حنين عمران
سيطرت الميليشيات الإيرانية منذ بدء الحرب السورية على عدة مناطق في أطراف دمشق وخاصة منطقتي السيدة زينب وحجيرة؛ وكانت حجتهم آنذاك تستند إلى ما وصفوه بـ “حماية المراقد المقدسة والأقلية الشيعية” هناك.
وكان من الضروري إيجاد حجة جديدة تبرر وجودهم ضمن دمشق، فبدأت أحلامهم من منطقة باب شرقي، أقدم أحياء العاصمة والذي يضم غالبية أبناء الطوائف المسيحية؛ وصارت حجتهم الجديدة “حماية الأقلية المسيحية من هجمات الإرهاب” وخاصة بعد تساقط القذائف بصورة متكررة على تلك المنطقة ما أثار الهلع عند الأهالي الذين ابتلعوا الكذبة في البداية لكنهم ما لبثوا أن أدركوا حقيقة الأمر.
حماية أقليات أم غزو ثقافي؟
يؤمن الإيرانيون بفكرة “الغزو الثقافي” التي يعدّونها جزءاً من الحرب الناعمة التي كانت الولايات المتحدة الأميركية الرائدة فيها، فدرسوها وطوّروا أدواتها وألّفوا فيها كتباً كاملة بتوجيهات من “الحرس الثوري الإيراني”.
تهدف تلك الحرب الناعمة، على خلاف الحرب النفسية (القصيرة المدى)، إلى تغيير ثقافة الفئة المستهدفة من خلال تغيير ذهنيتها بخطة بعيدة المدى تحدد بفترة زمنية “خمس سنوات فما فوق”؛ فهي حرب النَفَس الطويل والنتائج المتجذرة. ولم تكن خطة الإيرانيين في منطقتي باب شرقي وباب توما القريبة منها مختلفة عن خطتهم في عموم سوريا وتحديداً في مناطق دير الزور التي يتمركزون فيها عسكرياً وإعلامياً واجتماعياً؛ وتقوم هذه الخطة على تغيير الطابع العام للمنطقة بتغيير بعض أفرادها ومن ثمّ إحداث العدوى بين البقية سواء كان ذلك بالترهيب أم بالترغيب، فلا تخلو محاولاتهم من “دس السم في العسل” واستغلال نقاط ضعف الفئة المستهدفة، والتي قد تكون من خلال:
حاجة الشباب الخريجين وغير الخريجين إلى العمل أو تطوير المهارات أو المال؛ فيتم توظيفهم في مراكز إعلامية بتجهيزات حديثة يديرها “الحجاج” في دمشق ودير الزور.
حاجة الرجال من غير المتعلمين أو من معيلي الأسر إلى العمل، فيتم توظيفهم في مراكز أمنية وعسكرية كجنود تابعين لما يسمّونها “القوات الرديفة” التابعة لمؤسسة “الدفاع المحلي”.
حاجة الأهالي في مناطق الحرب والاشتباك إلى حماية منطقتهم وعائلاتهم، فيتم التلاعب بهم والسيطرة على هذه المناطق تحت ذرائع ردّ الهجمات الإرهابية وغيرها، ولا يخلو ذلك من افتعال تفجير هنا أو مشكلة أمنية هناك؛ ثم تدخلهم لحلّها ومنع تكرارها.
تغيير طابع المنطقة المستهدفة بفرض شروط جديدة
في حديث مع موقع تلفزيون سوريا، قال “أبو الياس” الذي كان يعمل في أحد بارات باب شرقي: “في عام 2016 ازداد انتشار عناصر الميليشيات الإيرانية في الحي والتضييق على الأهالي بهدف إجبارهم على إغلاق البارات ومضايقة مرتاديها من خلال التعرض لهم في أثناء خروجهم من أماكن السهر وطلب هوياتهم وأحياناً توقيفهم بحجة “تشابه الأسماء” وهذا الأمر الذي كان يحدث للشباب والشابات على حدٍّ سواء”.
وأضاف أبو الياس الذي هاجر في عام 2018 إلى أستراليا: “لم يتوقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى محاولة شراء البيوت العربية القديمة بأسعار غالية جداً واستثمار الكافيهات والمطاعم في المنطقة من أجل استقطاب السيّاح الإيرانيين والعراقيين ووضع برامج ترفيهية مناسبة لهم”.
