باسل المحمد
يتمايز كل مجتمع عن الآخر بصورة نمطية (إيجابية أو سلبية) تمييزه عن باقي المجتمعات، فمن احترام الوقت عند الأوروبيين، إلى الانضباط والدقة في العمل عند اليابانيين، إلى الثقة الزائدة بالنفس عند الأمريكيين، إلى غير ذلك من صفات تعمم على مجتمع بعينه، دون أن تنطبق بالضرورة على كافة أفراد المجتمع.
حديثنا اليوم عن المجتمع السوري ككل، بغض النظر عن التقسيمات التي أفرزتها سلطات الأمر الواقع مناطق (المعارضة، قسد، النظام)، لأنها بالنهاية تقسيمات طارئة ومؤقتة تزول تحت أي ظرف أو قرار دولي.
ولأنه عندما تزول الضوابط الأمنية والسلطة المتحكمة عن أي مجتمع، إذ يبدأ عندها بالتمايز والظهور على حالته الطبيعية غير المصطنعة بتأثير الخوف أو النفاق للسلطة الحاكمة، في هذه الحالة يبدو الحديث عن صفاتنا كمجتمع سوري بعد عام 2011 أكثر مصداقية، وأكثر وضوحاً.
العمل الجماعي
تأتي على قائمة هذه الصفات الابتعاد عن فكرة “العمل الجماعي”، والسعي لتحقيق “مجد فردي” على حساب الجماعة أو المؤسسة أو الهيئة التي يعمل بها.
وهو في سبيل هذا الظهور أو المجد، لا يتورع كثيرا عن التخوين والنقد الهادم والسرقة من المال العام، إذ همه أن يظهر وأن يتم تسليط الأضواء عليه، وأن يبني مجده الخاص، دون الاكتراث أو التفكير بنجاح المؤسسة أو الجهة التي يعمل معها.
فالمجتمع السوري قبل حكم البعث ومن ثم الأسد شأنه شأن باقي المجتمعات التي ناضلت بشكل جمعي للدفاع عن هوية سورية الوطنية بغض النظر عن الدين أو الطائفة من جهة، وبعيداً عن الفردية والأنانية من جهة أخرى، إذ لا يخطر ببال أحد أن يوسف العظمة مثلاً خاض معركته الشهيرة مع الفرنسيين بحثاً عن مجد فردي، أو منصب قيادي، وكذلك الأمر بالنسبة لمن جاء بعده من الوطنيين السوريين كإبراهيم هنانو وسلطان باشا الأطرش والخراط وغيره، الذين كان همهم هو الدفاع عن سورية وتحريرها من الاستعمار.
تفتيت الهوية
هذا المجتمع الذي عانَى بأكمله من الاضطهاد والاستبداد في فترة حكم الأسد (الأب والابن)، وتركيز هذا النظام على تفتيت الهوية السورية الوطنية الجامعة؛ لأسباب أقلوية ومصلحية، إضافة إلى افتقاد المساءلة والمحاسبة في هذا المجتمع، كل ذلك انعكس بشكل سلبي على الثقة ليس بين السلطة والشعب فحسب، بل بين مكونات الشعب نتيجة المظلومية التي عانت منها كل المكونات؛ وانعكس أيضاً على الفرد بشكل خاص إذ نما لديه شعور الخوف والشك بأي سلطة أو قيادة ناتجة عن هذه السلطة المستبدة.
ولا نبالغ إذ قلنا إن حالة الشك والتخوين والهدم هي حالة ناتجة عن التكيف الإجباري للسوريين مع نظام الأسدين على مدى خمسة عقود من الزمن.
وقد بين عالم السياسة بيتر ميركل أن مشكلة غياب الثقة بين الناس، في مجتمع ما، تجعلهم قليلي التعاون مع بعضهم البعض، وكثيري التشكك بأخلاق كل من يتعاملون معه، وميالين على اتهامه بكل أنواع الشرور، حتى لو كانت تلك الشرور من بنات أفكارهم.
مقدمة ابن خلدون
وإذا كان ابن خلدون قد قال في مقدمته الشهيرة عن العرب إنهم «فرديون» وعبّر عن ذلك بقوله: “قلّ أن يُسلم أحد منهم الأمر لغيره ولو كان أباه أو أخاه”. فإننا لا نبالغ إذا قلنا إننا كسوريين أشد (فردانية) وتمسكاً بالمناصب من غيرنا.
وهذه الحالة أي (الفردانية) التي كان سببها نظام الأسد، من خلال سعيه إلى تدجين المجتمع على السمع والطاعة، والتفكير بالخلاص الفردي من خلال شكه وخوفه من كل شيء حوله.
هذه الحالة لا نستطيع تعميمها على كل الجغرافيا السورية بالمطلق، إذ لا يمكن أن نقارن تمسك رئيس النظام السوري بمنصبه، وقتله للآلاف وتهجيره للملايين، بتمسك رؤساء وقيادات المعارضة العسكرية والسياسية بمناصبهم وتدويرها فيما بينهم مثلاً، لأن الحالة الإجرامية والتوحشية التي يمارسها النظام في سبيل ذلك لا يمكن مقارنتها بأي حالة في العصر الحديث.
إلا أن هذه الحالة يمكن أن نلاحظها بوضوح -كما أسلفنا- في مؤسسات الثورة والمعارضة السورية وكياناتها الرسمية والعسكرية والنقابية، وهنا تبدو المفارقة، إذ أننا كسوريين قمنا بهذه الثورة على حكم “الرجل الواحد”، و”الحزب الواحد”، لنجد أنفسنا نعيد هذه “الفردانية الأسدية والبعثية” لكن بصورة أكثر تنميقاً وتجميلاً.
فالمتتبع للمسار السوري (السياسي، أو الاجتماعي، الثقافي…..) منذ لحظة التجرؤ وكسر حاجز الخوف عام 2011 يلاحظ أن السوريين عجزوا بشكل واضح عن بلورة مصالح مشتركة يجتمعون عليها، أو مشروع جماعي مستمر ومستدام يتنادون إليه.
فمن الأمور التي فاجأت السوريين، بعد الثورة، أن مستوى ثقتهم ببعضهم البعض انخفض بدرجة كبيرة، إذ تبين لهم أن النخب غير معنية كثيرا بهموم الناس، وأن مؤسسات المعارضة لا تقل فسادا عن مؤسسات النظام، وأن اتباع طرق الخلاص الفردي هو السائد بين كثيرين.
ولم يبرع السوريون إلا في مهاجمة أي مبادرة فردية أو جماعية، وتحطيم أي محاولة والاستهزاء بكل جهد، وقد يتطور ذلك إلى التخوين أيضاَ، ولطالما برعوا في تكوين عداوات أو جفاوات مع القوى التي لها أثرها في القضية السورية، بغض النظر عن غايات تلك القوى، وبالطبع كسبت تلك القوى وما زالت تكسب -وبسهولة -مناصرين لها ومنافحين عنها من الجماعة السورية التي يتأمل كل منهم بمصالح فئوية تضعهم على رأس القرار الذي ستنتهي له المعضلة السورية، والتي لا يبدو أنها ستنتهي، لأن المعضلة المركزية ليست في الوسط الإقليمي أو الدولي المحيط بسوريا فحسب، بل تكمن تلك المعضلة أيضاً بالسوريين، وطريقة تفكيرهم ومقاربتهم للمسائل.
بالنهاية فإننا كسوريين لا تقل حاجتنا إلى حلول سياسية أو دبلوماسية للواقع الحالي بقدر حاجتنا إلى حلول على المستوى الاجتماعي والنفسي، حلول تدفعنا للعمل بعقلية جديدة تعلي من شأن الجماعة مقابل الفرد، وتقدس المصلحة الوطنية مقابل المصلحة الشخصية النفعية.
فالمجتمعات بشكل عام لا تنجح إلا إذا اعتبرت نفسها في سفينة واحدة، إن نجت نجا الجميع وإن غرقت غرق الجميع، أما الخلاص الفردي فليس إلا لغة الشيطان.
صحافي سوري
المصدر: القدس العربي