ياسر الحسيني
كانت فرصة ذهبية لي بحكم تواجدي كلاجئ سوري فيها، أن أكون قريباً جداً من الانتخابات البرلمانية والرئاسية في تركيا، التي أدهشت العالم بحسن تنظيمها والإقبال الكبير من المواطنين الأتراك على الإدلاء بأصواتهم داخل الأراضي التركية وخارجها، وكنت أراقبها باهتمام منذ بداية الحملات الانتخابية وصولاً إلى يوم الاقتراع، ليس بصفتي الإعلامية فقط وإنما كسوري وجد نفسه ورقة يلعب بها المرشحون دونما أيّ اكتراث لمشاعر الملايين من السوريين الذين وجدوا ملاذاً آمناً من براميل الأسد، وإذ بنا نعود إلى نقطة الصفر ونحزم أمتعتنا بانتظار من سيفوز.
استطعت أن أقترب أكثر لأتعرف على التركيبة السياسية لأغلب الأحزاب المكونة للطيف السياسي التركي، ومدى الحرية التي تنعم بها تلك الأحزاب، ولكن يبدو أن بعضها كان يغطي نفسه بغلاف رقيق من الديمقراطية الزائفة سرعان ما تمزّق ذلك الغلاف فور صدور النتيجة النهائية، وإذا بنا أمام مشهد مغاير تماماً لما شهدته العملية من سلاسة وهدوء مع إقبال كبير من قبل المواطنين الذي نمّ عن وعي جماهيري وحسّ عال بالمسؤولية متقدّمين على تلك الأحزاب، تلك الأحزاب التي قدّمت نفسها للجمهور التركي على أنها عنوان الديمقراطية وصيانة حرية الفرد كما قدّمت خطاباً عصبياً وعصبوياً كان أقرب ما يكون إلى الشوفينية منه للديمقراطية، وألغت من قاموسها حرية الفرد بالاختيار وباتت تخاطبه كجماعات مصادرة لصالح المنطقة أو العشيرة أو العرق أو الدين، وهنا نقف أمام معضلة الهوية من جديد وهل من هوية جامعة تستطيع أن تحتضن كل تلك الهويات الضيّقة وتحيّدها سياسياً، دون أن تلغيها ـ لصالح الوطن؟
مشكلة بعض الأحزاب التي تدّعي العَلمانية أن خطابها بدأ يأخذ طابعاً عنصرياً اعتقدناه موجهاً ضدّ اللاجئين فقط وإذ به يطال الأتراك أنفسهم لأنهم لم يمنحوهم أصواتهم، هي ديمقراطية مشروطة بالتصويت لهم وهنا تكمن المشكلة، وإذا سايرهم الشعب التركي فستنتهي الديمقراطية وتتحول الانتخابات إلى مسرحية تماماً مثل ما يحصل في معظم دول الشرق الأوسط.
الخطاب الجامع الذي ميّز حزب العدالة والتنمية والمقرون بالأفعال على مدى العقدين الأخيرين، هو الذي استطاع أن ينهض بتركيا ويخرجها من عنق الزجاجة (اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وسياسياً)، فبعد أن تسلمها مثقلة بديون تصل إلى قرابة المئة مليار دولار للبنك الدولي باتت اليوم (صفر) ديون مع فائض في البنك المركزي يتجاوز المئة وعشرين مليار دولار، وهذا ما أكدته (تانسو تشيلر) رئيسة الوزراء (1993 ـ1996)، كما حجزت تركيا مقعدها في مجموعة الدول العشرين الأقوى اقتصاداً في العالم، بالإضافة إلى التركيز على الجبهة الداخلية وتحصينها بحيث استطاع التخلّص من خطر الانقلابات العسكرية وأفشل الانقلاب الأخير (تموز 2016) ليكون آخر المغامرات الموجهة من الخارج، وتعود حالة الاستقرار السياسي للبلاد لتكمل الديمقراطية.
تحالف الجمهور الذي يقوده حزب العدالة والتنمية خاض الجولة الأولى من الانتخابات وفي جعبته كم هائل من الإنجازات والمشاريع الكبرى التي شملت شتى الميادين التي تعزز من القوة الاقتصادية للبلاد على المدى البعيد، ينافسه تحالف الشعوب بقيادة حزب CHP وجعبته تكاد تكون خاوية إلّا من بعض الوعود برفع مستوى المعيشة ومعالجة التضخم مع غياب شبه تام لخارطة طريق واضحة تقنع الناخب، وطرح أفكار لمشاريع مستقبلية هي موجودة على أرض الواقع إما منفذة أو قيد التنفيذ، وهذا ما أعطى انطباعاً بأن المعارضة إما تحاول خداع الجمهور أو أنها لا تدري ما يدور على الأرض وفي الحالتين خسرت جزءاً هاماً من الأصوات، حتى في المناطق التي راهنت عليها والتي تعتبرها مجيّرة لها تاريخياً، ومن ضمنها المناطق الجنوبية التي تضررت بالزلزال المدمر في 6 شباط ، والتي منحت غالبية أصواتها لتحالف الجمهور وللرئيس أردوغان، الأمر الذي فاقم من حدة الخطاب العنصري لدى المعارضة وضيَّق الأفق “الديمقراطي” الذي يتشدقون به، بل تعدى الأمر الخطاب وتحول إلى ممارسات، كما حصل في مدينة (تكيرداغ) حيث أقدمت بلدية تكيرداغ الكبرى على طرد السكان المتضررين من الزلزال من الفنادق بسبب تصويتهم لصالح الرئيس أردوغان، وهذه عينة من مئات العينات المشابهة التي ربطت تقديمها للمساعدات بالانتخابات فغاب البعد الإنساني وتحولت العملية إلى شراء أصوات. وهناك عينة من الخارج وتحديداً في بلجيكا حيث صرحت البرلمانية البلجيكية من أصل كردي (زوهال دمير): “لا أستطيع أن أصدق أن أردوغان حصل على 70% من الأصوات في بلجيكا، سوف نقدم مطالب لالغاء الجنسية المزدوجة بحيث يختار الأتراك الجنسية البلجيكية أو التركية”.
يبدو أن الغرب “الديمقراطي” متناغماً مع المعارضة “العَلمانية”، جاهروا بعدائهم لحزب العدالة والتنمية ولشخص أردوغان بسبب النجاح الكبير الذي تحقق في فترة إدارته للبلاد بما فيها استعادة الوجه الإسلامي لتركيا الذي دفع صحيفة ديرشبيغل الألمانية أن تضع صورة الرئيس تتصدر الغلاف وهو جالس على كرسي متصدّع وفي أعلاه هلال مكسور.
المصدر: اشراق