خيرالله خيرالله
مرّة أخرى تكشف المملكة الأردنية الهاشميّة أنّها بلد لا يتهرّب من مسؤولياته. تؤكّد ذلك الكلمة التي ألقاها الملك عبد الله الثاني أمام الجمعية العموميّة للأمم المتحدة، وهي كلمة شرح فيها طبيعة الداء ووصف الدواء، خصوصاً في ما يخصّ أزمة اللاجئين السوريين في الأردن وغير الأردن، أي في لبنان وتركيا أيضاً.
بعيداً من التنظير والشعارات والتهويل على السوريين، بعيداً أيضاً من أي نوع من العنصريّة، جاء تركيز العاهل الأردني على الحلّ السياسي المستند إلى قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 2254 الذي يدعو إلى فترة انتقالية تليها انتخابات بإشراف الأمم المتحدة.
قال عبد الله الثاني، مستنداً إلى لغة الأرقام: “نحن الأردنيين نعتمد الجدّية في القيام بواجبنا تجاه المحتاجين، ونبذل كل ما في وسعنا لتأمين حياة كريمة للاجئين. يشكل السوريون تحت 18 عاماً ما يقرب نصف اللاجئين السوريين الذين نستضيفهم، والبالغ عددهم نحو 1.4 مليون سوري. وبالنسبة إلى كثيرين منهم، الأردن هو البلد الوحيد الذي عرفوه على الإطلاق، فقد ولد أكثر من 230 ألف طفل سوري في الأردن منذ عام 2011”.
هناك إذاً مليون وأربعمئة ألف لاجئ سوري في الأردن و230 ألف ولادة في الأراضي الأردنيّة منذ 2011، تاريخ اندلاع الثورة الشعبية السورية. واجه النظام الثورة بالقمع والتهجير. لا يريد سنّة في سوريا. كلّما تقلّص عدد السنّة زاد النظام، ومن خلفه إيران، ثقة بالنفس وثقة في إمكان إحداث تغيير ديموغرافي لا عودة عنه. يتبيّن يوماً بعد يوم أن مثل هذا التغيير أقرب إلى المستحيل بعدما بدا أنّ الأقليات السورية، بمن في ذلك الدروز والعلويون، تعرف في العمق أنّ هناك أزمة اسمها أزمة النظام السوري الذي لا يستطيع الإقدام على أي خطوة تصبّ في اتجاه الحل السياسي. لذلك تحدّث عبد الله الثاني عن القرار 2254 وعن المقاربة الأردنية التي عنوانها الخطوة في مقابل الخطوة، أي أن أي خطوة عربيّة تجاه سوريا يجب أن تقابل بخطوة إيجابية يقوم بها النظام، بما في ذلك السماح بعودة اللاجئين، بدل زيادة عمليات تهريب المخدرات (الكبتاغون خصوصاً) إلى دول الخليج العربي والسلاح إلى الأردن.
كان ضرورياً، في ضوء التطورات التي يشهدها الجنوب السوري حيث يواجه المواطنون السنّة والدروز ميليشيات النظام وميليشيات تابعة لإيران، أن يرفع عبد الله الثاني الصوت. رفع الصوت ليقول إن الأردن يشعر بتهديد لأمنه الوطني لذلك قال “إن مستقبل اللاجئين السوريين في بلدهم، وليس في البلدان المستضيفة. ولكن، إلى أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم، علينا جميعاً أن نفعل الصواب تجاههم. والحقيقة أن اللاجئين بعيدون كل البعد من العودة حالياً. بل على العكس من ذلك، من المرجح أن يغادر المزيد من السوريين بلادهم مع استمرار الأزمة. ولن يكون لدى الأردن القدرة ولا الموارد اللازمة لاستضافة المزيد منهم ورعايتهم. يجب علينا إيجاد حل سياسي يتوافق مع قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الرقم 2254. كذلك، يوفّر نهج الخطوة بخطوة طريقاً إلى الأمام، فهذا النهج الذي اقترحه الأردن كأساس للتعامل مع الحكومة السورية، بالتنسيق مع الأمم المتحدة، يضع خريطة طريق لحل الأزمة تدريجاً والتعامل مع جميع عواقبها. وحتى ذلك الحين، سنحمي بلدنا من أي تهديدات مستقبلية جراء هذه الأزمة التي تمس أمننا الوطني”.
أطلق العاهل الأردني تحذيراً واضحاً. يستند هذا التحذير إلى قدرة المملكة الهاشميّة على فهم ما على المحكّ في الجنوب السوري من جهة، وامتلاكها ما يكفي من الإمكانات للدفاع عن مصلحتها وأمنها من جهة أخرى. أكثر ما يعرفه الأردن هو طبيعة النظام السوري واستحالة إصلاحه من داخل في ضوء السيطرة الإيرانيّة عليه. تكمن مصلحة الأردن في التصدي لكلّ ما من شأنه تعريض أمنه الوطني للخطر انطلاقاً من رغبة واضحة في زعزعة الاستقرار في المنطقة.
إلى إشعار آخر، يظلّ الأردن الذي لديه حدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة ومع إسرائيل ومع سوريا والسعوديّة والعراق، حجر الزاوية للاستقرار الإقليمي. لذلك نجده مستهدفاً في ضوء المشروع التوسّعي الإيراني الذي يقف عائقاً في وجهه وفي وجه تمدده إلى الضفّة الغربيّة، خصوصاً.
متى أخذنا في الاعتبار موقع الأردن ومدى قربه من فلسطين، يمكن فهم مصلحة المملكة الهاشميّة في تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين تقوم على حل الدولتين. من هذه الزاوية، يسهل فهم إصرار عبد الله الثاني منذ سنوات طويلة على حل الدولتين الذي دافع عنه في إحدى المرات في الكونغرس الأميركي بمجلسيه. كان ذلك في آذار (مارس) 2007.
لم يتغيّر شيء منذ ما يزيد على 16 عاماً. على العكس من ذلك زاد الوضع سوءاً وزاد تعلّق الأردن، في 2023، بأهّمية القدس ومقدساتها ودوره في رعاية هذه المقدسات المسيحية والإسلاميّة، وخيار الدولتين.
أظهرت السنوات الأخيرة أنّ عبدالله الثاني كان على حقّ، هو الذي حذر منذ تشرين الأوّل (أكتوبر ) 2004 من “الهلال الشيعي”، بمعناه الفارسي، الذي تسعى إيران إلى بنائه بعد سيطرتها على العراق.
كان لا بدّ من التذكير مجدداً بأن الاستقرار في المنطقة واحد لا يتجزّأ. لذلك قال العاهل الأردني في الأمم المتحدة مستبقاً لقاء الرئيس جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يسعى إلى تكريس الاحتلال “إن كل قرارات الأمم المتحدة منذ بداية هذا الصراع تعترف بالحقوق المتساوية للشعب الفلسطيني بمستقبل ينعم بالسلام والكرامة والأمل. هذا هو جوهر حل الدولتين، السبيل الوحيد نحو السلام الشامل والدائم”.
هل لا يزال مكان للغة المنطق في منطقة تكره المنطق؟ السؤال يطرح نفسه بعد خطاب عبدالله الثاني الذي يمتلك بلده مصلحة في الاستقرار والانتماء إلى كل ما هو حضاري في هذا العالم ولا شيء آخر غير ذلك!
المصدر: النهار العربي