د- عبدالله تركماني
يبدو أنّ أبرز مفارقات التحدي المكاني في العالم العربي يتمثل في دور الفراغات والفواصل والحواجز الصحراوية الشاسعة، الممتدة بين معظم الدول العربية، في تقطيع وتجزئة المنطقة العربية عمرانياً وسكانياً، وبالتالي مجتمعياً وسياسياً. وحقيقة هذه القطيعة أنّ الفراغات الخالية قد منعت نشوء نسيج حياتي عضوي، بدورة تفاعل واحدة ومتكاملة لمجتمع موحد ولدولة موحدة ثابتة.
فمن الحقائق الأساسية التي ميزت المنطقة العربية، وما زالت تميزها، كونها منطقة صحراوية ذات مناخ جاف، تغطي الصحراء ما يزيد عن 80% من مساحتها الإجمالية. فنحن لو نظرنا إلى خريطة العالم العربي الطبيعية لوجدنا فيها ظاهرة فريدة تتميز بها عن أغلب مناطق العالم الأخرى. هذه الظاهرة هي سيطرة الصحراء عليه من أقصاه إلى أقصاه، بحيث تشكل مساحته الكبرى.
وإضافة إلى ذلك، ولّدت الطبيعة الصحراوية قطيعة أخرى في الزمان، وذلك بتقطيع مجرى التراكم والتطور الحضاري والسياسي في التاريخ العربي بموجات التصحر والجفاف المتعاقبة، مما أدى إلى إعاقة سرعة التطور في العالم العربي واستنزاف طاقات أكثر وأزماناً أطول قياساً بالأمم المستقرة الأخرى، فبالإضافة إلى تخلخله الحضري في الوسط، بسبب الفواصل الصحراوية بداخله، كان العالم العربي مفتوحاً أمام موجات رعوية من جميع الجهات تقريباً: صحراء آسيا الوسطى في الشرق، صحراء الجزيرة العربية في الجنوب، الصحراء الأفريقية الكبرى في الغرب. فضلاً عن الصحاري الداخلية كصحراء شبه جزيرة سيناء، وبادية الشام، والصحراء الشرقية والغربية حول الشريط النيلي … الخ
وتحتاج خصوصيات الجغرافيا العربية إلى إعادة درس وتقييم، لأنها تمت ” أدلجتها ” قومياً بتكرار القول: إنّ العالم العربي وحدة طبيعية. في حين أنّ المعطيات الجغرافية، طبيعة وموقعاً، ليست لصالح العرب تلقائياً. لذا، فإنّ هذه الحقيقة الطبوغرافية عن العالم العربي لا بدَّ من تحليل آثارها بجلاء، إذا أردنا صورة دقيقة عن نوعية ” الدولة الموحَّدة ” التي شهدها في ماضيه، أو عن إمكانات توحيده في المستقبل، والعقبات الحقيقية التي تعرقل هذا التوحيد.
إضافة إلى أنّ المعطيات الجغرافية والبيئية في العالم العربي أدت إلى بقاء طرائق العيش ووسائل الإنتاج مغلقة وشديدة الاختلاف ” بداوة في المناطق الصحراوية، أرياف مسحوقة تحت وطأة الضرائب والسخرة في السهول المروية، قرى معزولة تعيش مستكفية بذاتها على موارد ضئيلة في المناطق الجبلية، وأخيراً مدن تستأثر بالثقافة وبفائض الزراعة الاقتصادي وبالإنتاج الحرفي، وبطبيعة الحال بالسلطة السياسية والدينية. وما كان لهذا التنوع أن يضيق نطاقه، وعلى نحو رديء في غالب الأحيان، إلا مع مجيء الاستعمار الأوروبي، ثم قيام دول (حديثة)، ودمج الاقتصاديات العربية بالاقتصاد العالمي “.
