خالد الجرعتلي
لطالما عبرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) عن خشيتها من احتمالية أن تسحب الولايات المتحدة الأمريكية قواتها من شمال شرقي سوريا، ما سيتركها عرضة لهجمات من تركيا والنظام السوري، قد تنهي وجودها.
تسيطر هذه القوات على شمال شرقي سوريا، بدعم من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، ولا تحظى بتوافق مع الوكلاء المحليين، كالنظام السوري والمعارضة، أو مع دول الإقليم وأصحاب النفوذ في سوريا.
وطرحت خطوة انسحاب واشنطن على الطاولة أكثر من مرة إذ قالت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية عام 2019، إن الجنود الأمريكيين في سوريا ينقلون إلى العراق، تمهيدًا للانسحاب من سوريا.
المخاوف عززها الانسحاب الأمريكي من أفغانستان عام 2021، لكن صحيفة “الشرق الأوسط”، نقلت في العام نفسه، عن مصدر لم تسمّه في وزارة الخارجية الأمريكية، أن الولايات المتحدة طمأنت “قسد”، وأكدت استمرارها في قتال تنظيم “الدولة الإسلامية”، ومسببات عدم الاستقرار في المنطقة.
ورغم تأكيدها وجود هذه التطمينات، قالت ممثلة “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد) في الولايات المتحدة، سنام محمد، في لقاء مع الصحيفة نفسها، إن الجميع يعلم أن “الوجود الأمريكي لن يبقى إلى الأبد”.
ومن الممكن إعادة النظر بفرضية الانسحاب الأمريكي في ظل تصاعد الأحداث العسكرية في الشرق الأوسط، والقوات العسكرية الكبيرة التي جلبتها واشنطن نحو المنطقة لدعم إسرائيل في حربها ضد غزة.
حالة التصعيد القائمة بين أمريكا وإيران شرقي سوريا منذ أكثر من شهرين، تمثلت بقصف شبه يومي من قبل ميليشيات مدعومة من إيران لقواعد أمريكية، ورد واشنطن باستهداف مقار ومستودعات للميليشيات نفسها في سوريا والعراق، محمّلة إيران مسؤولية هذه الهجمات.
هل تغيّرت أولويات أمريكا
في خضم التوتر الأمني في سوريا والعراق، ركزت الولايات المتحدة بشكل متكرر على أن وجودها في المنطقة مرتبط بمحاربة تنظيم “الدولة”، الذي كان يسيطر على المنطقة قبل عام 2019.
وكرر مسؤولون أمريكيون هذه التصريحات، حتى عندما قصفت أمريكا مقار لوكلاء إيران في دير الزور، قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) إن الأعمال الأمريكية العسكرية لا تشير إلى تغيير في نهج الولايات المتحدة تجاه “الصراع” في فلسطين، وليس لديها أي نية للتصعيد في المنطقة، لكنها ملتزمة بالدفاع عن النفس وحماية الأفراد الأمريكيين.
الباحث المساعد في مركز “عمران” للدراسات الاستراتيجية، أسامة شيخ علي، قال لعنب بلدي إن الولايات المتحدة دخلت إلى سوريا تحت ضغط ظهور تنظيم “الدولة الإسلامية” وتنظيمات متطرفة في سوريا، لكنها لم تكن راغبة بالانغماس في هذا الملف.
ومع أن واشنطن تمركزت شرقي سوريا، لكن اهتمامها قلّ خلال السنوات الماضية بمنطقة الشرق الأوسط بشكل عام، وفضلت التفرغ لمواجهة أعدائها التقليديين، روسيا والصين.
وبالنظر إلى الوضع الراهن، فإن هدف واشنطن بالقضاء على التنظيم لا يزال قائمًا خصوصًا مع عودة عملياته في سوريا لتأخذ منحى تصاعديًا منذ نحو شهرين، لكن في الوقت نفسه هدفت أمريكا إلى منع النظام من الاستفادة من موارد الشرق السوري، وهو هدف قائم حتى اليوم.
