إثني عشر عاماً مضى من عمر الثورة السورية، حيث انطلقت الاحتجاجات بداية تطالب بشيء من الحرية والكرامة، بعد سنوات من سيطرة الدكتاتورية الطائفية على المفاصل الأساسية في الدولة والمجتمع، لتتوج بعملية توريث للحكم وتكريساً للسلطة من الطائفة إلى العائلة، إلا أن مواجهة الاحتجاجات السلمية بالرصاص الحي، وبعملية دفع متعمد نحو العسكرة، تمثلت في إطلاق أعداد من الجماعات الجهادية التي روضتها الأجهزة الأمنية الأسدية في معتقلاتها، وتبعتها بتسهيل تهريب السلاح عبر الحدود، وبدعم المناطق الثائرة بكميات من السلاح والذخيرة من خلال ذات الأجهزة، في نشاط محموم لتسريع تحول الثورة السلمية إلى العمل المسلح.
وقد واجهة عصابات الأسد الثورة بالحل العسكري لتحويل البلاد إلى ساحة معركة، قتل فيها مئات الآلاف من المدنيين، كانت العصابات الأسدية وداعميها (الإيرانيين والروس) مسؤولين عن معظمها، بحسب العديد من التقارير الحقوقية والأممية. وقد نجد التبرير لتحول الثورة نحو المنحى العسكري مع إمعان عصابات الأسد وداعميه في الحل العسكري، لتصبح الاشتباكات بين عصابات الأسد والفصائل المسلحة التي انضوت بداية تحت مسمى “الجيش السوري الحر”، بعد أكثر من 9 أشهر من بدء المظاهرات السلمية، وذلك رداً على استخدام عصابات الأسد لآلة القتل الوحشية ضد المدنيين المحتجين.
وإن كانت العديد من تقارير الأمم المتحدة قد أشارت خلال السنوات الماضية إلى ارتكاب عصابات الأسد وداعميه جرائم حرب تمثلت في استخدام السلاح الكيماوي، واتباع سياسة التجويع، والتهجير القسري، والحصار، والاعتقال التعسفي، والتعذيب، إضافة إلى القتل الممنهج والمتعمد لمئات الآلاف من المدنيين. إضافة إلى تهجير لا يقل عن نصف سكان سورية، حسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إلى جميع أصقاع العالم إضافة إلى دول الجوار والتهجير الداخلي في المناطق الخارجة عن سيطرة هذه العصابات. وبنتيجة ذلك فإن عدد السوريين الذين نزحوا داخلياً بلغ 6.9 ملايين نسمة، وإن 6.6 ملايين سوري لجأوا إلى دول اللجوء، سواءً إلى دول الجوار أو الدول الأوروبية، وإن عدد النازحين في المخيمات والملاجئ بلغ 1.9 مليون، وعدد الأطفال المنقطعين عن التعليم بلغ 2.65 مليون طفل. وتؤكد تقارير المنظمات الإنسانية أن نسبة السوريين المعرضين لخطر الفقر بلغ 91%، وعدد السوريين الذين وصلوا إلى مرحلة المجاعة بلغ 3.3 ملايين، وتسببت العمليات العسكرية بإصابة أكثر من 1.8 مليون مدني، وخلف أكثر من 232 ألف من ذوي الاحتياجات الخاصة، هذا إضافة إلى عشرات آلاف المدنيين المفقودين والمختفين قسراً. ولا تزال عصابات الأسد وداعميه تستهدف آخر معاقل الثورة في الشمال السوري، في ظل صمت دولي حيال الجرائم التي ارتكبت بحق المدنيين.
