د. عبد الناصر سكرية
ليس حديثنا هذا عن تفكك دولة الكيان المتوقع، دعوة للتواكل أو للتقليل من شأن الأخطار والتحديات التي تشكلها على الوجود العربي برمته ؛ كما ليس دعوة للقعود بانتظار ذلك المستقبل الموعود..بل هو محاولة استقراء الوقائع بمنهج التحليل وتوقع المستقبل بناء على دراسة المعطيات المتوفرة والاستفادة من تجارب التاريخ في أمتنا وغيرها من الأمم..أما فيما يتعلق بالواقع الراهن فلا شك أن دولة الكيان المصطنع الغاصب تتفوق علينا في مجالات كثيرة وأولها وأخطرها مجال القوة بأبعادها المختلفة..وهي تسود المنطقة في كثير من الأمور إن لم يكن في معظمهأ..وتمارس عدوانها اليومي المستمر ليس على شعب وأرض فلسطين وحسب بل على كل وجود عربي حر مستقل شريف ..الأمر الذي يستدعي وبإلحاح تكتلا شعبيا عربيا للرد ومواجهة عدوانها في شتى مجالات الحياة ..والبداية بتصحيح الوضع الفلسطيني أولا وإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية..
فيما يلي الجزء الثالث من الموضوع..
خامسا – الاندماج المستحيل : أن تستمر دولة الكيان وتبقى ؛ يعني أن تصبح عضوا فاعلا في البيئة العربية المحيطة منصهرة فيها متكاملة مع مقوماتها وخصائصها الثقافية والأخلاقية والتاريخية الحضارية بكل ما فيها من إختلافات جذرية مع العقل ” الإسرائيلي” وخصائصه ومفاهيمه الحياتية والاجتماعية والأخلاقية ومع سلوكياته في مضمار الدين أولا ثم في ميادين السياسة والمال والاقتصاد والإجتماع..
هذه التناقضات الكثيرة والعميقة بين شخصية الإسرائيلي المغتصب المستعمر وشخصية الإنسان العربي وخصائصه الإنسانيه وقيمه الدينية ؛ يجعل الاندماج مستحيلا وغير متوقف على إرادة البشر بل على عدم وجود ما يكفي من المشترك لتحقيق الاندماج ونجاحه وبقائه..
فكيف إذا كانت إرادة البشر فوق ذلك متعاكسة ومتناقضة حيث يتمسك الشعب العربي برفض التعاطي الإيجابي مع المجتمع الصهيوني بما يجعل الاندماج مستحيلا مهما حصل من اعتراف وتطبيع رسميين من هنا أو هناك..
وعلى هذا الأساس يستحيل الاندماج فيبقى الصراع مفتوحا ليصل إلى الوجود ذاته ..فإما مجتمع العرب التاريخي وإما مجتمع الصهاينة الطارئ المصطنع ؟؟ صراع وجودي لا مفر منه مهما تغلفت أقاويل السلام والتعاون بالمصالح الكاذبة والمبررات الواهية..ولما كانت مجتمعات العرب هي الأقدم والأكبر والأكثر استقرارا على الأرض ومعها وتجذرا فيها عبر تاريخ متواصل ممتد لآلاف السنين ; والأقدر في امتلاك ما يكفي من المقومات ومن الخصائص الثابتة وما يكفي للبقاء والاستمرار والتمسك بالأرض ؛ كخيار وحيد للحياة ؛ فإن مجتمع الإسرائيلي هو الذي سيندحر طال الزمان أم قصر.. ولأسباب موضوعية لا علاقة لها بميزان القوى العسكرية ..
سادسا – إفلاس إدعاءات صهيون الدينية : ليس أدل على إفلاس الإدعاءات الصهيونية من المبررات التي باتت وسائل دعايتها تستخدمها لتشجيع يهود العالم على الهجرة إلى فلسطين..
