بيسان عدوان
يقول الشهيد باسل الأعرج في إحدى مقالاته “إن الفكرة، كل الفكرة أن لا تنكسر من الداخل؛ أن لا يصبح وجود العدو “طبيعياً”، عادياً، يومياً، معاشاً”.
وهذا ما تفعله جنين. هناك في تلك المدينة الصغيرة ومخيمها يجد العدو نفسه عاجزاً إلّا عن اقتحامات محدودة للمخيّم، وبات الفلسطينيون في المدينة متمرّسين في مواجهته، ولبعد جنين عن اليد الطولي لوكلاء الاحتلال الإسرائيلي، تنمو البيئة المثلى للمقاومة من خلال توفير وسائل القتال في مخيم جنين ومحيطه، خاصة من قبل حركة الجهاد الإسلامي التي تعد الجهة التي تستقطب كثيرا من شبان المقاومة، تحديدا المنشقين والمتململين من حركة فتح ومن أداء السلطة الفلسطينية، كما تمثل “الجهاد الإسلامي” في جنين عاملا رئيسيا اجتماعيا واقتصاديا مساندا وداعما لأسر وأهالي الفدائيين.
جغرافية جنين عامل آخر في مقاومتها حيث تقع في شمال الضفة المحتلة، قريبة جدّاً من وسط إسرائيل، حيث العمق الاستراتيجي للعدو خاصة الحكومي، بما يشمل غوش دان وفي وسطها تل أبيب. الأمر الذي يعني وجود خلل وثقوب في الجدار الأمني على اختلاف اشكاله، مما أتاح للفلسطينيين الانتقال من وإلى أراضي عام 1948 بسهولة نسبية، لأغراض وأهداف مختلفة.
كل تلك الأسباب تجعل جنين ومخيمها عصيين على الردع الإسرائيلي وعقوباته الأمنية والجماعية وتمثل نموذجا للمحاكاة في المدن القريبة من خطوط التماس مع العدو، ثم انطلاقا منها إلي مدن الضفة الغربية كل حسب جغرافيته خاصة مع ازدياد الرفض الجماهيري للسلطة الفلسطينية وضعف بنيويتها المتنامية.
في جنين يهزم العقل الاستعماري وبدوره يتحول العدو إلى مزيد من العنف الأمر الذي يعني مزيداً من الاحتكاك مع الفلسطينيين، مما يحفّز بدوره مزيدا من العمليات الفدائية النوعية ليس في أو من جنين وحدها، الأمر الذي يعني مزيدا من الخسائر البشرية الإسرائيلية لا سيما في حالة اقتحام المخيم الذي يستدعي ما حصل في عام 2002 في العقل الجمعي الاستعماري من خسائر بشرية خلال المواجهات، ويستدعي أيضاً خطر جر كل الضفة الغربية وكذلك غزة إلى المواجهة على غرار ما جري في معركة “سيف القدس”. مما يعني سقوط وشيك للحكومة الإسرائيلية الحالية التي تعاني آزمات داخلية أيضا نتيجة سيطرة اليمين المتطرف علي فواصل الدولة.
هذا ما تفعله جنين ومخيمها على الدوام، فهي باتت نموذجا للمقاومة العصية على التفكيك من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية وحكومتها، فليس مصادفة أن يطلق عليه العدو “عش الدبابير” حيث يجد العقل الاستعماري نفسه عاجزا أمامها، وأمام هذا الغضب الشعبي في فلسطين المحتلة، ولا يمكن السيطرة عليه أو تحييده أو القضاء عليه، هكذا تخبرنا أرنديت رغم معارضتها لأفكار فانون في مواجهة العقل الاستعماري أنّ “ثمّة أوضاعا تكون فيها القدرة التّدميريّة للعنف هي التّرياق الوحيد… إنّ العنف في ظروف معيّنة أي ذلك الفعل المنجز من دون استشارة العقل، من دون كلام، ومن دون إعمال الفكر في النّتائج يصبح هو الوسيلة الوحيدة لإعادة التّوازن لميزان العدالة”.
يعد فشل القوات الإسرائيلية المحتلة في أحداث جنين والتزام مخيمها منذ أيام قليلة، وعدم قدرتها علي السيطرة علي المقاومة الفلسطينية في المخيم وانسحاب قواتها وعتادها بعد ساعات طويلة من المقاومة الفلسطينية ضدهم، اندلعت المواجهات في نابلس بين جنود الاحتلال والمقاومة الفلسطينية لعلها تحدث القيادة الإسرائيلية اي نجاحات ما تعويضا عن خسارتها الفادحة في جنين ظنا منها أن نابلس هدفا سهلا، لكن علي مايبدو إن الحكومة الإسرائيلية وقيادات جيشها لم يفهموا ولا يدركوا العقلية الفلسطينية المقاومة في مدن الضفة الغربية، وما تمثله جنين كنموذج للمقاومة، وصمود جنين الأخير يحفز كل المدن الفلسطينية علي الاستبسال في المقاومة والصمود.
وعليه تتواصل المقاومة في مدن الضفة الغربية والعمليات العسكرية الفلسطينية في مواجهة جيش الاختلال وقطعان المستوطنيين لتؤسس مرحلة جديدة في الصراع ضد المستعمر الصهيوني من جهة، وتطور قدرات المقاومين في جنين وفي مدن الضفة الغربية ومواجهة جنود الاحتلال والمستوطنين في كل فلسطين.
جنين تسقط حكومة نتنياهو للمرة الثانية.
