الشعب السوري وثورته ليس نتاج سوء عمل مؤسسات المعارضة السورية في الخارج وفي المناطق “المحررة” فقط، وإنما نتيجة عوامل عديدة دولية وإقليمية، ونتيجة السياسة العدوانية والمستهترة للولايات المتحدة في المنطقة تجاه تركيا، وتجاه ثورة الشعب السوري، وكذلك نتيجة تطورات الحرب في أوكرانيا، والموقف الأمريكي المستبد إزاء فرص تشكيل نظام دولي جديد، لكن رغم كل هذه العوامل فإن المعارضة السورية تتحمل جانبا مهما من المسؤولية فيما آل إليه الملف السوري.
** ففي أصل التكوين لم يأت انحياز هذه المعارضة للسلاح استجابة للتحدي الذي مثله عنف النظام وأجهزته، بقدر ما جاء استجابة لبرامج وتصورات قوى خارجية في طريقة التعامل مع حراك الشعب السوري، مع الربيع السوري، وتحقيقا لرغبة عمل نظام بشار الأسد لتحقيقها، لذلك انطلقت هذه المعارضة في التسلح دون النظر إلى أخطار هذا التحول، وأهم هذه الأخطار افتقادها لاستقلالية القرار، وتحولها إلى أداة بيد من يسلح ويمول.
ومن لحظة التحول هذه لم تعد هذه المعارضة وتشكيلاتها تمثل ” الثورة السورية، أو الحراك الثوري السوري”، رغم أنها باتت رسميا تحتكر ذلك، لم تعد صدى لإرادة السوريين الذين خرجوا في مارس من العام 2011 متطلعين إلى الحرية والكرامة والعدالة والوطنية، وإنما باتت تحكمها تطلعات وإرادات الأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالشأن السوري، وقد تكون هذه جميعها لا تريد لسوريا أن تكون موحدة شعبا وأرضا، ولا تريد لها أن تكون موحدة ضميرا وانتماء، ولا تريد لها أن تكون موحدة مسيرة وتطلعا، وقد أظهرت الشعارات والرايات التي رفعتها فصائل المعارضة المسلحة هذه، هذه الحقيقة.
** وفي البنية الذاتية عجزت المعارضة عن إقامة جسم موحد لها، سواء من حيث الأجهزة والتكوينات السياسية والإدارية، أو من حيث القوة المسلحة والأجهزة الأمنية التابعة لها، فصرنا أمام حكومة معارضة ليس لها من الأمر شيئا، وصرنا أمام مشاهد لهذه الحكومة في أروقة الفنادق، ومراكز المؤتمرات، وأمام شاشات التلفزة، لكن على أرض الواقع، في الأماكن ” المحررة” وفي مناطق اللاجئين وساحاتهم، في تركيا، أو في الدول العربية المختلفة أو حتى في الساحات الأوربية والغربية المختلفة فإن وجود ذه الحكومة شبه معدوم.
ومنذ أن جرى الاعتراف بهذه المعارضة وحكومتها ممثلة للشعب السوري في عدد من المؤسسات الإقليمية والدول الغربية، وهذا الاعتراف يتآكل يوما بعد يوما، أي بدل أن يكون “حدث الاعتراف” بداية لبناء موقف وهيكل وعنوان ومكانة، صار “حدث الاعتراف” قمة الإنجاز المتآكل مع كل يوم يمر، وصارت التشكيلات السياسية الرسمية للمعارضة تتراجع مكانة ودورا وقدرات يوما بعد يوم، وتفرخ وتنقسم، وتولد تشكيلات وتجمعات تزيد من الفرقة والضعف والتشتت، وباتت هذه المعارضة أبعد ما تكون عن تمثيل “الوحدة الوطنية السورية”.