ففي البدايات كانت تستخدم حججها الدينية وادعاءاتها التاريخية الكاذبة لحض اليهود على الهجرة إلى فلسطين وتأسيس دولة ” اليهود في العالم ” ..وكان أن نجحت بمقدار في زرع تلك الادعاءات في عقول كثير من اليهود فأقنعتهم بالهجرة إلى فلسطين باعتبارها ألأرض التي وعد الله بها عباده من بني إسرائيل..وهكذا هاجر مئات آلاف اليهود من أنحاء متفرقة من العالم لدواع دينية بحتة بغض النظر عن مستوى معيشتهم في بلادهم الأصلية..ومنذ ربع قرن أو أكثر بات الخطاب الصهيوني لتشجيع الهجرة الى فلسطين يعتمد على الإغراءات المادية المعيشية..تسهيلات للمعيشة من كل نوع وتملك أرض وسكن وعمل بمستوى معيشي متقدم مع الاحتفاظ بجنسية البلد الأصل..سقطت الإدعاءات الدينية لتحل محلها إغراءات الحياة المادية..ولما كانت مستويات عموم اليهود في بلاد العالم متوسطة وما فوق ؛ لم تعد إغراءات الإسرائيلي المادية تجذب الكثير من اليهود..وهكذا بدأت أعداد اليهود المستجلبين إلى فلسطين أقل بكثير من أفواج المغادرين نهائيا عائدين إلى بلادهم الأصلية..فقد كشف هؤلاء المغادرون زيف الإغراءات الدينية ولم تعد تغريهم كل وسائل الجذب المادية الحياتية..فضلا عن عدم إحساسهم بالأمان والأمن نظرا لرفض الشعب الفلسطيني لهم وما ينتج عنه من مقاومة بما تيسر من وسائل بدائية تفقد حياة الإسرائيلي ذلك الإستقرار الموهوم فوق أرض ليست له فيها أية جذور..
سابعا – الاستمرار بالقمع والإجرام : إن استمرار دولة الكيان في إستخدام قوة البطش وآلتها العسكرية المتفوقة في سحق وإقتلاع وتدمير فلسطين وشعبها منذ ٧٥ سنة متواصلة ؛ دون اعتبار لأية حقوق إنسانية أو قيم أخلاقية إنما يدل بوضوح على إفلاس العقل الصهيوني وعدم قدرته على استيعاب أي وجود مخالف لمزاعمه الدينية التلمودية ..مما يعني إفلاس المشروع الصهيوني وعدم قدرته على البقاء والاستمرار.. وبالتالي فإن مستقبل الكيان كله على محك التجربة الميدانية لا يملك للبقاء إلا آلة البطش الدموية وهي غير كافية مهما تضخمت لإرساء مقومات مجتمع غريب في أرض غريبة عنه وسط شعب مختلف نوعيا يرفضه باستمرار..هكذا كل تجارب ودروس التاريخ والأنظمة والدول..حتى ان قوة البطش ما استطاعت يوما إبقاء نظام ما إلى ما لا نهاية حتى وإن كان من أبناء البلد المحكومة ذاتها فكيف إذا كان غريبا عنها معاديا لها مختلفا عنها بكل المقاييس..
ثامنا – النقص البشري :
يحتاج المشروع الصهيوني إلى عشرات ملايين البشر ليستطيع احتلال واستيعاب وهضم المنطقة العربية الممتدة بين النيل والفرات تنفيذا لأحلامه الدينية التوسعية..ولو هاجر ملايين اليهود من أنحاء العالم إلى فلسطين المحتلة ؛ لما كان بإمكان دولة الكيان توسيع رقعة سيطرتها بين النيل والفرات وفقا لمقتضيات عقيدة صهيون..وقد تكون دولتها قادرة عسكريا على احتلال كل هذه البلاد بين هذين النهرين لكنها تحجم عن ذلك لعدم وجود مقومات بشرية تكفي لاستيعابها والسيطرة عليها..قد تكون تخشى فعليا أن تذوب قوتها البشرية في محيط بشري عربي هائل يتمتع بمقومات وامتداد حضاري تاريخي عميق..حتى وإن توفرت لها أعداد كافية من البشر اليهود لذلك فهي تخشى عليهم من الذوبان في المحيط الفلسطيني والعربي.. .فكيف إذا كانت مثل تلك الأعداد المطلوبة من اليهود غير متوفرة أصلا.. فضلا عن عجزها التام الواضح عن استيعاب بضعة ملايين في الداخل الفلسطيني من أبناء فلسطين العربية.. فكيف لها أن تستوعب أعدادا من العرب تفوق عشرات الملايين في محيط فلسطين !!
