د. عبد الله تركماني
ثمة نزوع عربي، يشتد يوماً بعد يوم، نحو التسطيح والاختزالية والإطلاقية. فما زالت أغلب الحكومات العربية تتعامل مع التحدِّيات بسلوك وبرامج إعلامية ديماغوجية، وما زال يغلب على السلوك الرسمي العربي استغفال الناس مظنَّة عدم معرفتهم بالمشكلات والآفاق، واستغفالهم، أو تحدِّيهم. ومن أمثلة ذلك ازدياد عملية توظيف النص الإسرائيلي في الخطابات والكتابات السياسية العربية، بما يشوبها من النواقص والسلبيات، التي من ضمنها، حسب الأستاذ ماجد كيالي: الانتقائية والجزئية، فثمَّة خطابات أو كتابات عربية يتعمَّد أصحابها انتزاع الاستشهادات الإسرائيلية من سياقها، مما يؤدي إلى مفاقمة الجهل بالعدو الإسرائيلي. وعليه فقد ساهمت هكذا خطابات في إشاعة نوع من الوعي السطحي بالعدو، على حساب تقديم وجهة نظر موضوعية في هذا الشأن. إضافة إلى النظرة الأيديولوجية المسبقة، التي ترى في إسرائيل كتلة صماء متجانسة غير خاضعة للتغيير، وتشتغل على الحطِّ من قدرها، والاستخفاف بنقاط قوتها.
والنتيجة فإنّ مثل هذه التوظيفات لا تساهم في تعزيز المعرفة العلمية بإسرائيل، بنظامها السياسي، وعلاقاتها وتناقضاتها الداخلية والخارجية، وعوامل قوَّتها وضعفها، بقدر ما تسهم، وإن من حيث لا تقصد، في التشويش على إمكانية خلق فهم موضوعي لحقيقتها، ولكيفية التعاطي المجدي مع مخاطر المشروع الصهيوني، ولعلَّ ما أظهرته النزعة ” الظافرية ” العربية في هذه الأيام، إزاء ” محرقة غزة “، يدلل على التسرع في إصدار الأحكام..
والمعنى فإنّ الارتقاء في فهمنا لإسرائيل، بأزماتها وإنجازاتها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، ليس له علاقة بأوهامنا عنها، ولا بالمقاييس التي نقيس بها مجريات الأمور عندنا، ولا بالرغبات التي نتمنى إسقاطها عليها، وإنما له علاقة برؤيتنا الموضوعية للأمور والتعمُّق في حقيقة الأشياء واستخدام وسائل البحث العلمي في التدقيق والتمحيص. ولا شكَّ بأنّ هكذا معرفة هي التي تمكِّننا من وعي طبيعة عدوِّنا، وحدود تناقضاته، وإدراك عناصر قوَّته وضعفه. وهي التي تمكِّننا من الاستعداد للتعاطي المجدي مع التحدِّيات التي يطرحها علينا، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والمعرفية والعسكرية، ومن ضمن ذلك تمكيننا من استثمار أزماته ومشكلاته.
ومن جهة أخرى، يزخر العالم العربي بثقافة ثالوث الظاهرة (التآمر – التخوين – التكفير)، حسب تعبير الأستاذ خالد غزال، بحيث تطغى تعابيره وتوصيفاته على كلِّ خلاف أو اختلاف مهما كان حجمه أو طبيعته. ويتغذَّى الثالوث من جملة عوامل بنيوية تتصل بتكوُّن المجتمعات العربية والأنظمة القائمة فيها والأيديولوجيات السائدة والعصبيات المسيطرة، تتقاطع جميعها عند غياب ثقافة الديمقراطية والاعتراف بالآخر والعيش معاً مختلفين، إضافة إلى الاستهانة بحقوق المكوّنات الأقلوية ومنع الأصوات المعارضة.
وفي الواقع لم تعرف اللغة السياسية العربية كلمة أكثر انتشاراً وابتذالاً من كلمة ” مؤامرة “، بحيث لا يكاد سجال يخلو، مهما كانت نوعيته، من استخدام هذه الكلمة. فقد مثَّلت المؤامرة في التاريخ العربي مشجباً عُلِّقت عليه الأزمات، وما تزال تشحن الجمهور وتخترق الصراعات السياسية والأيديولوجية وغيرها. وتبدو المؤامرة بمثابة النسق الثابت في الصراعات العربية ماضياً وحاضراً، بل هي تمثِّل دينامية العقل وفعاليته في هذه الصراعات. ويتمحور قسم كبير من قراءة التاريخ العربي على تفسير للأحداث وتعليل للهزائم بوصفها نتيجة المؤامرات، التي تعرَّض لها العرب والأطماع الأجنبية في السيطرة على الأراضي والموارد العربية.