وبالرغم من القرارات الدولية التي صيغت لإيجاد حل سياسي للقضية السورية، إلا أن عدم توفر إرادة دولية لاتخاذ قرار جريء في الشأن السوري، أدى إلى استمرار مأساة النازحين كل هذه السنوات، هذه الإرادة الدولية التي لم ترقى لوضع حد لعصابات الأسد وداعميه، الذين يستمرون في قتل الإنسانية في سورية والآن أوكرانيا. وإن كان الغزو الروسي لأوكرانيا قد أعاد القضية السورية العادلة إلى دائرة الضوء وعناوين الصحف ووسائل الإعلام العالمية، من باب عرض جرائم الغزو الروسي لأوكرانيا وإبداء الندم والاعتذار للسكوت عن الجرائم المماثلة في سورية.
فالثورة السورية لطالما وصفت بأنها كاشفة ويتيمة، كما الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، والذي تعاطى معه العرب تماماً كإخوة سيدنا يوسف، حيث بدئنا نشهد تخلياً عربياً وإقليماً عن الشعب السوري وقضيته العادلة رغم بدايات جيدة واكبت صعود الثورات الأصيلة في الحواضر العربية. حيث قطع الغزو الروسي لأوكرانيا الطريق -على ما يبدو مؤقتاً- على مساعي التطبيع العربي مع عصابات الأسد، بما في ذلك محاولات إعادته للجامعة العربية، إلا أن أحداث الزلزال الذي ضرب جنوب غرب تركيا وشمال سورية يبدو أنه قد أعاد تفعيل تلك الخطوات تحت ستار الدعم الإنساني، والذي يبدو أنه سيتبعه تحرك سياسي بدء من تونس وستلتحق به العديد من الدول العربية والإقليمية.
فالأنظمة العربية والإقليمية التي تحكمها المصالح والمناورات السياسية المتغيرة، بتغير المناخ الدولي، تسعى لتبادل المصالح فيما بينها، بعيداً عن القضايا المبدئية والأخلاقية والقيمية وأسس بناء المجتمع الإنساني، من حقوق وكرامة إنسانية، فمثل هذه الأمور يبقى وزنها في مصالح الأنظمة المتحكمة في المنطقة، قيمتها السوقية متدنية. فبالرغم من كون الزلزال قد خلف حوالي 6000 ضحية من اللاجئين السوريين في الأراضي التركية، ولا يقل عن هذا عددهم في المناطق الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد، ناهيك عن التدمير الذي لحق بممتلكات السوريين إن كان في مناطق اللجوء في تركيا أو في المنطقة الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد، فإن حجم المساندة الأممية والدولية قد انصبت على عصابات الأسد، التي يشهد المجتمع الدولي بكون الفساد فيها والمتاجرة بالمساعدات الدولية يحتل الدرجة الأولى عالمياً.
لقد لحق بالحاضنة الشعبية للثورة السورية الكثير من المصائب والمعاناة، وإن كان قد أصابها شيء من التشرذم بعد سنوات طويلة من الضيق، بحيث أصبح القابض على جذوة الثورة كالقابض على جمرة من النار، وإن كنا ولا نزال نخشى من أفول جذوة الثورة بعد تحول الكثير من حاضنتها الشعبية، وناشطيها إلى مشردين وراء المحيطات، تربطهم بالثورة بضع كلمات يلقونها على وسائل التواصل الاجتماعي في لحظات فراغهم. بينما عجزت النخب المثقفة الواعية التي كان يفترض بها أن تقود الحراك الثوري منذ بدايته، عجزت حتى عن تشكيل حامل للقضية السورية العادلة، وحامي للحاضنة الشعبية للثورة من تضعضع أملها في تحقيق الحرية والكرامة ولو في المناطق الخارجة عن سيطرة عصابات الأسد. ويبقى الأمل أن الثورة ستنتصر في سورية كما ستنتصر في فلسطين، وذلك بعد أن تعود سيرتها الأولى الصحيحة وتنفض عنها المتسلقين وتنبذ من لم ترق إمكانياته لمواصلة المسير وفضل الخلاص الفردي. ببساطة واختصار، كون إرادة الشعوب من إرادة اللـه، وعندما تريد الحياة فحتماً يستجيب القدر.
محمد مروان الخطيب