حسن فحص
صلاحيات مطلقة للولي الفقيه “فوق الدستور والتشريع” مدنياً ودينياً. على رغم أن الشعارات والمبادئ المؤسسة التي قامت عليها الثورة الإيرانية، كانت تضع الشعب على رأس الأمور وأنه مصدر الشرعية والسلطات، وعززت هذا التوجه الوثائق التي أزاحت مؤسسة نشر تراث “الإمام الخميني” السرية عنها والمتعلقة بمرحلة تأسيس مجلس قيادة الثورة، عندما استندت المؤسسة إلى الشرعية الشعبية والدينية في السلطات التي تسمح لها باختيار وتشكيل هذا المجلس ونقل صلاحيات قيادة البلاد إليه في المرحلة الانتقالية.
ومع انتهاء المرحلة الانتقالية وتشكيل الحكومة الموقتة وتوليها مهمة إجراء أول انتخابات برلمانية، أضاف المؤسس مسلمة أخرى إلى مسلمة الشعب كمصدر للسلطات والشرعية، بأن وضع البرلمان في إيران باعتباره منبثقاً وممثلاً للإرادة الشعبية على رأس السلطات وأهمها.
وفي ظل هذه المسلمات التي شكلت أسس العقد الاجتماعي والسياسي الذي أراده المؤسس، إلا أن تطورات الأحداث والعملية السياسية أنتجت مستوى مختلفاً من الصراع، يمكن توصيفه بأنه صراع بين تيار أو جناح من القوى الجديدة يسعى إلى تكريس المبادئ الديمقراطية مع مراعاة البعد الديني للنظام والدستور، وتيار أو جناح يمثل المؤسسة الدينية التي رأت في نفسها الجهة التي من المفترض أن ترسم مستقبل إيران ونظامها السياسي.
وإذا ما كانت الغلبة في هذا الصراع قد انتهت إلى سيطرة المؤسسة الدينية، فإن عوامل من داخل التيار الديمقراطي المدني ساعدت في توفير أرضية هذا الصراع، عندما فتحت معركة الصلاحيات مبكراً من دون أن تأخذ في الاعتبار الحال العاطفية والحماسة الدينية التي تشكلت حول المؤسس ومعه طبقة رجال الدين، بالتالي أسهمت في منح هذه المؤسسة الدينية ما تريده وما يساعدها على إحكام قبضتها على النظام ومؤسسات الدولة، بحيث لم تتردد في إقصاء وتهميش وملاحقة كل القوى الرافضة لهذه الهيمنة.
على هامش هذا الصراع، كانت مؤسسة حرس الثورة الإسلامية العسكرية التي حددت مهماتها ودورها في الدفاع عن الثورة من أعداء الداخل والخارج، بعيدة بقوة موقف المؤسس السيد الخميني من التدخل في الشؤون السياسية في النظام والدولة، إلا أن التعديل الذي أجري أواخر عام 1987 على الدستور وتغيير طبيعة صلاحيات الولي الفقيه من محددة إلى مطلقة، خلقت واقعاً جديداً بحيث فتح الطريق أمام هذه المؤسسة العسكرية للقيام بدور في توازنات القوى وتغليب محور على محور، بخاصة أن هذا التحول ترافق مع انتهاء الحرب العراقية- الإيرانية وضرورة البحث عن مجالات جديدة لتفريغ فائض القوة الذي راكمته هذه المؤسسة خلال الحرب مع العراق.
وبالتالي فإن تحالفاً نشأ بين هذه المؤسسة والمرشد أو القائد الجديد للثورة والنظام السيد علي خامنئي ومعهما رئيس الجمهورية هاشمي رفسنجاني على تقاسم الأدوار.
إلا أن تحالفاً من نوع آخر نشأ على هامش هذه الصفقة للتقاسم، هو التحالف الذي جرى بين المرشد ومؤسسة الحرس التي تحولت بعد دخولها الكبير والواسع في عملية إعادة الإعمار والمشاريع الاقتصادية، إلى أداة في يد المرشد تعمل لتكريس سلطته ومنع أي محاولة لإضعاف موقع القيادة باعتبارها “خلاصة النظام وعنوانه ورأسه الديني والأيديولوجي” والقادرة على منح الشرعية لأي جهة أو مؤسسة أو شخصية.
وبرزت أهمية هذا التحالف مع اختبار شكل المؤشر الأول على وجود تيار اعتراضي استطاع عام 1997 إيصال محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية على حساب مرشح النظام والمرشد علي أكبر ناطق نوري الذي كان يشغل منصب رئاسة البرلمان أو السلطة التشريعية، ثم جاء الحراك الطالبي الذي شهدته جامعة طهران والذي شكل الأرضية لتدخل صلب وحاسم من مؤسسة الحرس عبر أجهزة مكافحة الشغب والشرطة وعناصر أمنية بلباس مدني بقيادة رئيس البرلمان الحالي الجنرال محمد باقر قاليباف، إذ مارست أعلى درجات القمع والقتل في صفوف الطلاب وانتهكت حرمة الحرم الجامعي، في رسالة واضحة بأن منظومة السلطة وقيادة النظام لن تسمح بإحداث أي تغيير في طبيعة النظام والسلطة، بخاصة ما يتعلق بالبعد الأيديولوجي والعقائدي لهذه السلطة.
بالتوازن مع استعراض القوة الذي قام به النظام، بدأ مسار فكري وعقائدي يتعارض مع المبادئ المؤسسة، وحاول هذا المسار تكريس دينية الدولة والنظام من خلال حصر الأشكال والممارسات الدستورية التي تكرس شعبية وديمقراطية النظام في الانتخاب وصناديق الاقتراع في إطار الآليات السطحية غير الضرورية، واعتبار مهمتها محصورة في “الكشف” عن إرادة الغيب في اختيار المرشد، باعتباره امتداداً عقائدياً يرى في هذا الموقع لولي الفقيه استمراراً لحكم المعصومين من الأئمة الإثني عشر في المذهب الشيعي الجعفري الذين هم بدورهم معينون من قبل الرسول الأكرم المختار من الله عز وجل، مما يعني أن المرشد أو ولي الفقيه هو استمرار وامتداد لحكم الرسول ومختار من الغيب ولا دور للبشر أو “الشعب” في هذا الاختيار إنما مهمته هي الكشف عن هذا الاختيار عبر آلية مركبة تمر بصناديق الاقتراع لاختيار مجلس خبراء القيادة الذي بدوره يكشف عن الولي الفقيه المختار من الغيب.
تكريس هذه القراءة أو الأيديولوجيا، سمحت لولي الفقيه وبعد التعديل الدستوري الذي منحه صلاحيات مطلقة “ما فوق الدستور” مدنياً وما فوق التشريع دينياً، بأن يكون قادراً على تعطيل القوانين والنصوص الدستورية إذا رأى مصلحة في ذلك، فضلاً عن قدرته على تعطيل الأحكام الدينية بناء على المصلحة، كما فعل في تعطيل الحج نتيجة توتر العلاقة بين النظام الإيراني والسعودية بسبب الخلافات السياسية بين البلدين.
المصدر: اندبندنت عربية