وهكذا، تشكل في العالم العربي مجتمعان: أولهما، هامشي أو مهمش يتكون من غالبية الأرياف والبوادي وبعض المدن أو أقسام من المدن. وثانيهما، جديد/سياسي، مجتمع مدن، مهن وحرف جديدة أو متغيّرة، طلاب وتعليم حديث، سياسة وأحزاب. وتذهب بعض التحليلات حول الأوضاع والعلاقات الطبقية في البلدان العربية إلى ” أنّ الأوضاع والمواقع والعلاقات الطبقية في البلدان العربية هي أوضاع انتقالية ومتحركة، نتيجة التحولات العميقة التي لحقت بالهياكل الطبقية وعلاقات الإنتاج خلال الفترة الممتدة منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى يومنا هذا. ولذا يصعب الحديث عن هياكل وعلاقات طبقية مستقرة وثابتة … فمعظم المواقع والعلاقات الطبقية في حالة تشكل وتداخل وتبادل بين القديم والجديد، بين العلاقات ما قبل الرأسمالية، حيث أشكال الترابط والتضامن على أسس قبلية وطائفية وعشائرية وخدمية، وبين الأوضاع والعلاقات الجديدة التي تتشكل بفعل علاقات الإنتاج الرأسمالية الحديثة وأنماط التقسيم الدولي للعمل “.
ومن ناحية أخرى، تتفق معظم التحليلات على أنّ البورجوازية البيروقراطية، المدنية والعسكرية، في البلدان العربية ” لم تنشأ مع نشوء الدولة والجيش، بل تشكلت في مرحلة متأخرة من نشوئهما (منذ أواخر الثلاثينيات وحتى نهاية الستينيات). وقد ساعد نمو وتعاظم دور الدولة في الحياة الاقتصادية في بعض البلدان العربية (مصر، سورية، العراق، الجزائر، ليبيا…) في الخمسينيات والستينيات، في ظل أزمة التطور الرأسمالي التقليدي، إلى نمو عناصر ” بورجوازية الدولة ” نتيجة سياسات التصنيع السريع، وعسكرة الاقتصاد، وسيطرة الدولة التدريجية على ” القمم المسيطرة ” في الحياة الاقتصادية: التجارة الخارجية، النظام المصرفي، التجارة الداخلية، البناء والتشييد “.
إنّ العلاقات الجديدة قد أدت إلى انتقال حقل السياسة من الطبقة الوسطى إلى الدولة الرأسمالية الجديدة، خاصة منذ ستينيات القرن العشرين، حيث امتلأ الحقل السياســــي بـ ” بورجوازية الدولة ” وطبقتها الوسطى السياسية، وبأيديولوجيتها ” القومية – الاشتراكية “، وحزبها وأجهزتها الأمنية. وبذلك حصلت أكبر عملية فرز سياسي وطبقي، إذ جرى تبديل عميق للحقل الاجتماعي حين وصلت الرأسمالية المنظمة عينها، التي كان يُفترض بها هي نفسها أن تنشرها. فما أن نالت الدول العربية استقلالها السياسي، حتى وجدت نفسها بحاجة إلى قوة ذاتية تولّد سيطرة الدولة، وعندها انكشف الضعف الذاتي في البنية المدينية العربية، إذ سرعان ما تسربت إلى قمة السلطة والقوة فيها العناصر الريفية التي أقامت حكمها الشعبوي. وهكذا، تم ترييف المدن العربية، وانسحاب قوى المجتمع المدني العربي، بعناصره المتعلمة والمتطورة، مخلية الساحة للانقلابات الشعبوية ذات المنطلق والتكوين الريفي في العديد من الدول العربية.
إنّ ترييف المدينة وبَدْوَنَتَهَا هو الإشكالية المطروحة على الفكر العربي السياسي، فقـــد ” جلبت التحولات الاجتماعية ما بعد عهود الاستقلال الأولى إلى الحواضر العربية إما أبناء الريف العربي أو أبناء البادية، وهؤلاء لم يقفزوا على السلطة بالطريقة التقليدية، التي نوه إليها ابن خلدون بالعصبية القبلية، ولكنهم حازوها من خلال المؤسسات ” الحديثة ” المنظمة كالجيش والأحزاب ” الحديثة ” التي جمعتهم لأسباب اقتصادية وأيديولوجية وعصبوية أيضاً، فأصبح العمل السياسي العربي – إلا فيما ندر – في أيدي هذه الفئات بعد أن تخلصت، تحت شعارات شتى، من الأرومة المدنية العربية في الحاضرة، التي قادت العمل السياسي والصناعي والتجاري برهة من الزمن بعيد الاستقلال … فأصبحت قيم وممارسات العمل السياسي في المدينة العربية قيماً وممارسات ريفية، مما اصطُلح على تسميته بترييف المدينة “.
