موفق نيربية
في 31 مايو 2014، صرح بان كي مون للصحافيين «بأسف بالغ قررت أن أقبل طلب الإبراهيمي مغادرة منصبه». وأعرب الأخضر الإبراهيمي الذي كان حاضراً عن «حزنه الكبير لمغادرة منصبه، فيما تمر سوريا بوضع بالغ السوء».
في حين كرر بان كي مون يومها انتقاده، النظام والمعارضة السوريين «لإخفاقهما» في وضع حد للنزاع. وقال «ألح عليهما مجددا أن يفكرا في مستقبليهما، إنه بلدهما، مستقبلهما»، لافتا إلى أن الأمم المتحدة «موجودة لمساعدتهما». لكنه أقر أيضاً «بأننا لم نكن قادرين على إحراز تقدم نحو حل سياسي» للنزاع السوري.
استقال الإبراهيمي على الرغم من انعقاد مباحثات (جنيف 2) منذ مطلع العام بين المعارضة والنظام، التي أصرّ الائتلاف قبل دخولها على استبعاد إيران منها، وتحقّق له ذلك. لكنّ مسار الأمور تناهى إلى حائط النظام الإسمنتي في رفضه للأجندة المعروضة، وحائط المعارضة في وقوفها لا تتزحزح تحت الضغوط الإقليمية وسياسات الإسلاميين فيها، عند نقطة تشكيل جسم الحكم الانتقالي الذي ستؤول إليه كامل السلطات، قبل أي نقطة أخرى في المخطط.
ذلك اليوم نفسه الذي استقال فيه الإبراهيمي مُحبطاً بانسداد أفق القضية السورية، في 13/5/2014، زار وفد من المعارضة السورية برئاسة أحمد الجربا رئيس الائتلاف المعارض يومها، واشنطن، وقيل إنه اجتمع مع باراك أوباما في البيت الأبيض. في الحقيقة لم يجتمع أوباما مع الوفد كما كان مقرّراً، بل أطلّ قليلاً على الاجتماع، وباركه، وانسحب.. بعد أن سمع ما لا يرضيه من طلبات مبالغ فيها للحصول على أسلحة قادرة على التصدّي لطيران الأسد ودبّاباته، مع المطالبة أيضاً بمنطقة حظر طيران فوق البلاد. كان أوباما يومها قد ازدرد كلامه حول الخطوط الحمر قبل بضعة أشهر، عندما هاجم الأسد الغوطة الشرقية بغاز السارين وقتل حوالي 1200 من السكان اختناقاً، معظمهم من الأطفال. فضّل الرئيس الأمريكي اللجوء إلى تردّد الكونغرس لتبرير وتشريع امتناعه عن تنفيذ وعده أو وعيده. بعد عام من حادثة الغوطة والخطوط الحمر، تأسّس التحالف الدولي الذي تزعّمته الولايات المتّحدة لمحاربة «داعش» في سبتمبر، وتذكّرت إدارة أوباما ثاراتها مع نقّاد تردّدها السابق، لتطلب منهم المشاركة في مهمّة التحالف، مع اشتراط استبعاد محاربة النظام، بالتوازي مع محاربة «داعش»، الأمر الذي رفضه أردوغان، ومن ثمّ المعارضة السورية. والتزمت» قوات حماية الشعب» الكردية بدفتر الشروط برؤية أكثر مرونة وروحاً عملية، ودخلت في مخطط عمل التحالف/ حين أبلت في معركة عين العرب/كوباني منذ سبتمبر 2014، وتركّزت الأنظار عليها، خصوصاً بعد تطوير بنيتها حسب المشورة الأمريكية، عند تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، الأكثر مراعاة نسبية لعرب الجزيرة السورية.
إذن، في ذلك العام المشهود، توجّه مسار القضية نحو تجميدها عموماً، في اللبّ وليس في القشور وكلام المناسبات، وترافق الأمر مع تطوّر دولي آخر، على الأرض الأوكرانية، تمثّل في فرار الرئيس يانوكوفتش الموالي لموسكو، وسيطرة قوى ليبرالية على الحكم مستندة بدورها إلى ثورة الميدان البرتقالية وزخمها. سيطر بعدها جنود بلباس عسكري أخضر، روس مموّهون، على جزيرة القرم، رغم كلّ الاحتجاجات الدولية، الغربية خصوصاً. ها هي ذي أوكرانيا، بأزمتها نفسها، وحربها الطاحنة الجديدة التي شنّتها روسيا البوتينية عليها، تتدخّل مؤخّراً بالطريقة نفسها، لتحجب القضية السورية عن أنظار قوى العالم الفاعلة، وتكرّس وجودها، أو تعمّقه على الأرض ليصبح من معالمها العادية (وهذا موضوع مستقل بذاته). لا يتعارض هذا مع كون الحرب تهدف بشكل مباشر إلى منع انضمام أوكرانيا إلى الناتو، وأيضاً إلى الاتّحاد الأوروبي.