إن فضيحة استقدام ما يسمى يهود الفالاشا إنما تعبر عن عمق أزمة البشر التي تجتاح المشروع الصهيوني وفشله في إقناع يهود العالم أنفسهم بالهجرة إلى فلسطين..
فهذا سبب إضافي جوهري يجعل إمكانية بقاء الكيان موضع شك أكيد وينبئ عن تفككه من داخله نظرا لتصدع يصيب أسسه ومقومات بقائه وفقا لإدعاءات الصهيونية ومزاعمها الدينية المزيفة..
تاسعا – الرأي العام المناقض :
تتزايد وتتوسع فعاليات رأي عام إنساني غير قابل بالمشروع الصهيوني ومناهض له لاعتبارات متنوعة.. بعضه في الأوساط اليهودية ذاتها وبعضها الآخر في اوساط إنسانية نخبوية عامة..وقد لعبت عوامل كثيرة دورها في بلورة هذا الرأي العام الإنساني الرافض للمشروع الصهيوني كليا أو جزئيا..
١ – وحشية دولة الكيان وآلتها العسكرية وتعاملها الإجرامي المدمر للوجود الفلسطيني ما أثار ويثير كثيرا من الإدانة والرفض والإشمئزاز من سلوك الدولة الصهيونية وسلوكها الإجرامي مع الآخر الفلسطيني والعربي.. ولعل الشابة الأميركية البطلة راشيل كوري والتي سحقتها دبابة الكيان ومشت فوقها فسوت عظامها بالأرض ، نموذج طبيعي متميز لهذا الرأي الإنساني العام..
٢ – التطور المذهل لوسائل الإعلام والاتصال مما يجعل كل جريمة أو عدوان ترتكب دولة الكيان مكشوفا للعالم بوحشيته وإجرامه..
٣ – آنكشاف الارتباط الوثيق للمشروع الصهيوني ودولة الكيان بالنظام الرأسمالي العالمي الفاسد المتغطرس بقيادة الولايات المتحدة التي أصبحت رمزا للعدوان على أي شعب يسعى للتحرر والتقدم ..مما يجعل كل أحرار العالم المتطلعين لحرية إنسانية حقيقية والمناهضين للنظام الرأسمالي العالمي ؛ يناهضون أيضا قاعدته العسكرية المتقدمة في الكيان الصهيوني وبالتالي يتعاطفون مع شعب فلسطين والعرب في صراعهم الوجودي ضده..
٤ – تطور مناهج البحث العلمي ودراسات الوعي بالتاريخ والمراجعة التاريخية النقدية لكثير مما كان يبدو بديهيا لفترة من الزمن ..وهذا كشف الستار عن كذب ادعاءات الصهاينة التاريخية والدينية معا..ولعل كتاب المفكر الفرنسي روجيه غارودي عن ” الخرافات المؤسسة لدولة إسرائيل ” ثم كتاب المؤرخ اليهودي ” الإسرائيلي ” شلومو ساند ” وهو الأستاذ في جامعة تل أبيب ؛ عن ” اختراع الشعب اليهودي ” دليلان صاخبان على سقوط مدو للمشروع الصهيوني..
٥ – نشوء وتوسع وعي يهودي نخبوي تكشفت له خلفيات ودوافع استعمارية للدعوة الصهيونية وبطلان وزيف ادعاءاتها الدينية مما جعل كثيرا من المثقفين اليهود يقفون ضدها ويطالبون بالإعتراف بوجود شعب فلسطيني له حق الحياة والحرية والدولة المستقلة..تكفي الإشارة إلى تلك الجماعة من الباحثين اليهود ومعظمهم يعيش داخل دولة الكيان ؛ والتي أطلق عليهم إسم : ” المؤرخون الجدد ” والتي تشكك بكثير من الروايات الدينية والتاريخية الصهيونية وتتبرأ منها..
٦ – نفور قطاعات لا بأس بها من النخب الثقافية والاجتماعية العالمية من النهج الصهيوني في التعاطي مع أي نقد تتعرض له سياسة الكيان أو أي من إعتداءاتها المتكررة على الشعب الفلسطيني..وقد بات ما يسمى معاداة السامية تهمة جاهزة لقمع أي نقد لتسلط الصهيونية اليهودية وأساليبها في التحكم والإستغلال والإستعلاء والإحتكار وتسخير الآخرين لمصالحها ؛ في أي مكان من العالم.. أو أي رأي مخالف ؛ الأمر الذي يعزز ذلك النفور ويكشف زيف الدعاية الصهيونية ودوافعها الربوية اللا إنسانية.. ويلعب العقل الربوي الإحتكاري للنخبة المالية اليهودية دورا بارزا في تنفير الكثيرين من المشروع الصهيوني ونهجه اللا أخلاقي..
عاشرا – الداخل ” الإسرائيلي ” المتهالك :
في العقود الثلاثة الأخيرة طفت على السطح تناقضات ” مجتمع الداخل ” في دولة الكيان ..فمن عدم مقدرة الجماعات الوطنية أو القومية من الانسجام فيما بينها نتيجة الاختلافات البنيوية الجوهرية في مكوناتها النفسية والثقافية والاجتماعية ، إلى بروز فروقات طبقية بين فئات الداخل ؛ مرورا بامتيازات يتمتع بها يهود الغرب على غيرهم من اليهود العرب والشرقيين وهو ما يشكل انقساما عاموديا في مجتمع الداخل ..إلى غير ذلك من الفساد السياسي والأخلاقي والمسلكي بما يخالف السلوك اليهودي المتدين..وهذا ما يضع قطاعات واسعة من المتدينين اليهود على هامش المجتمع بل على هامش السياسة فيتبعون مواقف معارضة لسياسة الدولة ؛ فضلا عن تلك الجماعات التي تعارض أساسا فكرة تأسيس دولة لليهود كما هو حال منظمة حراس المدينة ( ماغنا كارتا )…
ومنذ سنوات غير قليلة بات التهرب من الخدمة العسكرية أو الهروب منها أو رفض أوامرها أو إفشاء أسرارها أو بيع أسلحتها ؛ و انتحار عسكريين شاركوا في اعتداءات على الفلسطينيين فأصابتهم عقدة الذنب وتأنيب الضمير إلى غير ذلك من الظواهر الإضطرابية في صلب الكيان ومؤسسته العسكرية التي تشكل ذراعه الأقوى والأهم..
لهذه الأسباب مجتمعة يجدر القول بأن هذا الكيان المصطنع غير قابل موضوعيا
للاستمرار والاستقرار وبالتالي فإن مصيره السقوط بفعل التفكك الداخلي وليس بفعل انتصار عسكري عربي ساحق عليه..ولعل دروس التاريخ تؤكد هذا بدءا من الامبراطوريات القديمة وصولا إلى كل كيان مصطنع غريب كما حال الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا مرورا بتجربة الإتحاد السوفييتي وتفككه بالانهيار من الداخل..
ولعل إحدى أبرز نقاط ضعف دولة الكيان أنها مشروع شمولي لا ينجح بالتجزئة ؛ فإما أن ينجح بكامل أبعاده العقائدية الدينية أو يسقط كاملا ..وطالما أن الوقائع العملية أثبتت استحالة نجاحه بأبعاده المتكاملة كمشروع عقائدي ديني يقوم على العصبية الدينية فقط ؛ فليس أمامه إلا السقوط والإنهيار سيما وأنه استنفد كامل قوته وإمكانياته التعبوية والدعائية والتدميرية والبشرية أيضا..
إن مؤسسي الكيان – أقطاب النظام الرأسمالي الإستعماري العالمي – يدركون قبل غيرهم جملة الحقائق هذه..فيعملون لتأسيس بدائل عنه تؤدي ذات وظيفته الإستعمارية المتمثلة بالسيطرة على العرب ومنعهم من التحرر والوحدة والتقدم..
فماذا هم فاعلون وعلى من يعتمدون بديلا عن الصهيونية المتهالكة وإن بدت راهنا وكأنها في ذروة قوتها وذروة الضعف العربي المقابل.