د- عبدالله تركماني
لم يعد وجود القائد الملهم الكاريزمي أو التقليد الموروث الراضي بالحكم المطلق مصدري شرعية مقبولين في عصر الدولة الوطنية الديمقراطية الحديثة، القائمة على الدستور والمؤسسات وفصل السلطات وتداول السلطة بالرجوع إلى رأي المواطنين الأحرار من خلال انتخابات حرَّة ونزيهة.
وفي الحالة العربية ثمة فجوة كبيرة تفصل بين الشعوب وأغلب الحكام وأزمة شك تاريخية تغلِّف العلاقة بينهما، إلى حدٍّ أدَّى إلى عزلة من يحوزون السلطة عن الجماهير العريضة بآمالها وآلامها وأحلامها، وهو أمر يؤكدُّ أنّ جزءاً كبيراً من الاحتقان السياسي الذي تشهده عدة أقطار عربية ناجم عن الفراغ السياسي الذي يحتل المساحة بين الحاكمين والمحكومين لدى معظم الشعوب العربية.
إذ إنّ الشرعية السياسية، لدى معظم الحكومات العربية، تعود إلى مرجعيات يصعب الأخذ بها أو التسليم باستمرارها، فالدنيا تتغيَّر والأحوال تتبدل وتبدو مع كل فترة زمنية تجلِّيات لم تكن مطروحة أو كانت مطروحة على استحياء من خلال مقولات صامتة، ترجمها الشباب العربي الثائر إلى فعل ثوري في موجتي ربيع الثورات العربية في عامي 2011 و2019، تتحدث عن الإصلاح والتغيير والديمقراطية. وفي هذا السياق فإنّ وجود قوى معارضة للنظم الحاكمة يحافظ على حدٍّ أدنى من التوازن الاجتماعي، إذ إنّ غياب المعارضة، على حدِّ تعبير الدكتور برهان غليون، هو الطريق المفتوحة نحو نشوء نخبة متحلِّلة من أيِّ التزام وطني كان أم أخلاقي، محميَّة من أيِّ ضغط شعبي ومرفوعة عن أيِّ منافسة أو مراقبة أو محاسبة، أي الوسيلة المثلى لخلق شروط تعميم الفساد وتحويل النخب السائدة إلى كائنات مفترسة لا رؤية سياسية لها ولا مشروع سوى التهام موارد الدولة والسيطرة عليها بجميع الوسائل. وبفقدان النخب الحاكمة لمعنى المسؤولية واستفرادها بتحديد معايير القيادة ومهامها من دون منافسة ولا نقد ولا محاسبة أو مساءلة، لم يكن هناك ما يحول دون استباحتها مصالح الناس وحقوقهم وتحوُّلها إلى عدو رئيسي للمجتمع، تستجلب نقمته أكثر مما يستجلبها العدو الخارجي نفسه.
ومن نافلة القول أنّ أغلب النظم العربية تفتقد لأيَّة شرعية دستورية وتعاني في مجملها من إشكالية في أدائها السياسي، وتفتقر إلى الشفافية في طريقة تعاطيها مع مواطنيها. وهذا يبدو جليّاً عند متابعة الممارسات السياسية التي ينتهجها أكثر المسؤولين العرب على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وما يهمنا هنا وصف جديد شاع مؤخراً ربما يكون له أهمية كبيرة بالنسبة لمنطقتنا وهو ” الدول الفاشلة “، ويعني تلك الدول التي لا يمكنها السيطرة على أراضيها، وعادة ما تلجأ إلى استخدام القوة، وتعجز حكوماتها عن اتخاذ قرارات مهمة، بقدر ما تعجز عن التأثير في حياة الناس أو اتجاه الأحداث، أو تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها، مع انتشار الجريمة والفساد. ومثل هذه الدول في الحقيقة لم تعد دولاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، حيث تمثِّل الدولة الوعاء الأساسي للتنظيم الاجتماعي، وتمثيل المجتمع إزاء العالم الخارجي، وعندما تفقد سلطة الدولة قدرتها على القيام بالوظيفتين فإنها تصبح بؤرة للفوضى الاجتماعية ومصدراً لتهديد ليس سكانها فحسب بل والدول الأخرى حينما تصبح قاعدة للجريمة المنظمة والإرهاب والقرصنة.
إنّ المؤسسات الصورية القائمة، في أغلب الأقطار العربية، أو التي يتمُّ تصنيعها كشكل فارغ للتطوير والتحديث لا تكفي إلا قليلاً ومؤقتاً، كما أنّ الدساتير لا تعني شيئاً ما دامت معطَّلة بحالة الطوارئ الرسمية أو الفعلية. فالنزعة الدستورية مفهوم لا يقبل الالتفاف عليه، والعصر لن يقبل بين ظهرانيه دفاعاً مفبركاً عن الشرعية المبنية على غير العقد الاجتماعي، أي الدستور المنبثق عن برلمان تأسيسي منتخب، الذي هو وحده شريعة المتعاقدين والحكم بينهم.
كما أنّ ذريعة الدولة القوية أيضاً لم تعد كافية، فلا أحد عاقلاً يريد عبور باب التغيير عن طريق النيل من قوة الدولة التي هي بذاتها ضمانة هذا التغيير، لكنّ قوة الحاكم لم تعد التعبير الملائم عن قوة الدولة منذ قرون، فالقهر والغلبة لم يعودا مصدراً للشرعية، وليسا حصناً منيعاً للدولة في الشروط المعاصرة.
إنّ المشكلة التي يواجهها العالم العربي الآن، بسبب غياب الشرعية الدستورية، أنّ هناك دولاً مرشحة للدخول إلى مصفوفة الدول الفاشلة، بكل ما يعنيه ذلك من نتائج استراتيجية موجعة للدول التي لا تزال متماسكة وتقوم بوظائفها في حماية المجتمع من نفسه ومن الآخرين.
لقد سقطت النظم التسلُّطية، كما حال تونس في عام 2011 حتى الانقلاب الشعبوي في عام 2021، بسبب افتقارها للنقد الداخلي وغياب مفهوم الإصلاح، وبالتالي تعفُّنها الداخلي وفسادها المضطرد، واستسهالها استخدام العنف على الاحتكام لمنطق السياسة، وإمعانها في الكذب على الرأي العام وتجاهله، ورهانها على استبطان الدونية والخوف واحتقار الذات الإنسانية للمواطن. فمتى تُلمِّسُ النظم التسلطية العربية على رأسها؟ أم هي تنتظر تداعيات “طوفان الأقصى”؟