ولم تستطع هذه الحكومة ـ حكومة المعارضة ـ أن تمد ولايتها إلى التشكيلات أو المساعدات أو البرامج التي تقيمها المنظمات الدولية تحت عنوان عريض باسم المساهمة في مساعدة الشعب السوري في منافيه ولجوئه وخيامه، بل صارت هذه الحكومة أسيرة هذه البرامج التي ـ في أقل تقدير ـ تمثل أسوأ ما في النظام الدولي من قيم ومفاهيم وتوجهات، بما يخالف ويناقض ويتصادم مع التوجه الحقيقي للشعب السوري، مع القيم التي يتطلع لإقامتها في “سوريا” التي يريد.
وصار “الجيش الوطني الحر”، الذي كان الهدف من قيامه ووجوده أن يكون المدافع الرئيس عن الحراك الثوري للشعب السوري، وعن أهداف هذا الحراك، وشعاراته وتطلعاته، صار مجرد فصيل من فصائل المعارضة المسلحة وليس وعاء لها، وقد يكون ـ وهذا هو المرجح ـ أضعفها جميعا.
** وفي الممارسة والتطبيق صرنا أمام “فوضى فصائل”، تختلف فيما بينها، في الشعارات، وفي التشكيلات، وفي الأهداف، وتتقاتل فيما بينها، ويقصف ويقتل بعضها بعضا، وتُفتح فيها سجون وتمارس عمليات تعذيب وتصفيات، وتشرف على حواجز، وتسيطر على المعونات التي تصل للاجئين والمواطنين، وتتصرف بها بمزاجها وحسب رؤيتها ورضائها، فكأنها بذلك تقدم صورة ولو مصغرة عن النظام التي قامت لتحاربه. وهذه المقابلة التي نجريها هنا بين سلوك هذه الفصائل وسلوك النظام ليست وصفا من لدنا، وإنما هو وصف بات مستقرا على ألسن الناس في مناطق سيطرة المعارضة.
المشهد الثالث: نجاح الصين في صوغ آلية تعاون إقليمية تجمع برعايتها “السعودية مع إيران” في بوتقة تتجاوز نقاط الخلاف وتتيح حالة من التعاون تساعد على تجاوز ملفات الصراع في الإقليم، ومن هذه الملفات تبرز سوريا جنبا إلى جنب مع اليمن ولبنان والعراق.
وهذا المشهد الثالث ذو أثر قوي على الوضع السوري رغم أن الاهتمام الرئيس للملكة ينصب على الوضع في اليمن.
ومما يعطي هذا المشهد مكانة مميزة أن الصين هي التي ترعاه، وأن الرئيس الصيني شي جين بينغ الذي بدأ في رئاسته الجديدة قبل أيام هو الذي تولى بنفسه هذا الملف، وبالتالي فإن هذا الملف يعتبر بالنسبة للصين بوابة عبور رئيسية للمنطقة، ودولها الرئيسية تتجاوز عبرها خلافات الأطراف الإقليمية لتنتظم جميعا في إطار رؤية عامة للنظام الدولي المرتقب تسعى الصين لتحقيق ولادته.
وقبيل الإعلان عن هذه الآلية كانت المملكة قد عبرت عن اعتقادها بضرورة ” الذهاب إلى مقاربة جديدة” من الملف السوري، والمؤشرات تعزز أن تكون هذه المقاربة في إطار إعادة دمج نظام بشار الأسد في النظام العربي العام الممثل بجامعة الدول العربية، وفي إطار تعاون إقليمي يضم أيضا إيران وتركيا وروسيا.
إن هذا الدخول القوي للصين على خارطة الصراعات في منطقتنا يدفع بمتغير مهم جدا، وقد يكون حاسما في إعادة رسم هذه الخارطة، ثم إنه يضغط بقوة على التحالف التاريخي “السعودي الأمريكي” الذي بدا خلال عهد الرئيس جو باين وكأنه يتراجع إلى الوراء، تحت شعارات انتقائية تتصدرها شعارات حقوق الانسان، والسلام ومحاربة الإرهاب، لكن الولايات المتحدة لا تملك أي مصداقية حقيقية إزاءها.