وبعد تقصي الأمر تبيّن أن بعض الكافيهات في منطقة “تلة القاضي” التي تصل منطقة “القيمرية” بشارع الأمين، يديرها ويستثمرها أشخاص على علاقة وثيقة بـ “حزب الله” اللبناني، ولا يقتصر دورهم على استثمار الكافيه، بل وترويج الحشيش أيضاً وبيعه للشباب الذين يتجمعون عادةً في حديقة “القشلة” وحارات باب شرقي بالقرب من “الكنيسة المريمية” كل يوم خميس. ويتداول أبناء المنطقة اسم فتاة تدعى “حنان. ص” تنحدر من مدينة صافيتا بريف طرطوس، كانت على علاقة وثيقة بشخص يدير كافيه (باندا) في تلة القاضي، ونظراً لكونه ينتمي إلى حزب الله، فقد كانت تشتري منه “الحشيش” الذي تقوم هي لاحقاً ببيعه للفتيات في السكن المشترك الذي تقيم فيه في القيمرية ولأصدقائها في منطقة باب شرقي.
وأشار أبو الياس إلى أنه “في فترة من الفترات، استباح عناصر الميليشيات المنازل في الحارة المعروفة بـ (حارة اليهود) في حيّ الأمين، إما بالشراء المباشر أو الاستئجار أو حتى بموافقة أمنية وفّرها لهم ضباط النظام، وقد حولوها إلى غرف عمليات ومراكز مراقبة للأحياء التي نشروا فيها كاميراتهم بدءاً من شارع الأمين وليس انتهاءً بساحة باب توما وأزقتها”.
وغادر أبو الياس دمشق إلى أستراليا مع أفراد أسرته وإخوته وأبناء إخوته بعد أن ضاقوا ذرعاً بالممارسات ومظاهر التشدد الديني مثل اللافتات الطائفية والحواجز العسكرية و”انتشار الرايات السود ومسيرات اللطم” في الشوارع التي اعتادت سابقاً مظاهرَ الفرح والحياة. وقد حصل العديد من مسيحيي سوريا على فرص الهجرة من خلال الكنائس والمنظمات الإنسانية المسيحية. وبحسب قول أبو الياس: “اشترينا مستقبل ولادنا وصحتن النفسية”.
هجرة المسيحيين بالجملة بكفالة كنسية
لم يستطع الإيرانيون وميليشيا حزب الله أن يستميلوا الشباب المسيحي أو يفرضوا ثقافتهم عنوة على المنطقة ذات الطابع المسيحي، ولكنهم استطاعوا “تطفيش” الأهالي وتحديداً الشباب واليافعين من المنطقة.
“علاء. ق” شاب ثلاثيني ينحدر من بلدة خبب في درعا، وهو من سكان شارع القصاع الملاصق لباب توما والقريب من باب شرقي، يفيد في حديثه لموقع تلفزيون سوريا بأنّ عائلته هاجرت إلى أستراليا من خلال مساعدة بعض الأقارب لهم هناك في بداية عام 2019، أما هو فقد سافر إلى أربيل وعمل في بعض المطاعم والمحال هناك قبل أن يستطيع اللحاق بعائلته من خلال كفالة وموافقة كنسية بعد استقرار أهله فيها. واستطاع علاء بيع بيت العائلة الكائن في بداية شارع القصاع وذلك لتأمين تكاليف سفر العائلة نظراً لكون أسعار البيوت في تلك المنطقة غالية جداً.
أما “فراس. ب” فهو شاب تخرج في كلية الاقتصاد، وعلى الرغم من حبّه لمنطقته فإن ضغوط الأهل عليه من أجل السفر كانت أكبر من العواطف؛ فقد خاف الأهل عليه من تلك الميليشيات بعد مشكلة حدثت بينه وبينهم في أثناء خروجه مع أصدقائه من أحد المطاعم، وخوفاً من التحاقه بالخدمة العسكرية في جيش النظام أيضاً، وقد احتاج والده الذي يعمل في محل لصنع الأيقونات والزينة الكنسية إلى بيع سيارته حينذاك لتأمين كلفة السفر.
يخبرنا فراس فيقول: “تواصلت مع صديقي في كندا وطلبت منه مساعدتي في تأمين كفالة كنسية”. ويضيف لـ موقع تلفزيون سوريا: “لا يتوقف الأمر فقط على الكفالة بل على الشروط المفروضة أيضاً، إذ يجب إيداع مبلغ مالي في أحد البنوك بعد فتح حساب شخصي بقيمة 12 ألف دولار كندي، أو تأمين كفالة بقيمة 18 ألف دولار كندي في حال عدم وجود كفيل هناك”.