ربما كانت المدينة العربية أقدر على إيجاد المواطن الحر من الريف العربي، لكنَّ سكان المدينة لم يكونوا يشكلون إلا نسبة ضئيلة من عدد السكان. ناهيك عن أنّ المدينة نفسها لم تتحرر من ظاهرة الولاءات لما قبل المواطنة. من هنا نفهم ” أنّ القضاء على التجربة الديمقراطية الوليدة (بعيد نيل الاستقلال الوطني) لم يُثرْ ردَّ فعلٍ شعبياً، بل على العكس من ذلك وجد ترحيباً من قبل الجماعات التي لم يصل وعيها إلى حد استيعاب معنى المواطنة وحرية إنتاج السلطة، وهي الجماعات الأكثر عدداً وحضوراً. وبدا أنّ الإجهاز على الديمقراطية يمثل انتصاراً شعبياً “.
لذلك فإنّ الدارس للسياسات العربية بشكل عام، في أغلب منعطفات القرن العشرين، يجدها موسومة بالخصائص الرئيسية التالية:
(1) – اللاعقلانية، إذ لم يعرف الفكر السياسي العربي مخاضاً أيديولوجياً مثل الذي عرفته أوروبا في عصر الأنوار والثورات القومية الديمقراطية التي عصفت به، فجعلته ينتقل بالسياسة من إسار اللاهوت والأخلاق إلى سياق العلم والممارسة. ونتيجة لذلك فقد تميزت السياسات الحديثة بالواقعية، أي أنها انطلقت في تعاملها مع الأحداث من الأمر الواقع وموازين القوى القائمة باتجاه المحافظة عليها (السياسة المحافظة) أو تغييرها (السياسة الثورية)، وبذلك عبّرت هذه السياسات عن المصلحة القومية.
(2) – اللاديمقراطية، إذ إنّ السياسات العربية أُديرت من قِبَلِ نخب بالغة الضيق، بمعزل عن الشعب بمختلف طبقاته وفئاته وتياراته السياسية والفكرية، مما جعلها سياسات مرتجلة وغير منسجمة مع مصالح الشعوب حيناً أو في تناقض معها أحيانا أخرى.
ولذلك فإنّ العالم العربي شهد سيرورة انحدار، تجلت في إحدى أهم تظاهراتها في التجزؤ والتناثر. كما أنها تمثلت في اشتداد وهيمنة الروابط التقليدية، ما قبل الوطنية (العشائرية، الطائفية، الجهوية).
وفي محاولة لتفسير هذه السيرورة يمكن أن نشير إلى أهم الجدليات الحاكمة في التاريخ العربي:
(أ) – التوحد والتفتت، إذ إنّ كلتا الحالتين ما هما إلا لحظتان تاريخيتان مؤقتتان، وإنّ كل واحدة منهما حملت في أحشائها البذور الجنينية للحالة الأخرى. أي أنّ التوحد – كعملية مجتمعية سياسية – كان يمثل اتجاهاً تاريخياً مضاداً، والعمليتان سادتا التاريخ العربي من خلال جدلية مستمرة.
(ب) – الداخل والخارج، أي التفاعل والصراع بين قوى الداخل الأصيلة في تركيبه، وبين قوى الخارج التي حاولت قهره والهيمنة عليه. وقد كان القرنان الأخيران فترة انحسار لقوى الداخل وفترة مد واختراق وهيمنة لقوى الخارج.
(ج) – العقائد الكبرى الموحِّدة والعقائد الصغرى المفتِّتة، ونعني بالأولى الإرث التاريخي المشترك، بما فيه الإسلام والثقافة واللغة العربية ونمط الحياة. ونعني بالثانية التنوعات المحلية داخل كل هذه الموحدات الكبرى.
(د) – الروحانيات والماديات، أي التفاعل و/أو الصراع بين ” الظروف ” و ” النصوص “، بين ” المدنس ” و ” المقدس “، بين ” الواقع المعاش ” و ” الرؤى المثالية “. وقد شهد القرنان الأخيران – على الخصوص – العديد من حركات الإسلام السياسي الرافضة لـ ” الواقع المعاش “، والتواقة إلى استعادة ” الفردوس المفقود “.
كما يمكن أن نشير إلى أهم الخصوصيات التي تميز المنطقة العربية عن مناطق وأوضاع أخرى في العالم، منها:
(1) – الاضطراب البين في تحديد أفكار وشعارات النضال العربي، فالشعارات والأفكار التي طُرحت ” لم تكن تمتلك المصداقية، أو لم تكن تملك الوضوح أو الرسوخ الضروريين لتصبح جزءاً أساسياً من الأهداف الحقيقية للنضال الشعبي المستمر “.