وأضاف الباحث أن اتجاه الأحداث التصاعدي في المنطقة بشكل عام انطلاقًا من غزة لا يزال مجهولًا، لكن التعزيزات العسكرية الأمريكية التي دخلت الشرق الأوسط تباعًا، توحي أن تصاعد الأحداث مستمر.
ويرى شيخ علي أن تغيّر أولويات الولايات المتحدة في المنطقة مرتبط بحجم التصعيد الذي تصل إليه الأحداث، لكن الوجود الأمريكي في سوريا سيستمر لفترة أطول مما كان مخطط له سابقًا.
الوجود الأمريكي معطل لمصالح إقليمية
بالنظر إلى تعارض مواقف الجهات الدولية الفاعلة في الملف السوري، يمكن ملاحظة أن روسيا وإيران والنظام السوري وتركيا أو مجموعة “أستانة” لطالما صبت احتمالية الانسحاب الأمريكي من سوريا بمصلحتهم.
وبطبيعة الحال، فإن حالة عدم الانسحاب تصب بمصلحة “قسد” التي لطالما أبدت مخاوفها من فقدان الحماية التي تؤمنها القوات الأمريكية وقواعد التحالف الدولي الموجودة في مناطق سيطرتها شرق نهر الفرات.
ويرى الباحث أسامة شيخ علي أن المعارضة السورية قد تكون من أكثر المستفيدين من هذا الوجود الأمريكي، نظرًا لكون النظام عاجز عن الوصول لموارده شرق الفرات، كما أنه عاجز عن استعادة منطقة كبيرة في سوريا، بالتالي عاجز عن تسوية الملف السوري بطريقة تناسبه.
الباحث قال إن تعقيدات الملف السوري، وضعت خيارات الحلول بالمنطقة أمام مصالح دولية وإقليمية، وانسحاب أي طرف من هذه الأطراف من سوريا سيصب بمصلحة الأطراف الأخرى دون شك، ووجوده سيعارض مصالح الأطراف نفسها.
وتستهدف تركيا “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكيًا شمال شرقي سوريا بأي شكل من الأشكال، إذ تعتبرها امتدادًا لـ”حزب العمال الكردستاني” المصنف على قوائم الإرهاب لديها، حتى ولو كان عبر إعادة سيطرة النظام على المنطقة بشكل كامل، بحسب الباحث.
وبالنسبة لإيران التي استثمرت في الشرق السوري بشكل كبير، بحسب شيخ علي، تهدف لفتح الممر الذي يربطها بلبنان عبر العراق ومرورًا لمحافظة دير الزور السورية.
ولطالما هدفت إيران لإثارة القلاقل شرقي سوريا عبر الاستثمار بـ”حراك العشائر”، وتداعيات الحرب على غزة، وملفات أخرى، بهدف زيادة الضغط على القوات الأمريكية شرقي سوريا.
وبالنسبة لروسيا التي تعتقد أنها سيطرت على مناطق واسعة من سوريا بالقوة، وحيّدت أخرى عبر تفاهمات مع تركيا، بقيت مناطق شمال شرقي سوريا تعيق تطبيق وجهة النظر الروسية لشكل سوريا المستقبلي، الذي يعني بالضرورة إعلان نصرها، ونجاح نموذجها للحل.
وجود “تحت التدقيق”
أثارت التبادلات المستمرة للهجمات بين وكلاء إيران والجيش الأمريكية في سوريا والعراق احتمالية مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، وحفزت وجهات نظر جديدة حول تكاليف وفوائد الوجود العسكري الأمريكي المستمر في الشرق الأوسط.
وفي 9 من تشرين الثاني الحالي، كتب دانييل ديبيتريس، زميل “أولويات الدفاع” الأمريكي تعليقًا على تبادل الهجمات، “إذا كان الوجود البري الأمريكي في العراق وسوريا ضروريًا للغاية لتحقيق مصلحة أمنية أمريكية أساسية، فربما تكون هذه المخاطر مقبولة، لكن هذا ليس هو الحال”.