والسؤال الذي يطرح هنا:
هل في مقدور هذا التدخل الصيني أن يشكل مفتاحا لحل المشكلات الإقليمية المستعصية، وكذلك المشكلات الدولية وفي المقدمة منها، البرنامج النووي الإيراني؟
هل يمكن أن نعتبر الاقتحام الصيني بديلا تكامليا وليس منافسا لروسيا المنشغلة بتداعيات غزوها لأوكرانيا، ونقول بديلا تكامليا باعتبار أن للدولتين الهواجس والمخاوف نفسها إزاء الرؤية الأمريكية للعالم، وإزاء الطريقة الأمريكية لفرض سيطرتها على النظام الدولي القائم، أو على فرص ولادة نظام دولي جديد.
بالتأكيد ليس الأمر بهذه السهولة، وكذلك فليس الأمر غير ممكن، إذا أن النهج البراغماتي بات هو الطاغي في سلوك الدول، في هذه المرحلة، وليس هذا التفات الفعال من قبل دول عظمى للبراغماتية طارئ، ذلك أن لهذه النهج دور فعال ومؤثر كلما كان مجتمع الدول في طور إعادة التشكيل، أي كلما كانت هناك ضرورة لتشكيل نظام دولي جديد، وكانت هناك فرصة لإنجاز ذلك، والعالم يمر اليوم في هذه المرحلة.
رغم كل هذه التحولات التي نشهدها ـ وهي ولا شك مهمة جدا على مستوى المنطقة ودولها وما تشهدها من صراعات، وعلى المستوى الدولي أيضا ـ فإن الوضع السوري والملف السوري ما زال بعيدا عن أي تطور إيجابي حقيقي، وما زالت المأساة السورية بعيدة عن أي حل، بل هي ـ بسبب هذا الوضع العربي والإقليمي والدولي ـ تزداد تعقيدا وعمقا.
فالمسألة الرئيسية في الملف السوري هو الشعب السوري، والوطن السوري، والمستقبل السوري، وليس المسالة تتجسد في علاقة النظام السوري مع دول الجوار، ومعالجة مكونات هذه المسألة تحتاج إلى معالجة أسبابها: والنظام وليس المعارضة هو الفاعل الرئيسي في هذا الملف:
مليون شهيد، مئات الآلاف من المفقودين، وملايين المهجرين واللاجئين، وتدمير شبه شامل للبنى التحتية في مختلف أنحاء الوطن، واحتقان طائفي تعززه بنية سلطوية طائفية، وعبث طائفي ومذهبي داخلي وخارجي يعمل على تخريب النسيج الاجتماعي السوري، ومشكلات قانونية وإنسانية متخلفة عن هذا الوضع، ونظام حكم مستبد وفاسد وطائفي. وجرائم حرب وتصفية وإبادة، وجرائم ضد الإنسانية، ارتكبت في مسار هذا الصراع، وقوات احتلال وميليشيات طائفية تتغول على الوطن والمواطن، وعلى الحضارة والتاريخ، وتتقوى بالسلطة وأجهزتها، وجماعات مسلحة انفصالية وإرهابية تتلقى الدعم الحماية من جهات ودول مختلفة، وتقسيم واقعي للوطن الواحد، واحتلالات لقوات أجنبية متعددة.
هكذا تتجسد المشكلة السورية، هذا هو مضمون الملف السوري، وهذا ما يحتاج إلى علاج، ليست القضية هنا كيف هي حال المعارضة السورية! وكيف تصرفت؟، وأين قصرت وأين أساءت؟، فهذا كله ـ رغم أهميته ـ تفاصيل يمكن التعامل معها ومعالجتها بيسر وبسرعة، لأنها جميعها على هامش الموضوع.
قد يبدو نظام بشار الأسد مستبشر بالعام الجديد، وقد يبدو النظام الإقليمي والدولي متفائل بشأن الملف السوري، لكن حينما ننظر إلى الملف السوري من زاوية مكوناته الحقيقية لا يبدو الأمر كذلك، ولا يبدو أن التفاؤل متاح، وستعاني المنطقة كلها من أي حلول قاصرة يمكن أن يحاول أي طرف فرضها على الشعب السوري وعلى الأرض السورية.