ثمة حقيقة قائمة لا يستطع الإسرائيليون أنفسهم إنكارها، وهي أن مخيم جنين جعل المقاومة الفلسطينية تستنهض حالها في كل مرة اعتقد فيها الإسرائيليون أنها ضعفت أو انهارت، لا سيما في الضفة الغربية.
من سنوات قليلة اطلقت جنين كرة النار ( المقاومة المسلحة) في كل مدن الضفة الغربية ذات الحضور الأمني الفلسطيني دون خوفا من السلطة الفلسطينية واجهزتعا الامنية. فلم يعد الجمهور الفلسطيني الشاب مباليا بها، وتكاثرت ساحات المواجهة أمام العدو الإسرائيلي، وتكاثف حضور المواجهات إلى مستويات يتهيّب منه الاحتلال نفسه في ظلّ تسجيل عدد من العمليات التي تستهدفه ومستوطنيه، فضلاً عن الاشتباكات التي باتت شبه يومية في نابلس وطولكرم وبيت لحم والخليل وضواحي رام الله نفسها.
ولعل إسقاط الحكومة الإسرائيلية الحالية بتشكيلاتها اليمينية بات أمرا قريبا. تماما كما حدث في ٢٠٢٢ حيث أشعلت حربا انتقائية علي مدن الضفة كان مركزها جنين، لحل ازمتها الداخلية وما كان آلا أن ذهب المجتمع الإسرائيلي كله الي انتخابات مبكرة.
سقوط تلك الحكومة قادم لا محال فالعقوبات الجماعية والفردية التي تنتهجها في مواجهة الفلسطينيين هي نفسها التي تؤدي إلى مزيد من العمليات الفدائية، فيما تراجع دولة الاحتلال عن هذه الإجراءات يعني أن تفقد سيادتها علي الأراضي المحتلة، كما هو في حال منع أو تجميد تمكين المستوطنين من دخول الأقصى وإقامة شعائرهم من أجل الحيلولة دون أيّ مواجهات، سيؤدي بدوره محفزا إلى هجمات جديدة وعمليات أخرى من الفلسطينيين ضد الاحتلال مما يولّد انطباعاً بأن الفعل الفلسطيني يدفع إسرائيل إلى التنازل مما يفضي إلى تفكّك الائتلاف الحكومي الهش.
جنين تاريخ من الاستعصاء
دوما كانت جنين عصية على الهزيمة، ويمكن لها إحراق الأخضر واليابس إذا ما شعر أهلها بالخسارة، ففي عام 1799، لم يتردَّد سكان جنين الواقعة عند سفح تلال جبل النار “نابلس” في حرق بساتين الزيتون التي يقتاتون منها بُغية وقف القوات الفرنسية الزاحفة بقيادة “نابليون بونابرت” على أراضيهم، فأتى الرد الفرنسي على مقاومة جنين بحرق المدينة ونهبها.
وفي الحرب العالمية الأولى، حين وقعت جنين تحت الاحتلال البريطاني كانت آخر مدن فلسطين التي خسرت أمام المستعمر الإنكليزي ونظمت أول مقاومة مسلحة عام 1935 بقيادة “عز الدين القسَّام” أحد كبار المقاومين للاحتلال البريطاني آنذاك، الذي وجد في جنين حاضنة شعبية من الفلاحين تؤمن بالثورة وتدعمها. وتتحول بعدها جنين إلى مركز التمرد الفلسطيني وكان من أبرز عمليات المدينة ضد الاحتلال قتلها قائدا بريطانيا كبيرا في مكتبه بجنين عام 1938.
تخلَّصت جنين من احتلال قصير نال منها بفضل الدفاع الشرس من قِبَل المتطوعين الفلسطينيين والجيش العراقي، ثم آلت المدينة إلى حكم الإدارة الأردنية عام 1949، وفي أوائل الخمسينيات أُنشئ مخيم جنين لإيواء النازحين ممَّن استولت إسرائيل على منازلهم بعد طردهم، وسرعان ما صار المخيم الواقع في ضواحي المدينة معقلا للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي خاصة أثناء السبعينيات والثمانينيات.
وبعد مقاومة شرسة من أهالي مخيم جنين في 2002، واستعصائها أمام جيش الاحتلال خلال عشرة أيام من الحصار والمواجهة، قصفت إسرائيل المخيم بطائرات “إف-16” وبالمدفعية؛ مما أدَّى إلى استشهاد 52 فلسطينيا، وتدمير 150 بناية بالكامل، كما قُتِل 23 جنديا إسرائيليا على يد عناصر من المقاومة في جنين.
منذ أغسطس/ آب 2021 وبعد اقتحام قوات الاحتلال بعض مناطق جنين ومخيمها، والمواجهات العنيدة التي قابلها شباب المقاومة في جنين، لم يتمكن جيش الاحتلال من السيطرة على المدينة التي تعود لتقود العمل الفدائي والمقاومة في كل الضفة الغربية في مواجهة ليست الأخيرة ولن تكون، ولكنها جنين وعملياتها الفدائية ومقاومتها الشرسة تخبرنا بأن الوضع وصل إلى طريق مسدود، ويشكل عامل ضغط على القيادة الفلسطينية بأن تراهن على الشعب الفلسطيني، وتضع استراتيجية مواجهةٍ تقوم على المقاومة والتحرير، بدلا من سياسة الرهانات على حصول تغيير في السياستين الأميركية والإسرائيلية.