في منطقة أخرى أكثر قرباً وتأثيراً، توغّلت إسرائيل في عام 2008 داخل قطاع غزة وردّت حماس بإطلاق الصواريخ، ثم باشر الجيش الإسرائيلي في ديسمبر عمليّته» الرصاص المصبوب» في غزة، التي استمرّت حوالي الشهر ونتج عنها آلاف الضحايا بين الفلسطينيين، والعشرات بين الإسرائيليين. في الشهر التالي قام الإخوان المسلمون في سوريا بتجميد معارضتهم لنظام الأسد، وطرحوا مبادرة للصلح، لإتاحة الفرصة للتركيز على حرب غزة، كما قالوا، تلك الحرب التي كان لهيئة التنسيق الوطنية أيضاً موقف رحّب بتجميد الإخوان لمعارضتهم فيها. جعل ذلك المسار المعارضة السورية التقليدية في أضعف أوضاعها، واستقبلت الربيع العربي وهي على تلك الحال. ومن ثمّ، زاد تحالف إعلان دمشق المعارض ضعفاً على ضعفه، في حين رحّبت» هيئة التنسيق الوطنية» على لسان منسّقها حسن عبد العظيم بخطوة الإخوان تلك. لكنّ ذلك التوافق لم ينفع «الهيئة» حين تشكيل المجلس الوطني – أواخر عام 2011 الذي شهد منذ مارس انطلاق الثورة الشعبية – باتفاق بين الإخوان وتفريعاتهم وإعلان دمشق، على استثنائها وعزلها الذي لم يزعجها كثيراً. بضعف المعارضة التقليدية، الذي صنعته يداها مع النظام، تأسّس فشل الحراك العظيم في تحقيق مهمته. في العامين الأخيرين، هنالك ظرف جديد، ومعالم حالة مختلفة، على الرغم من اشتراك حرب غزة وحرب أوكرانيا من جديد في تغيير المعادلة الدولية كلّها، الأمر الذي يجعل غياب القضية السورية محسوماً وغير قابل للنقاش أيضاً. فبعد أن ابتدأ تغيير الاستراتيجية الأمريكية وطريقة تحضيرها للنظام العالمي المقبل: «النظام الدولي الليبرالي القائم على القواعد»، الذي كانت سائداً، إنه النظام العالمي الذي قام مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ويصرّ ميرشايمر- أستاذ العلوم السياسية في جامعة شيكاغو الشهير بواقعيته السياسية، على أنه النظام الذي ابتدأ يتبلور بعد انتهاء الحرب الباردة، وربّما كان هذا أقرب (وأكثر واقعية أيضاً).
في هذا النظام الجديد أصبح هنالك ثلاث قوى كبرى فاعلة: الولايات المتحدة والصين وروسيا. تبقى الأولى هي الأكثر أهمية وقدرة، تليها الصين بقدراتها الاقتصادية المندفعة إلى الأمام، مع قدرات عسكرية ممكنة، ثمّ روسيا بسلاحها التقليدي والنووي المهم والبارز. وعند النظر استراتيجياً، لا بدّ من الانطلاق من أن الصين هي خصم المستقبل الرئيس والحاسم، ولا بد من مواجهتها كهدف أوّل، لأنّ روسيا تتنازعها عوامل الأفول والفاعلية في الوقت نفسه، لذلك لا بدّ من تفعيل اتفاق لوكوس، الذي يؤلّف بين القوى المناوئة للصين في الشرق الأقصى، واعتباره مركز الثقل في الاستراتيجية الأمريكية. يعني ذلك تخفيف ذلك الثقل عن أوروبا والشرق الأوسط بكلْ تعقيداتهما التاريخية. اعترضت المسألة ومن ثمّ الحرب الأوكرانية مسار التحوّل في أوروبا، وتعترض حرب غزّة – والمسألتين الإسرائيلية والفلسطينية – الآن تغيير مسار الشرق الأوسط. ودخلت السياسة الأمريكية في حيص بيص. جمع الرئيس بايدن بين المسألتين في طلب واحد لتمويل الاستراتيجية الأمريكية فيهما من الكونغرس، يعاني من صعوبات وتعقيدات بالغة. تبلغ كلفة ذلك القانون مئة وعشرة مليارات دولار عداً ونقداً. وتبلغ «الفوضى» ذروتها حين يتبيّن أن ما عرقل ذلك القرار هو حرص الجمهوريين على مقايضتها بتمويل للجدار العازل مع المكسيك، الذي يمنع أو يحدّ من الهجرة عبر الحدود مع المكسيك. ليظهر من ثمّْ أن السياسات الانتخابية تستطيع تجاوز الاستراتيجيات وتقطع الطريق عليها، وتزيد عوامل تلك الفوضى ومفاعيلها.
في منطقتنا، عادت الولايات المتحدة بترسانة استراتيجية هائلة، واهتزّت اتفاقات أبراهام التي أسّسها ترامب بشدّة، بعد أن انبعثت روح معاداة إسرائيل من خمولها إثر اعتداءاتها على أهل غزة، المدنيين خصوصاً، ومدّ بوتين وحكومته بعض أصابعه أبعد مما أتيح له سابقاً، وتغيّرت المواقف اندفاعاً أو امتناعاً.. ولعلّ المرارة الأشدّ يمكن لحظها لدى السوريين، الذين زاد شعورهم بتخلّي العالم عنهم، وبأن الحربين الراهنتين تأكلان من نصيبهم من الاهتمام، رغم كلّ تضامنهم العميق مع الشعبين الفلسطيني والأوكراني، أمام هجمات حكومتي بوتين ونتنياهو.
كأنه ترحيل للقضية السورية إلى ما وراء الأفق.
كاتب سوري
المصدر: القدس العربي