(2) – خلقت الثروة النفطية حالة من الانقسام، الأفقي والعمودي، على مستوى المنطقة العربية كلها وداخل كل بلد أيضاً. لقد لعبت الثروة النفطية دوراً خطيراً جداً في إعادة تشكيل البنية الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية لبلدان المنطقة، وخلقت تشويهات عميقة في النظرة والسلوك والعلاقات والأفكار والمواقف. فالبلدان التي كانت زراعية، وتصدر المحاصيل، وتعتبر الزراعة أهم مصادر دخلها، بدأت تتحول، سنة بعد أخرى، إلى بلدان مستوردة للمواد الغذائية الرئيسية، وتثقلها الديون نتيجة ذلك. وبعد أن كانت سائرة في طريق التنمية المستقلة، اعتماداً على مواردها، أخذت تزداد تبعيتها للدول الدائنة وللأسواق الخارجية. يضاف إلى ذلك تفشّي النمط الاستهلاكي في هذه البلدان، وسيطرة الطبقات الطفيلية على مقدرات الاقتصاد والسياسة، وما رافق ذلك من تخلّف الصناعة، وفي بعض الأحيان توقفها. يضاف إلى ذلك زيادة الهجرة الريفية إلى المدن وتحويل المدن إلى أرياف، بعد أن كانت الأرياف ذاتها في طريق التمدين خلال فترات سابقة.
أما من الناحية السياسية فقد سقطت دولة المؤسسات والقانون، وتراجع القضاء وفقد استقلاله، وسيطرت آلة القمع وانتفت الحريات العامة، كما أصبحت الأجهزة الأمنية والمؤسسة العسكرية القوة الوحيدة المسيطرة على مقاليد السلطة والاقتصاد، وتتحكم بالعلاقات الداخلية والخارجية، وأصبحت الصيغ والعلاقات السائدة في بلدان النفط القدوة والنموذج.
إنّ ما ذكرناه أعلاه يسلط الضوء على مشكلة التأخر العربي، تأخر البنية السياسية العربية بجماعها. لقد بقيت الدولة العربية، في شتى أشكالها: البرلمانية، والثورية، والأوتوقراطية، والعسكرية، والجملوكية التي ارتدت إطاراً شبه حديث مع الاجتياح الاستعماري، ذات بنية تقليدية. والصفة الأولى المميزة لدولة ذات بنية كهذه ليس فقط كونها فوق المجتمع، بل أيضا كونهاً توفر اندماجاً بين السلطة وممارسيها. هذه الدولة تتيح أوسع الفرص لممارسة أقلية ما هيمنة دائمة، والصراعات حول السلطة (وكثيراً ما تعتبر هي السياسة في هذه المجتمعات المتأخرة) داخل هذه الأقلية تسهم أكثر في تعزيز السيطرة لا إضعافها. هذه الأقلية، الأقوى من الشعب والراكبة عليه، بإلغائها الحياة السياسية للشعب، عطلت بالنتيجة عملية تحديث السياسة وعرقلت دمقرطتها، أي عرقلت عملية تحوّل الفرد إلى مواطن في الدولة.
إنّ السبب الرئيسي للاعقلانية السياسة العربية، الموصوفة أعلاه، يتلخص في عدم امتلاكها الوعي المطابق لحاجات الواقع، وفي الفاعلية المحدودة جداً للرأي العام العربي، وفي تغليب مصلحة فئوية أو طبقية على المصلحة الوطنية، وتعود أخيرا إلى التأخر العربي العام وإفرازاته.
إننا لا نعيش في الدول العربية وشأننا، نقرر لأنفسنا ما نشاء دون تدخل خارجي. حقاً لقد حصلت دولنا على استقلالها السياسي، ولكنّ الإرادة السياسية لا تُمَارَسُ في فراغ، وإنما هي تتعامل مع الواقع في داخل كل دولة وعلى مستوى العالم العربي وعلى مستوى العالم كله. وقد جرت العادة، لدى الكثيرين، أن نغفل عن كون واقع دولنا العربية جميعها جزءاً من نظام عالمي جائر يربطها بوشائج متعددة، سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية وإعلامية، وهي وشائج تؤثر في اختياراتنا.
وبالرغم من ذلك يبقى السؤال المشروع هو: لماذا تحولت ” الحركة العربية ” من حركة استقلال عن الاستعمار إلى حركة مصالحة معه، ومن حركة طموح إلى الاتحاد العربي إلى حركة تكيّف مع التجزئة؟