د معتز زين
شخصيا لم أكن أنتظر هذه التفاصيل المؤلمة التي تلت عملية طوفان الأقصى حتى أدرك حقيقة الغرب الرسمي .. لم أكن بحاجة إلى معاينة كل هذا الدمار والخراب والدماء والدموع والهمجية والبربرية حتى أرى الوحش الذي يخفي أنيابه ومخالبه وسمومه بأقنعة الشعارات ولعبة تبادل الأدوار التي يمارسها بمهارة منذ عقود طويلة .. كنت أفهم حقيقته تماما ليس لأنني عميق الفكر وبعيد النظر ، ولكن وبكل بساطة لأن الغرب نفسه يقدم ذاته على لسان مفكريه وكتابه وإعلامييه وأفلامه وأبناء مجتمعه وسياسييه وتاريخه كنظام نفعي براغماتي مصلحي تتفوق مصالحه على شعاراته ، وتهيمن رغباته على مبادئه ، وتطغى نزعته الاستعمارية على بقايا نزعته الإنسانية .. ولضرورات تسويقية ومن أجل اختراق الشعوب الأخرى التي يسعى الغرب للسيطرة عليها ونهب ثرواتها واستعبادها يتم إلباس هذا الوحش المفترس رداء من القيم والأخلاق والشعارات الإنسانية تخدع الرأي العام وتسهل أمام الوحش افتراس ضحاياه على طريقة افتراس الأسد للثيران الملونة واحدا تلو الآخر .. السبب في فهمي لطبيعة الغرب الرسمي هو قناعتي أنه لا يمكن لنظام نفعي مصلحي لا يستند إلى مرجعية قيمية أخلاقية تضع حدا لتغوله واستبداده أن يتراجع عن أهدافه تحت ضغط الشعارات الأخلاقية والظروف الإنسانية طالما امتلك القوة اللازمة لتحقيقها ..
المشهد كما يلي : بضع مئات من الأبطال في غزة – وهي أرض محتلة ومحاصرة من قبل الاحتلال وفقا للقانون الدولي – استطاعوا أن يخترقوا خطوط المراقبة الحديثة وجدار الفصل العنصري الذي فرضه الصهاينة – وهم قوة احتلال وفقا للقانون الدولي – وأسروا وقتلوا عددا كبيرا من جنود الاحتلال ، وحققوا إنجازا لم يكن الغرب يتوقعه ضمن حدود الإمكانات المتوفرة لديهم بعد حصار خانق لعقود .. ردة الفعل الغربية تجاه هذا الحدث – الذي يجيزه القانون الدولي – تمثلت بانتفاضة كل السياسيين الغربيين للوقوف إلى جانب المحتل ودعمه واعطاءه الضوء الأخضر لممارسة عملية إبادة جماعية ومجازر يومية وحرق منطقة غزة بمن فيها ( حيث ألقي على غزة مع صغر حجمها خلال أيام من الصواريخ والقنابل المدمرة ما ألقي على أفغانستان خلال سنة مع اتساع رقعتها بمباركة غربية علنية ) وقتل الصحفيين وقتل الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير البيوت و المستشفيات وقطع المياه والكهرباء والغذاء عن مليوني انسان وتحريك الاساطيل الحربية وتوافد رؤوساء الدول الغربية نحو الكيان الغاصب والكذب الصريح وتزييف الحقائق على لسان رئيس الدولة التي تقود العالم أمريكا ، وسقوط لعبة تبادل الأدوار التي كان يتناوب عليها قادة أمريكا والدول الأوروبية ، تزامن ذلك مع قيام ذات السياسيين بفرض قوانين في بلادهم تمنع التعاطف مع الفلسطينيين ورفع أعلامهم والتظاهر من أجلهم والحديث في وسائل التواصل عن جرائم الصهاينة إلى حد فرض عقوبة السجن سبع سنوات في فرنسا لمن يعلن تعاطفه مع الفلسطينيين ( لا تستغرب عزيزي المثقف المبهور بالغرب الحر فأنا هنا أتكلم عن الغرب نفسه الذي تقدسه في مقالاتك وليس عن بلادنا ) وانحياز شبه تام لوسائل الاعلام نحو الصهاينة ما يوحي بتأثير القرار السياسي بطريقة ما على أدائهم على عكس المعروف عن تلك القنوات والصحف ..
لقد كشفت الحرب على غزة كل الأقنعة وأزالت كل المساحيق عن الوجه الحقيقي للغرب أمام الجميع هذه المرة .. لقد سقطت كل شعارات الغرب دفعة واحدة بالضربة القاضية ( حرية التعبير – حرية التظاهر- الاعلام الحر – النزاهة المهنية – حقوق المرأة – حقوق الطفل – حقوق الانسان – اتفاقية جنيف – الديمقراطية – حق الشعوب بمقاومة الاحتلال -تجريم الفصل العنصري والابادة الجماعية – تحييد المدنيين والمؤسسات الصحية – تحييد الكوادر الإعلامية ……… وهكذا ركام من الشعارات التي فقدت في غزة معناها ) .. لو أردت أن أفصل في كل واحدة من تلك الشعارات لوجدت بسهولة في سلوك الغرب الرسمي خلال الاسابيع الماضية ما يسقطها ، والأسوأ من ذلك أن مؤسسات إعلامية غربية وازنة كان لها سمعة عالمية في المهنية والحياد والاستقلال عن القرار السياسي ظهرت في هذه الحرب بأشد ما يمكن من الانحياز للكيان المحتل المجرم وتبني روايته المزيفة وانعدام المهنية فضلا عن الأخلاق في محاولة مكشوفة للتأثير على الرأي العام الغربي تجاه القضية الفلسطينية ..
من حقنا والحال كما رأينا أن نستحضر مشاهد من تاريخهم لعلنا نفهم هذا الانفصام وتلك الازدواجية الفجة في التعامل مع قضايانا ( الحروب الصليبية والمذابح الفظيعة التي تخللتها – أكل لحوم البشر في المعرة – إبادة الهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين – الحرب العالمية الأولى والثانية – استعباد الافارقة والتنكيل بهم – حدائق حيوان بشرية – متحف جماجم – أسواق العبيد – هيروشيما وناكازاكي – مجازر فرنسا في الجزائر وأفريقيا – الصراع الكنسي السياسي ……. الخ ) هذا تاريخهم ، وهذه حضارتهم ، وهذه ثقافتهم .. ومعلوم أن التاريخ يشكل مكونا مهما من مكونات وملامح الشخصية الحضارية لأي أمة أو شعب .. وواضح من حرب غزة اليوم أن هذه السلوكيات ما زالت معجونة في أنسجتهم وجيناتهم وخلايا أدمغتهم .. كل ذلك يرجع في حقيقته إلى غياب المرجعية الأخلاقية القيمية – والتي مصدرها الأساسي الدين – كقانون يحكم سلوكهم أفرادا ومجتمعات ومؤسسات ، وكل مجتمع يفقد تلك المرجعية سيتصرف بنفس الطريقة عندما يمتلك القوة سواء كان من سكان الشرق أو الغرب أو حتى من سكان الفضاء .. إن دين الغرب الحقيقي مصلحته ، وإن سياسته العميقة ترتكز على استعمار الشعوب الأخرى والاستعلاء عليها واستعبادها ونهب ثرواتها . تتنوع الوسائل ويبقى الهدف ذاته ، المهم الوصول إلى هذا الهدف ، إن أمكن عبر الشعارات الأخلاقية والحقوقية واختراق ثقافة المجتمعات والسيطرة عليها من داخلها ، و إلا عبر استخدام السلاح النووي والابادة الجماعية والقتل والتدمير والمذابح .. لا فرق في ثقافتهم ، إذ لا يوجد في مرجعيتهم رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ولا في تاريخهم عمر بن الخطاب ولا أبو عبيدة ولا عمر بن عبد العزيز ولا نور الدين الزنكي ولا صلاح الدين ………….. والقائمة تطول .
هل أحتاج أن أعرض صورا من تاريخنا وتاريخهم كي أعقد مقارنة بين حضارتنا وحضارتهم ، و تعاملنا كمسلمين مع البلاد التي فتحناها وتعاملهم ؟؟ .. بصراحة أخجل حتى من عقد المقارنة لأنه يصعب لأحد أن يفاضل بين النهر العذب والمستنقع .. على كل حال يكفي النظر اليوم إلى طريقة تعامل المجاهدين مع النساء والأطفال والأسرى رغم ضعفهم وألمهم وتدمير بيوتهم وقتل أطفالهم من قبل الصهاينة لكي تدرك الفرق .. ذلك أن المجاهدين يستندون إلى إرث كبير من القيم والأخلاق والنماذج التاريخية والقوانين الإسلامية التي تضبط حركتهم وتعاملهم ..
لا يمكن أن ننكر وجود أصوات حرة كثيرة في الغرب سواء في الاعلام أو البرلمان أو المجتمع أو حتى في الحكومات تبني مواقفها على أسس إنسانية وأخلاقية وتؤمن بالمساواة بين البشر وهي تستحق كل التقدير والاحترام لكنها أصوات ضعيفة لا تؤثر على القرار الرسمي ولا تغير استراتيجيته ..
قد يتساءل البعض ما الفائدة من كشف حقيقة الغرب طالما أنه قوي جدا وقادر على فرض ثقافته ووجوده على بلادنا وأصحاب القرار عندنا ؟؟ الجواب أن الوعي هو الخطوة الأولى لتصحيح المسار ، والتعامل مع الغرب يجب أن ينطلق من معرفة بحقيقته سواء على مستوى الأفراد حتى لا نقع في فخ الانبهار والاعجاب المفرط بالغرب إلى الحد الذي يفقدنا ثقتنا وفخرنا بثقافتنا وحضارتنا وقيمنا ، فنحن أمة تمتلك أرقى منظومة أخلاقية وقيمية تتفوق بأشواط على الحضارة الغربية إنسانيا واجتماعيا وأخلاقيا ويجب أن يكون ذلك حاضر في الذهن عند الاحتكاك بالمجتمع الغربي ..
أو على مستوى أصحاب القرار .. وأعتقد أن أصحاب القرار في بلادنا يدركون حقيقة الغرب ويعلمون أنه وحش قوي متكبر يلبس رداء القيم على الشاشات فقط ويخلعه أمامهم في الغرف المغلقة ، وهم ينقسمون في التعامل معه بين الخوف منه وتجنب الاصطدام معه ، وبين الانحناء أمامه وتنفيذ أهدافه وتقديم فروض الطاعة له والعمل لصالحه حتى لو ضد مصالح شعوبهم ، وبين المناورة في التعامل معه من أجل تجنب شره بأقل التكاليف ، سواء كان الدافع لهذا السلوك خوفهم على كراسيهم ، أو كان الدافع خوفهم على بلادهم وشعوبهم من هذا الوحش المنفلت الذي يمتلك القرار الدولي والقوة الضاربة ، قد يجد الانسان بعض المبررات للسياسيين في بلادنا مع أنهم في تعاملهم مع الغرب يستندون إلى ذات المرجعية الغربية المصلحية والبراغماتية دون أي اعتبار للقيم والدين وتطلعات شعوبهم ، لكن عليهم أن يقبلوا بوجود طرف آخر يرى أن أفضل طريقة للتعامل مع الغرب وأداته ” إسرائيل ” هو التصدي له ومقاومته والوقوف شوكة في حلقه ضمن حدود الأدوات التي نمتلكها عندما يقترب هذا الوحش من الأهل والدار والممتلكات والدين والقيم فكيف إذا تم زرعه داخل الدار ، ويؤمن بضرورة العمل المستمر على تطوير أدواتنا بهدف طرده من أرضنا ورفع يده عن خيرات بلادنا وعن العبث بقيمنا وتشويه حضارتنا حتى لو كان ثمن ذلك الدم والالم والمعاناة والتخلي عن رغد العيش ، هؤلاء يرتكزون في سلوكهم إلى مرجعية قيمية أخلاقية تقيم اعتبارا كبيرا لقيم الشجاعة والكرامة والعزة والاباء والشهادة ورفض الظلم والاحتلال والسعي نحو تحقيق العدالة والمساواة بين البشر، وعلى أصخاب القرار إن تخاذلوا عن نصرتهم ودعمهم أن يكفوا عنهم ألسنتهم وأذاهم كحد أدنى لأنهم يمثلون نبض الشعوب وعمقها الحضاري والأخلاقي والإنساني ..
ربما تكون هذه المقالة غير مفيدة لمن يقرأها الان ، ذلك أن وضوح الصورة على ضوء الاحداث اليومية في غزة يغني عن المقال ، فالوقاحة الفجة التي تعامل بها كبار السياسيين في الغرب بالإعلان الصريح عن دعمهم لقتل وإبادة شعب غزة دون سقف زمني أو رقمي لعدد الضحايا لم تدع مجالا أمام أشد المعجبين بالغرب للدفاع عنه أو تبرير وقاحته وتوحشه ، لكنني أتمنى أن يستفيد منها الجيل الذي لم يشهد تلك الاحداث إن وصلت لبعضهم ، ذلك أن الغرب سيعمل كعادته بعد انتهاء المعركة وبما يمتلكه من وسائل اعلام و أدوات تأثير ضخمة وعملاء في الثقافة والسياسة على إعادة رسم صورته في أذهان الجيل القادم كنموذج للحرية والعدالة والديمقراطية والمساواة والدفاع عن حقوق المرأة والطفل والانسان وووووووو الخ ، وسيحتاج الجيل الجديد حينها عشرات السنين وشلال دماء والاف الصواريخ وملايين المهجرين وحماس أخرى تجرح الوحش وتهين كبرياءه وتزيل عنه أقنعته لكي يقتنع هذا الجيل أن الغرب فارغ من كل الشعارات التي يطرحها ..
المصدر: مجلة الوعي السوري