علي محمد شريف
الدولة ليست مخلوقاً سماويّاً ولا معبداً كهنوتيّاً كذلك لن تكون مزرعةً لحاكم أو عقاراَ له أو لعائلته يتصرف فيه تصرف المالك رهناً وبيعاً وتبديداً وتدميراً. فالدولة كائن مؤنسن بطبيعة نشأته وتكوينه إذ إنّ أحد أهم مقوماتها هو البشر الذين تجمعهم أواصر وروابط مشتركة تجعلهم قادرين وراغبين في الحياة معاً.
أما السياسة بحسب “ماكس فيبر” فهي المشاركة في السلطة والتأثير في توزيعها، والسياسة، كما يرى أيضاً، هي عمل الدولة ومؤسساتها. لعلّ هذا الرأي يمثل الجانب الأهم والأبرز من آراء الفقهاء والمفكرين الذين نظروا إلى السياسة بوصفها ممارسة إنسانية طبيعية ذات غايات وأهداف محددة تخدم فكرة الدولة وبنيتها المؤسسية ومهام السلطة الشرعيّة فيها.
لا يجوز اختزال الدولة بالسلطة أو المماهاة بينها وبين النظام الحاكم، فالسلطة ركن من أركان الدولة وهي تستمدّ مشروعيتها في الحكم من إرادة الشعب، ولولا وجود السكان والأرض لما كانت هناك سلطة، ثمّ إنّ الدولة واقع جغرافي وبشريّ ثابت أمّا النظام السياسي فمنظومة مؤقتة ومتغيرة.
لقد طرأ تطوّر تاريخيّ كبير على مفهوم الدولة وعلى علاقة الحاكم بالمحكوم، فغدت الدولة الحديثة مفهوماً فلسفياً مجرّداً عن الشخصنة، وكياناً اعتباريّاً منفصلاً عن ذات من يتولى مقاليد السلطة فيه، تجسّده مؤسسات تشريعية وقضائية وتنفيذية تتداول قيادتها حكومات مفوضة ومنتخبة من الشعب، تنهض بمهام سياسية واقتصادية واجتماعية، فتضع الخطط والآليات والتدابير بما يضمن حماية الأمة وسيادتها وتطورها ونموّ مواردها وازدهارها.
كذلك طال التغيير أفراد الشعب فاستبدلوا صفة الرعيّة برتبة المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات الممنوحة لهم بموجب الدستور والقوانين التي شاركوا في صياغة بنودها وإقرارها والالتزام بنصوصها.
باتت الدولة واقعاً سياسيّاً وقانونيّاً قد يختلف النظر إليه باختلاف الرؤية التي ينطلق منها الفكر السياسي والفلسفي والقانوني والإيديولوجي، وبالرغم من تعدد التعريفات وتشعبها فإننا نلحظ ما يشبه الإجماع على تعريف الدولة من خلال أركانها وعناصرها أي الشعب والسلطة والأرض، فالدولة تنظيم سياسي ملزم على جغرافيا معيّنة تحكمه سلطة تحتكر استخدام الإكراه المشروع لتنفيذ خططها وبرامجها.
لقد دأب أصحاب المشاريع السلطويّة والأيديولوجية المنغلقة على تصوّر الدولة كعلاقة اجتماعية قهريّة تقسم أفراد المجتمع إلى طبقتين غالبة ومغلوبة يسود فيهم المستغِلُّ “القويّ” ويستعبد المستغَلَّ “الضعيف”، إنّ وصول هؤلاء إلى السلطة يعني انهيار الأبنية المؤسسية والنظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتحضرة التي تميّز الدولة الحديثة، والعودة بها إلى عصر ما قبل وجود الدولة، أي إلى صورة المجتمعات البشرية في أشكالها السياسية البدائية الأولى القائمة على العائلية والقبلية.
هل ينبغي للسياسيّ أن يكون مفكّراً ومنظّراً سياسيا أو عالماً في السياسة؟ بالتأكيد ليس شرطاً، وربما على العكس من ذلك فقد تحدّ القواعد الأكاديمية والتقليدية الصارمة من قدرة السياسيّ على الإبداع وعلى ابتكار الحلول للمشكلات الآنية التي تواجه ميدان ممارسته السياسية، غير أن ما سبق لن يعفيه من ضرورة الاستفادة والاستعانة بمن يملك الفكر والعلم والخبرة في العلوم السياسية وكيفية إدارة شؤون الدولة وقضاياها المختلفة، لكن لا بدّ لمن يتصدّى للعمل السياسي ويطمح للوصول إلى السلطة في بلده من أن يمتلك مشروعاً ورؤيا وبرنامجاً واضحاً يحقق طموح المواطن، ويضمن ممارسته لحقوقه، ويلبي حاجاته المختلفة.
منذ بدء تشكل الوعي السياسي والمعرفي للإنسان حاول الطغاة والمتسلطون إضفاء القدسيّة على ممالكهم، وأسبغوا على الملك صفات وخصائص ما فوق بشرية، بل وصل الأمر إلى التأبيد والتأليه ثمّ أنهم نقشوا على عقول العباد وأفئدتهم صورة المملكة والمَلِك وكأنهما وجهين لعملة القداسة.
إنّ النظر إلى الدولة باعتبارها كياناً سياسياً وقانونياً ممأسساً، أنتجه العقل البشريّ كصيغة أمثل لتنظيم المجتمعات الإنسانية وإدارة شؤونها ومصالحها، ينزع القداسة عن الحاكم، ويسقط الصورة الغيبيّة التسلطية للدولة التي حاول الطغاة المتألهون تكريسها عبر التاريخ.
المصدر: الأنطولوجيا