د- عبد الناصر سكرية
كثيرة هي الأطراف المحلية والدولية التي تسوق إعلاميًا فكرة مفادها أن إيران هي التي تقف وراء عملية طوفان الأقصى..ولكل طرف منها مصلحته الخاصة في ذلك..ولكنها جميعًا تصب في خدمة جملة أهداف فئوية أبرزها :
١ – تعزيز مبررات التدخل الغربي والأميركي العسكري المباشر مع دولة الكيان الغاصب ؛ بحجة الخطر الوجودي الشامل عليها ..
٢ – إيجاد مبررات لاستمرار غياب الرسميين العرب باعتبار أنها حرب إيرانية تستهدف خلط الأوراق في المنطقة وتفعيل دور إيران فيها..
٣ – إعطاء المواجهة طابعا فئويا يدخل في إطار لعبة السياسة والتفاوض وتبادل الصفقات والمنافع ؛ و لا يريد الاعتراف بأنها مقاومة شعبية فلسطينية عامة ضد المحتلين الصهاينة..
٤ – لتجيير نتائج المواجهات وآثارها الإيجابية إلى إيران ومنع الشعب الفلسطيني من استثمارها لصالح قضيته التحررية..
وعلى الرغم من أن مقاومة الشعب الفلسطيني للإحتلال الإستعماري لأرضه التاريخية قد بدأ وتصاعد منذ ما قبل اغتصاب فلسطين ؛ أي منذ ما قبل قيام نظام الملالي الديني في إيران ؛ إلا أن دخول النظام الديني الإيراني على خط قضية فلسطين قد أخذ أبعادا مختلفة أدخلها في صراعات السياسة ولعبة المصالح والمنافسات الإقليمية والمشاريع الطامعة في الوجود العربي العام..ومع أن الدور الإيراني قد استفاد من التخلي الرسمي العربي عن النضال الشعبي الفلسطيني وبقيت مشاركاته فيها لا تتعدى الخطب والتنديد والدعاء وبعض المساعدات المالية ؛ كما استفاد من قيام سلطة فلسطينية فارغة من أي مضمون إيجابي لصالح القضية إثر اتفاق أوسلو وتراجع دور منظمة فتح وكل مؤسسات منظمة التحرير ، الأمر الذي أفسح مجالا أوسع لصعود منظمة حماس وغيرها من التنظيمات التي طرحت رؤية دينية للصراع على أنه ديني بين المسلمين واليهود..إلا أنه – أي الدور الإيراني – قد تجاوز مسألة التضامن مع شعب فلسطين إلى الإستفادة منها لحساب مشروعه التوسعي الإقليمي على حساب الوجود العربي..ووجد ضالته في تنظيمات فلسطينية دينية وجدت نفسها محاصرة ووحيدة في ساحة العمل الشعبي المقاوم..وإذا كان من حق حماس كتنظيم وطني فلسطيني مقاوم أن يستفيد من أية قوة تعرض المساعدة والتأييد ؛ إلا أنه ليس من حقها ولا في مصلحتها ومصلحة فلسطين أن تكون ورقة بيد أية جهة خارجية تستغلها وتستغل حاجتها وقضيتها لمصالحها السياسية وطموحاتها التوسعية..
وإذا كان من حق إيران أن تتخذ من المواقف المعلنة ما يخدم سياساتها ومشروعها القومي التوسعي ؛ إلا أنه ليس من حقها المتاجرة بقضية وطنية لشعب عربي يريد تحرير أرضه وبلاده واستعادة سيادته عليها وهويته العربية..
وحينما رفعت منظمة التحرير شعار القرار الوطني الفلسطيني المستقل ؛ كانت موجبات المقاومة تستدعي ذلك لمنع أطراف رسمية عربية من استغلال قضية فلسطين لتحقيق مكاسب سياسية خاصة أو لفرض نوع من الوصاية على إرادة شعب فلسطين ومقاومته..
فما حاجة إيران لمثل هذه الإستفادة أو المتاجرة بفلسطين وقضيتها التحررية الوطنية من حيث هي صاحبة مشروع قومي يتحدث عن نفسه بوضوح منذ بدايات تدخله بالشؤون العربية إلى درجة جعلت كثيرين يتحدثون عن أهداف خبيثة لإيران حيال العرب عززتها ممارساتها في الساحة العربية في أكثر من بلد عربي ، لا سيما في العراق وسورية واليمن ولبنان وغيرها ..فهل تريد إيران تحرير فلسطين مثلا ، وهل هي مفوضة من الشعب العربي لأجل هذا الهدف القومي العربي العظيم ؟؟
١ – لم يكن الهدف الإستعماري من اغتصاب فلسطين يستهدف سوى الوجود القومي للأمة العربية وبناء دولة ” إسرائيل الكبرى ” من النيل إلى الفرات ..ولم تكن إيران يوما مستهدفة من عدونا الصهيوني باحتلال ولو جزء بسيط من أرضها القومية التاريخية.. بل على العكس فإيران تحتل منذ ما قبل اغتصاب فلسطين جزءا عزيزا واسعا من الأرض العربية وهو بلاد الأحواز على الضفة الشرقية للخليج العربي وتمارس عدوانا قمعيا مستمرا لإبقاء سيطرتها واحتلالها رغم المقاومة الشعبية المستمرة لشعب الأحواز العربي وهو في غالبيته الساحقة من الشيعة العرب.
٢ – ليست إيران إذًا معنية بتحرير فلسطين ولا هو مطلوب منها ذلك أبدا..فهذه مهمة الشعب العربي وقواه الحية ..حيث تحرير فلسطين لإعادتها إلى حضن أمتها العربية سيادة ودورا وتكاملا نضاليا تحرريا..فإن لم تعد فلسطين حرة عربية ؛ تتكامل نضالات أبنائها مع نضال الشعب العربي من أجل الحرية الكاملة والوحدة والتقدم ؛ فليس معنى ذلك أنها تحررت..
٣ – والحق يقال لم تتحدث دولة إيران الدينية يوما عن مسؤولية لها في تحرير فلسطين ولم تدع لنفسها مثل هذه المسؤولية التاريخية ..ولم يدخل في أية رؤية سياسية لها ؛ وفي كل العهود التي مرت بها ؛ أي كلام عن تحرير فلسطين ..فلا يحق لنا كعرب مقاومين مناضلين لتحرير أرضنا وبلادنا ؛ محاسبة إيران على ضوء هذا الهدف العربي ..
٤ – على العكس من ذلك تماما ؛ تتحدث السياسة الرسمية للنظام الإيراني ، دائما وبوضوح ، عن مشروع قومي لاستعادة ما تسميه الأرض التاريخية للإمبراطورية الفارسية القديمة التي انهارت بانتصار العرب المسلمين عليها..فعدو مشروعها ذاك هم العرب الذين كسروها ؛ فتعمل إذ ذاك على كسرهم واستعادة الأرض التي كانت لهم في بلادنا..والتصريحات الرسمية الإيرانية التي تتحدث عن حقها في أرض العراق وسورية وغيرها من أرض العرب التي كانت يوما ما جزءا من إمبراطورية فارس المنهارة..فهم لم ينكروا أطماعهم في بلادنا ولم يخفوها ..بدليل مواقفهم العملية الميدانية التي حملتهم للتعاون مع أمريكا لاحتلال العراق والقول أن بغداد عاصمة دولتهم القومية..وما ممارساتهم في العراق منذ دخولهم إليه على ظهر دبابات امريكا وتحت حمايتها ورعايتها المستمرة حتى اللحظة ؛ إلا تأكيدا لذلك المشروع التوسعي الإمبراطوري..
كما أن ممارساتهم في سورية في التغيير السكاني وتهجير ملايين السوريين العرب وإدعاء ملكيتهم للمناطق التي دمروها وهجروا أهلها ولا يزالون يحتلونها بواسطة ميليشياتهم المذهبية المتعددة الجنسيات ؛ إلا تأكيد على ذلك كله..
وليس ما يفعلونه في اليمن وسواها مغاير لتلك الحقيقة..حقيقة المشروع التوسعي الفارسي على حساب الأرض العربية..
٥ – ومنذ بداية عملية طوفان الأقصي وما تلاها ويرافقها إلى اليوم من حرب إبادة جماعية وتدمير شامل تشنه دولة العدو الصهيوني على غزة وعموم فلسطين ؛ وإيران تتخذ لنفسها موقف المتفرج خلافا لما تحدثت عنه رموز لبنانية وعربية موالية لها عما أسموه وحدة الساحات إطارا يلتزم به ما يسمى محور ” المقاومة والممانعة ” ؛ بما يعني الإلتزام بخوض معركة واحدة ضد ” إسرائيل ” على كل الجبهات..وأكثر تلك الجبهات المعنية أولا هي جبهة لبنان مع فلسطين المحتلة ؛ مع ما يعني ذلك من اشتراك قوات ” حزب الله ” ذراع إيران في لبنان وسورية ؛ في أية حرب تندلع بين المقاومة الإسلامية ، أي حماس والجهاد الإسلامي ، مع العدو الصهيوني ؛ تطبيقا لشعار وحدة الساحات..ولكن هذا لم يحدث حتى الآن ولا يلوح في الأفق ما يشير إلى إمكانية حدوثه رغم الضجيج الإعلامي لمحور ” الممانعة ” ..فهل يريد حزب الله الدخول في الحرب مع غزة ولا يستطيع ؛ أم أنه يستطيع ولا يريد ؟؟
٦ – مما لا شك فيه أن حزب الله يملك إمكانيات قتالية ؛ مادية وعينية ؛ كبيرة جدا ..وهي التي مكنته في أن يصبح صاحب نفوذ كبير في لبنان بل صاحب الكلمة الأعلى والنفوذ الأقوى فوق كل القوى العسكرية والأمنية اللبنانية وفوق مؤسسات الدولة المنهارة أصلا..فلماذا لم يدخل الحرب إلى جانب غزة ؟؟
٧ – ثمة عوامل أساسية تجعل من الحزب غير راغب في دخول الحرب إلى جانب غزة وأهلها :
أ- تؤكد المواقف الرسمية المعلنة لقيادة حزب الله أنه جزء من الجمهورية الإسلامية لدولة ولاية الفقيه الإسلامية في إيران ..وأنه يتلقى كل مصروفاته واحتياجاته وتمويله ، من إيران..وبالتالي فهو ملتزم بسياساتها وأهدافها في المنطقة كلها..وبما أن إيران أعلنت رسميا وأكثر من مرة أنها لن تدخل حربا نيابة عن أية أمة أخرى ؛ فمن البديهي أن التزام الحزب بالسياسة الإيرانية جوهريا واستراتيجيا ؛ يمنعه من دخول حرب مع غزة..
ب – الأمين العام للحزب أعلن سابقا ؛ أن طريق القدس تمر في القصير والزبداني والغوطة والسويداء ودرعا وكافة مدن سورية ؛ فهذا يعني أن طريق القدس طويلة ومتعرجة وليست في أولوياته الحالية..مما يعني أنه لا يريد الدخول في الحرب مع غزة وصديقته حركة حماس..
ج – كل مواقف قيادة الحزب تؤكد أنه ملتزم بسياسة توازن الرعب وأنه مستمر في جهوزيته العسكرية طالما بقيت ” إسرائيل ” تحتل مزارع شبعا اللبنانية..ولم يتحدث أحد منهم عن أرض فلسطين واحتلالها من قبل الصهاينة ؛ أو عن وجود رغبة أو نية أو حتى رؤية لمواجهة مع ” إسرائيل ” خارج إطار احتلالها لمزارع شبعا اللبنانية..وفي هذا موقف واضح وصريح ينفي عنه أي التزام تجاه أرض فلسطين وقضيتها..
د – يلتزم الحزب باتفاقيات مع دولة ” إسرائيل ” حول أمن الحدود البرية بين لبنان وفلسطين المحتلة ؛ وهي اتفاقيات برعاية دولية وعلى ضوئها تمت عمليات إدخال الحزب في إطار النظام اللبناني ومؤسساته التشريعية والتنفيذية والأمنية..استكملت حديثا باتفاقية لترسيم الحدود البحرية تخلى لبنان بموجبها عن حقول الغاز والنفط في المياه اللبنانية لدولة العدو..فكيف يدخل في حرب مع ذلك العدو عبر الحدود الجنوبية للبنان ؟؟
ح – إن كل التعبئة والتثقيف داخل الحزب وفي أوساط الرأي العام ، تتمحور على أساس مذهبي وتعبئة تحريضية مذهبية ضد قتلة الحسين وأحفادهم إلى الآن ؛ مفتقرة إلى أدنى تعبئة أو توعية بالخطر الصهيوني وطبيعته وأهدافه..بما يعني أنه ليس في صلب مواجهة مع الصهيونية التي لا يتحدث للناس عنها وعن أخطارها..
انطلاقا من هذه المنطلقات والأسس التي يلتزم بها الحزب ويتصرف على ضوئها ، يبدو واضحا أن كل كلام سابق عن ” وحدة الجبهات ” لم يتم الإلتزام به عمليا وفعليا..ولا يبدو أنه سيتم..فالسياسة الرسمية الإيرانية ليست في وارد حرب مع ” إسرائيل ” ولن تضحي بمكتسباتها السياسية التي حققتها مع الغرب حتى الآن ؛ وآخرها قرار الأمم المتحدة برفع عقوباتها على إيران ؛ من أجل فلسطين أو غيرها ..
وإذا كان الحزب ومن ورائه إيران ؛ يريد استثمار تضحيات أهل غزة العظيمة وبطولاتهم وصمودهم الرائع ؛ وتغطية امتناعه عن تنفيذ وعده بوحدة الساحات ؛ من خلال مناوشات محدودة جدا على الحدود الجنوبية للبنان ؛ أو من خلال خطب ودعايات تسويقية إعلامية ؛ فإنه يكون قد خطى خطوات متسارعة نحو إضمحلال سمعته القتالية وتراجع التفاف ” حاضنته ” الشعبية المباشرة عنه ، بعد أن فقد معظم مؤيديه السابقين حينما أثبت أنه أداة فعالة وذراع متينة للمشروع التوسعي المذهبي – التفكيكي الإيراني..
وتبقى فلسطين وحيدة في ميدان النضال الفعلي والمقاومة الشعبية الحقيقة في مواجهة نظام عالمي استعماري حاقد عديم القيم والمثل والأخلاق ؛ عديم الإنسانية وكل أنماط الرأفة والرحمة والعدل.. الممتلىء بكل أصناف الحقد والغدر والعنصرية والعدوان..فيما المطلوب تفعيل كل أنواع المقاومة الشعبية العربية في مواجهة هذا النظام العالمي الفاسد ؛ وفق رؤى ممنهجة وخطط محددة وأطر مؤسساتية منظمة فاعلة.