ومن المؤكد أنه لا يمكن إغفال دور المؤامرات الخارجية في صنع الأحداث الداخلية أو التأثير فيها، وهو أمر يشهد عليه التاريخ، لكنَّ هذه الإحالة في العقل السياسي العربي توظَّف في تغييب المسؤولية الذاتية وعدم تشخيص الأسباب الحقيقية للعجز التي تسمح للمؤامرة بالمرور والنجاح. إذ يغيِّب هذا العقل الأسباب العربية المتصلة بالبنى الداخلية التي شكَّلت، دائماً وما تزال، الممرات اللازمة لاختراق السيطرة الإمبريالية على المنطقة والقنوات الداخلية التي مكَّنتها من بسط نفوذها.
هكذا وجد النظام العربي ضالته في نظرية المؤامرة وسيلة لتكريس سلطة القمع والاستبداد ومنع أيِّ تغيير، تحت حجة مجابهة المؤامرة الإمبريالية – الصهيونية، فباتت الدعوة إلى الحرية والديمقراطية والمساواة مطالب مشبوهة تضعف الشعور القومي، لأنّ هذه المطالب ” تحوِّل الاهتمام عن تجنيد القوى الشعبية للتصدِّي لهذه المؤامرة “. أما المظاهرات والتحركات الساعية إلى تحسين الأوضاع الاجتماعية فليست سوى مؤامرة هدفها ” تقسيم الشعب وزعزعة الوحدة الوطنية ” مما يستوجب قمعها بشدة. وينسحب منطق المؤامرة على العمل السياسي وحق الأحزاب في الممارسة، فيجري وسمها بالخطر لأنها تسمِّم أفكار الشعب بالمبادئ ” الهدَّامة ” المستوردة من الخارج.
لذلك نحن الآن عاجزون عن التأثير في مجريات ” محرقة غزة “، وسوف نستمر على حال الضعف والعجز ما دمنا نتعامل مع الواقع بعدة فكرية لا تغني معرفة وقدرة، أو بمنظومة قيم هشَّة لا وزن لها، أو بعقلية كارثية مفخَّخة تقف وراءها إرادة التجبُّر أو الاستئثار والإقصاء. والتحدِّي الكبير، فيما تتفكَّك بعض الأقطار العربية، أن نواجه أنفسنا وأن نعترف بمسؤوليتنا عما يعترينا من العجز والضعف أو عما نمارسه من الطغيان والاستبداد أو عما نحصده من الهزائم والكوارث، التي هي ثمرة سيئة وعقيمة أو مدمِّرة وقاتلة لمقولاتنا الهشَّة وشعاراتنا الخاوية أو لثقافتنا العاجزة ونخبنا النرجسية.
باختصار، نحن نطمس النزاعات الدموية والممارسات الاستبدادية البربرية التي تفتك بجسد مجتمعاتنا وتحوُّلها إلى سجون عقائدية أو إلى مصانع لإنتاج التخلُّف والرعب، ولا عجب في أن نحصد ما نشكو منه وأن نفشل في مقاومة الآخر لكي نزداد ضعفاً وتبعية، فعلاقتنا بالخارج تتوقف على وضعيتنا الوجودية في الداخل، لأنّ من يبطش في أهله وقومه في الداخل لا يقوى على مجابهة الآخر، ولأنّ من يعجز عن معالجة مشكلات مجتمعه لن يقدر على التعاطي المجدي مع التحدِّيات الآتية من خارجه، ولأنّ من لا يحسن أن يتغيَّر لن ينجح في تغيير علاقته بالآخرين على نحو يكون أكثر نفعاً أو على الأقل أخفَّ ضرراً.
وهكذا، لن نخرج من حالنا الكارثي السائد إلا بشرطين، حسب الأستاذ ميشيل كيلو: أولهما، الاعتراف بأنّ لدينا مشكلات لا نملك حلولاً لها، وأننا لن نقلع عن الاهتمام بها حتى نتوصل إلى حلول عملية تتكفل بإنهائها. وثانيهما، الاعتراف بأنّ واحدة من أعظم مشكلاتنا تكمن في نمط تفكيرنا، الذي يوهمنا بأنّ الحلول الكلامية هي حلول عملية لمشكلاتنا الواقعية.