وأضاف أن تنظيم “الدولة” خسر “خلافته الإقليمية” منذ أكثر من أربع سنوات، و تحول إلى “تمرد ريفي” منخفض الخطورة يمكن للجهات الفاعلة المحلية احتواؤه، معتبرًا أن الوجود العسكري الأمريكي ليس غير ضروري فحسب، بل هو أيضًا بمثابة فتيلر لحرب أوسع نطاقًا.
مدير دراسات الدفاع والسياسة الخارجية في معهد “كاتو”، جوستين لوغان، قال في مقال إن عمليات النشر المستمرة للقوات الأمريكية تضع أعضاء الخدمة في خطر دائم، خاصة في سياق التوترات الإقليمية المتصاعدة الناجمة عن الحرب في غزة، ولا تخدم أهدافًا سياسية واضحة أو قابلة للتحقيق.
وكتب الدكتور مارك إيبيسكوبوس المتخصص بقضايا الأمن القومي والعلاقات الدولية، أن المخاطر المتزايدة التي يتعرض لها أفراد الخدمة العسكرية الأمريكية والمخاوف من أن تؤدي هذه التبادلات المستمرة إلى إثارة مواجهة عسكرية مباشرة بين الولايات المتحدة وإيران، حفزت وجهات نظر جديدة حول تكاليف وفوائد الوجود العسكري المستمر في الشرق الأوسط.
وأضاف أنه من الواضح أن القوات التي يبلغ قوامها 2500 جندي في العراق و900 آخرين في سوريا، موجودة هناك لمنع عودة تنظيم “الدولة الإسلامية”، ولكن الأساس المنطقي وراء هذا الوجود أصبح تحت التدقيق.
توتر متصاعد
في 21 من تشرين الثاني الحالي، قالت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون)، إن طائرة عسكرية أمريكية هاجمت جماعة مسلحة مدعومة سبق وقصفت قاعدة أمريكية بصاروخ “باليستي” بالعراق.
وقالت نائبة السكرتير الصحفي سابرينا سينغ خلال مؤتمر صحفي، إن الهجوم الصاروخي “الباليستي” الذي أطلقته المجموعة نحو قاعدة “عين الأسد”، أدى إلى إصابات غير خطيرة في صفوف القوات الأمريكية وقوات التحالف.
وفي 8 من تشرين الثاني الحالي، أغارت طائرات الأمريكية على منشأة لتخزين الأسلحة يستخدمها “الحرس الثوري” والمجموعات المرتبطة به شرقي سوريا.
سبق ذلك في 27 من تشرين الأول الماضي، إعلان وزارة الدفاع الأمريكية، عن أن طائرتين مقاتلتين أمريكيتين قصفتا منشآت للأسلحة والذخيرة تابعة لإيران في شمال شرقي سوريا.
وبحسب ما نقلت وكالة “رويترز” جاء الاستهداف ردًا على هجمات شنتها فصائل مدعومة من إيران على القوات الأمريكية، مع تزايد المخاوف من احتمال انتشار الصراع بين إسرائيل و “حماس” في الشرق الأوسط.
وفي 12 من الشهر نفسه، قال “البنتاجون” إن القوات العسكرية الأمريكية نفذت ضربات على منشآت شرقي سوريا يستخدمها “الحرس الثوري الإيراني” والجماعات المرتبطة بإيران ردًا على الهجمات المستمرة ضد الأفراد الأمريكيين في العراق وسوريا.
ومنذ منتصف تشرين الأول الماضي، لازمت الصواريخ والطائرات المسيرة التي يطلقها وكلاء إيران من سوريا والعراق، القواعد الأمريكية في البلدين نفسهما، وصارت استهدافات يومية.
أحدث هذه الاستهدافات كانت أمس، الخميس 23 من تشرين الثاني، عندما أعلنت “المقاومة الإسلامية العراق” التي تتهمها واشنطن بالتبعية لطهران، عن استهداف قاعدة “حقل العمر” الأمريكية شرقي محافظة دير الزور السورية.
المصدر: عنب بلدي