المنح الدراسية: وسيلة للهروب من مناطق تغلغل الإيرانيين
يلجأ الشبان الذين لم يستطيعوا تأمين كفالة أو إيداع مبلغ كبير في أحد بنوك الدول الأوروبية، إلى التقدم للمنح الدراسية في تلك الدول.
“سامر. ز”، شاب تخرج في كلية الطب في دمشق وينحدر من منطقة صيدنايا ويقطن في إحدى الحارات القريبة من باب السلام بدمشق القديمة. استطاع سامر الحصول على موافقة في المنحة الهنغارية، ويخبرنا بأنه قبل حضوره ورشة تعريفية بالمنحة وطريقة التقدم إليها “كنت أعتقد أن موضوع القبول صعب بس حصلت عليه!”. وعن أسباب رغبته في السفر يضيف الطبيب الشاب في حديث لموقع تلفزيون سوريا: “لا مستقبل في البلد، والمنطقة التي قضيت طفولتي فيها خيّم عليها السواد؛ ما عاد نشعر بالانتماء هون”.
وعن إحدى القصص التي تركت عنده ندبة، يقول سامر: “كنا في التكسي أنا وصديق نتحدث عن الصور والرايات المنتشرة بساحة باب توما (وهي صور لجنود من الميليشيات المسيطرة على المنطقة) وفجأة، يتوقف التكسي عند حاجز ويهمس السائق لأحد عناصره بكلام لم نستطع سماعه، بعدها نزّلونا من التكسي وأخذوا الهويات واقتصر الموضوع على بعض الشتائم بعد أن عرفوا أننا أطباء بإشهار بطاقات نقابة الأطباء الخاصة بنا. ظنّوا أن كلامنا عن الصور هو سخرية، لذلك حاولوا يذلّونا ببعض الشتائم قبل أن يتركونا”.
الجدير بالذكر أنّ صور القتلى من الميليشيات الإيرانية وميليشيا حزب الله لا تزال موجودة في ساحة باب توما حتى الآن.
محاولات لشراء البيوت الدمشقية والمحال التجارية في المنطقة
عرض الإيرانيون في بداية اقتحامهم لمناطق دمشق القديمة بدءاً من باب شرقي وباب توما والقيمرية حتى العمارة والمنطقة المحيطة بمقام السيدة رقية، مبالغ خيالية لأصحاب البيوت ولا سيما البيوت العربية القديمة والمحال التجارية عن طريق سماسرة سوريين.
ويقطن أحد هؤلاء السماسرة ( رضا. ش) في منطقة السيدة زينب ويروّج لنفسه على أنّه صاحب محل فضة وعباءات في منطقته. وإلى جانب عمله في تصريف الدولار بالسوق السوداء وشراء الأراضي في المناطق المحيطة بمنطقة السيدة زينب مثل منطقة حجيرة، فإنه يعمل أيضاً في تأمين بيوت واستثمارات للإيرانيين ضمن منطقة دمشق القديمة، حتى إنّ زوجته تساعده من خلال السؤال عن بيوت للبيع في تلك المناطق للتمويه وعدم إثارة الشكوك. علماً أن رضا ينحدر من حلب، وتحديداً من مدينة نُبّل.
ويسعى الإيرانيون لاستعمال السوريين كسماسرة خوفاً من كشف أوراقهم ومدى تغلغلهم في سوريا، وخوفاً من الاغتيال أو الاستهداف كما يدّعون؛ لكن السبب الأهم هو رفض العديد من السوريين بيع ملكياتهم للإيرانيين حتى لو عُرضت عليهم مبالغ ضخمة، وهو أمر تحدث عنه (أبو حسام الحلاق) من سكان حي العمارة حين رفض بيع بيته رغم عرضهم عليه مبلغاً بالدولار يعادل ما قيمته آنذاك 800 مليون ليرة سورية في عام 2018.
لم يكن كلام “أبو الياس” عن الأساليب الخبيثة التي يتبعها الإيرانيون مبالغةً؛ بل كان نتاج واقع عايشه وعانى منه لسنوات قبل سفره من سوريا، ويعبّر عنه بالقول: “الإيرانيون بالهم طويل وأساليبهم مسمومة ومدروسة، وما سعوا إليه حصلوا عليه؛ طفّشونا!”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا