انتشرت خلال فترة الثورة السورية ظاهرة من ظواهر الواقع السوري لم تكن موجودة بهذا الشكل القميء، وهي ظاهرة (التعفيش) المعممة كثيرًا لدى شبيحة الأسد. وهي ظاهرة اجتماعية يبدو أنها قد أصبحت ممنهجة، حيث يقف النظام السوري متفرجًا على آليات انتشارها، بل هو يشجع شبيحته عليها في معظم الأحيان، حتى باتت مقلقة للناس، فأي إنسان يهاجر قسريًا، سيتوقع بالضرورة، أن يقوم بعض من شبيحة النظام بتعفيش منزله بقضه وقضيضه. حول هذه الظاهرة سألت جيرون بعض المختصين والمتابعين ويرى الاختصاصي النفسي عبد الرحمن دقو ” بدأت بفعل انتشار مفهوم الغنائم لدى بعض الفصائل الاسلامية المعارضة التي قامت بالاستيلاء على مؤسسات الدولة والمدنيين الموالين للنظام أو ممن في حكمهم، أو ممن حكم عليهم الشرعيون الذين يأتمرون بأمرهم ، ولم تكن تلك القوى تمتلك مفهوم ثوري يحفظ فيه حقوق الدولة ومؤسساتها وحقوق المدنيين وممتلكاتهم فتم ترويج مفهوم الغنائم محققين بذلك ولاء مقاتليهم بفتاوى شرعييهم، ثم سرعان ما انتقل ذات السلوك إلى النظام وحلفاؤه وتشكيلاته العسكرية، بذات النهج والأسلوب، ولكن بمسمى آخر وهو (التعفيش ) وكونه يمتلك القدرة العسكرية والأمنية استطاع أن يوظف هذا المفهوم كسلاح لا يقل عن سلاح القتل والتدمير في مواجهة المعارضة بكل أشكالها المدنية والعسكرية . ومن حيث النتيجة أرى أن قوى النظام استخدمت مفهوم التعفيش وبعض قوى المعارضة استخدمت مفهوم الغنائم، وفي كلا الحالتين كان الضحية هو الشعب السوري وممتلكاته. وهنا أتحدث عن منهجية التعفيش وهي تماثل منهجية الغنائم من حيث الأسلوب والأهداف ” ويرى أيضًا أنها ممنهجة ” بمعنى مشرعة سياسيًا فهي استجابة لتعليمات رسمية أمنية لتحقيق أهداف مدروسة منها: توفير معززات مادية (حوافز، اغراءات) لمتابعة القتال لدى القوات النظامية، وإن شرعنة سلوك التعفيش بدون شعور بتأنيب الضمير، واعتبار هذا السلوك مسموحًا به، وبالتالي خلوه من المسؤولية الأخلاقية والقانونية، هو استلاب القيم الأخلاقية من أي مقاتل. وأيضًا توفير غطاء مادي لسد العجز المالي المترتب على المؤسسات العسكرية والأمنية تجاه الملتزمين معها من جيش وأجهزة أمنية وتشكيلات مقاتلة وبالتالي اعتبار ما تستحوذ عليه بمثابة تعويضات مجزية ماديًا. من جهة أخرى تعتبر هذه المنهجية في التعفيش بمثابة سلوك انتقامي من الحاضنة الشعبية للمعارضة أياً كانت. كما تعتبر سياسة تفقير للحاضنة الشعبية، وتدمير ممتلكاتها مما ينعكس على مواقفها السياسية والشعور بالخسارة الفادحة التي تصيبها جراء التعفيش. أيضًا هي رسائل للمناطق المرشحة للتعفيش، في حال عدم استسلامها كدروس وعبر تدفعها للشعور بالعجز والاستسلام. وهو رد فعل على مفهوم الغنائم الذي أبدعته الفصائل المسلحة الاسلامية التي اعتبرت كل ما في المناطق التي تحررها من قبضة النظام هي بمثابة (غنائم) يتم تقاسمها ونهبها وهي مصطلحات ومفاهيم تقابل تمامًا مفهوم التعفيش. وهي منهج ارضاء لزعماء الحرب من ضباط وقياديين نذروا حياتهم للاستمرار في محرقة الشعب السوري فداء لقيادتهم السياسية فنشأ أمراء حرب التعفيش حيث يتواجدون في سورية.” وتحدث عن لماذا يقف النظام متفرجًا
فقال ” من الطبيعي أن لا يقف النظام في وجه ظاهرة التعفيش كونه هو من سوق لها ومنحها غطاءً أمنيًا لتحقيق مجموعة أهداف استطاع أن يصل لها بنجاح، وبالتالي هي مظاهر فاضحة لمن يمتلك أخلاق الحرب والصراع، وليست فاضحة لمن لا يملك أياً من تلك الأخلاق، وبالتالي هي أداة حرب كأسلحة القتل والتدمير بمختلف أشكالها وألوانها”.
أما الكاتب السوري عبد الباسط حمودة فتحدث قائلًا ” أسرَّ المرحوم الدكتور بديع الكسم – شقيق عبد الرؤوف الكسم الأكبر – لصديقه المرحوم الدكتور جمال الأتاسي بداية الثمانينات، وهما يناقشان مآلات سورية آنذاك كمعارضين، وذلك بعد حل النقابات بعد بيان التجمع الوطني الديمقراطي في منتصف آذار/مارس 1980 وموجة التغيير الوطني والحراك المدني حينها ، بأن وفدًا من القضاة في دمشق قد طلب مقابلة حافظ الأسد ليشرحوا له حال القضاء وتغول أجهزة الأمن وأزلام النظام، خاصة من سرايا الدفاع بقبض الرشى والضغط على القضاة لتغيير مسار الدعاوى لصالح من يدفع أكثر. وتفاجؤوا جميعًا حين قال لهم حافظ: أنتم لا تعرفون كيف تتدبروا أموركم، ففهموا جميعًا أن ما يجري ويتم كان بعلمه وبتوجيهاته. نعم هكذا كان الأزعر الأول والجاسوس الأول، يُعمم الفساد والنهب، ولا يقبل بالمسؤوليات العامة الأمنية والعسكرية ناهيكم عن الحزبية ولا يستوزر، إلا الزعران واللصوص والأغبياء أمثاله (إلا ما ندر)، وهم الذين سمموا الحياة الوطنية وعمقوا الشرخ وكانت سرقاتهم محمية بالقانون. فكما كانوا يتعيشوا ويقتاتوا من سرقات وتعفيش لبنان، أخذوا بتعميم هذه الظاهرة، بل الجناية، في الداخل السوري وبشكل يكاد يكون علني، تزامن ذلك مع التعديات التي واكبت حملاتهم الأمنية لمنازل المعارضين من وطنيين ديمقراطيين وإسلاميين، وكانت قمتها بدخول وتدمير حماة في 1982 وسرقة المصاغ وتعفيش كل ما خف وزنه وغلا ثمنه، بعد قتل أكثر من ربع سكان المدينة وعطب أكثر من الربع الآخر بإشراف مباشر من المجرمين حافظ وأخيه رفعت. أردت من ذلك أن أشير إلى أن الظاهرة/ الجناية قديمة ولصيقة بنظام آل أسد وبعثهم الفاسد والمُفسد، إلى أن جاءت ثورة الحرية والكرامة في آذار/مارس 2011 كي يشاهد شعبنا نتائج كل تلكم المشاريع التعفيشية الأسدية مطبقة ومنذ الأيام الأولى للثورة، من سرقة موصوفة، وقتل، ونهب البنية التحتية للمنازل وأصحابها، والتي يدخلها الأمن الأسدي وجيشهم الإرهابي. ولا يكتفون بذلك بل قاموا (وبكل وقاحة) بفتح أسواق للمسروقات وما تم تعفيشه وبمناطق لم تكن خافية على كلاب حراسة نظام الشبيحة ومسؤوليه الأوغاد”. ثم قال حمودة ” تحول الزعران هؤلاء إلى ميليشيا نهب محمية وفق القانون الأمني الذي يمنع مساءلة أي أزعر منهم عن ممارساته وجرائمه. فقد كانت وحشية آل أسد وبعثهم الفئوي في الثمانينات مشروع عملي لتطبيق ما علمه المجرم والجاسوس الأول لجلاوزته وكلاب حراسته كي يتم تطبيقها بشكلٍ أشمل وأعم على شعبنا حين ينتفض بثورة شاملة للحرية والكرامة، وضمن خطط مُمنهجة بالتشاور مع الصهاينة وأميركا، وهذا الذي حصل ونفذ بعد آذار/مارس 2011 ومازال. والسؤال الذي يفرض نفسه: من أين جاء كل هذا الكم من المُفسدين والمُعفشين والبعثيين اللصوص؟؟ يجب أن نعترف أنهم من أبناء جلدتنا وبلدنا، ممن نخر الفساد وسوء التربية الأخلاقية والوطنية ذواتهم ودُفعوا للانحراف بفعل العصا والجزرة الأسدية وتغول أجهزة الأمن العابثة بمصير البشر والحجر وصولًا لتوسل ذلك من شعارات كاذبة، وغير مطابقة للواقع، بل مطابقة للنهج الفاشي الأسدي الذي تم تعميمه بشراء الذمم والضمائر. وهو يؤكد أننا لم نكن شعبًا موحدًا في يوم من الأيام، كما كنا نعتقد ونزعم، كما أنه لم يكن لدينا دولة بالمعنى الحديث للكلمة، وبالتالي فهويتنا لم تكن سوى رغبة أو أمنية تبخرت عند أول امتحان حقيقي للحرية في سوريتنا. فهل كان هناك أحدٌ يدرك أن الجحيم يمكن أن يتشكل في الحياة الدنيا قبل الآخرة في سورية؟ هكذا كانت حياة شعبنا ببحثه عن الحرية في ظل حكم آل أسد وبعثهم الفئوي. ومن يأمن للعقرب التي تعيش بين ثيابه تقتات على ثنايا جسده كمن يأمن لتلك الطغمة الأسدية البربرية.
الباحث السوري سليمان الشمر أكد أن ” ظاهرة التعفيش التي اجتاحت الواقع السوري وشكلت صدمة في الوجدان الجمعي يبدو أن لها بعد ثقافي تاريخي في المجتمعات العربية يعود لعقلية العشيرة التي تمجد الغزو والغنيمة والسبي وقد تابعنا باندهاش نهب المقرات الحكومية في العراق عقب الغزو الأميركي ( مدارس- ادارات – بنوك)-لا اعتقد ان الظاهرة وراءها توجه سلطوي ممنهج لكن هناك غض طرف كوسيلة تشجيع وربط للمعفشين بالنظام ولو لمرحلة ذلك أن الظاهرة لم تقتصر على القوى المنظمة، بل إن هناك مدنيون كثر شاركوا في هذه الظاهرة لكن الأخطر أن هذه الظاهرة قلما لاقت رفضًا من المجتمع، وهناك إقبال على شراء السلع المعفشة لرخصها تحت ذريعة الحاجة، ولم تقتصر على طرف المواليين فقط، بل إن هناك أطراف معارضة مارست ذات الفعل، في عفرين مثالًا مع الأخذ بعين الاعتبار الفروق في سعة الظاهرة وعمقها عند الطرفين”.
المحامي والكاتب السوري ثامر الجهماني قال لجيرون ” يصعب القول إن ظاهرة التعفيش ظاهرة حديثة في المجتمع السوري. بل هي قديمة قدم النظام الأسدي المافياوي. وقد أصبحت لصيقة بالجيش السوري والتشكيلات المنظمة منذ عشرات السنين. يعود لفظ التعفيش. عَفَشَ: فعل ثلاثي مصدره عفْش وهو أثاث المنزل، إلى نشوء ظاهرة الشبيحة، وهم المرافقة الخاصة لأفراد أسرة الأسد وأنسبائهم. تعود الظاهرة إلى سياسة ممنهجة استعملها حافظ الأسد لتثبيت حكمه كأداة مهمة من الأدوات لزيادة عدد الموالين المستفيدين من وجود هذا النظام، الذي استغل الفاسدين أصلًا وإفساد غير الفاسد بالأصل، لذلك كانت أكبر جريمة ارتكبها النظام السوري هي إفساد المجتمع.” وتابع الجهماني قائلًا ” هناك ثلاث محطات مهمة من تاريخ التعفيش عبر عمر النظام الأولى فترة تمدد سلطة رفعت الأسد وشبيحته (سرايا الدفاع) حيث أباح لأفرادها مدينة دمشق لثلاثة أيام يفعلون ما يشاؤون، فترة سيطرته على دمشق إبان محاولة الانقلاب على شقيقه. حيث تم تعفيش سوق الذهب والبيوت الفخمة والمشاريع الكبرى. الثانية. فترة تعفيش متواصلة على لبنان استمرت لسنوات طويلة شاهد فيها كلا الشعبين السوري واللبناني بطولات الجيش السوري في تعفيش كل شيء في لبنان حتى حنفيات الحمام. الثالثة هي ما قامت به الفرقة السورية التي شاركت القوات الأميركية في تحرير الكويت فقد عادت الحافلات ممتلئة بالعفش الكويتي. حتى جاءت فرصة من ذهب حين أعلن النظام السوري الحرب على جموع الشعب السوري وأطلق العنان لأفراد عصاباته باستباحة كل شيء. حيث تكثر في سورية الآن ظاهرت أسواق التعفيش تحت إشراف (الجيش العربي السوري الباسل) في كل المدن السورية الواقعة تحت سيطرته. فإن فقدت أي قطعة أثاث ما عليك سوى التوجه إلى هذا السوق لتجدها هناك بلا أدنى شك. ويحدث ذلك تحت أعين السلطات والأجهزة الأمنية والعسكرية، وهي مكافأة بسيطة لهذه العصابات الأسدية المسلحة على تدمير سورية وتهجير شعبها”.
المصدر : جيرون