مصطفى إبراهيم
تنكر إسرائيل الواقع المعقد وواقع الردع المتبادل، وتنكر قدرة الفلسطينيين على المواجهة وكسر الغطرسة، وتفضل أن تواصل الحرب، علماً أن الحكومة اليمينيّة تدرك (ولو لم تعلن) أن الحل سياسي وليس عسكري، وإلا كيف أفرج عن الدفعة الأولى من الرهائن؟.
قطع الاتصالات/ عودة الاتصالات، هذه إحدى الثنائيات التي يعيشها سكان قطاع غزة، كـ(وصلت المساعدات/ لم تصل المساعدات)، و(وقف إطلاق نار/ استمرار القتال.
هذه الحيرة المأساوية يختبرها الغزيون منذ أكثر من شهرين من الحرب، تلك التي لم يوفر فيها الجيش الإسرائيلي التعذيب الجسدي والنفسي الجماعي ضد الفلسطينيين، ناهيك بـ”الاغتيال الجماعي” وغيرها من تقنيات الحرب والعقاب، ما يجعل الإحباط والصدمات النفسية شأن أكثر من طبيعيّ، أما من هم خارج غزة، ففشلوا وعجزوا عن الوصول إلى هدنة ثانيّة، ويبدو أنهم ملّوا من ضعفهم وفشلهم.
أعلن الجيش الإسرائيلي بدء التوغل البري في المنطقة الوسطى من القطاع، خاصة في مخيم البريج، ما يعني استمرار الحرب الانتقاميّة وموجات النزوح من المُهجّرين تجاه دير البلح ورفح، التي لم تعد تستوعب حتى نفسها، بعد نزوح عشرات الآلاف من خان يونس نحوها.
رفح مُهيأة لاستقبال ربع مليون شخص تقريباً، لكنها الآن تحوي أكثر من 1.25 مليون شخص، ما يمثل عبئا عليها وعلى البنية التحتيّة فيها، مشاهد خيام النايلون منتشرة في كل مكان، حيث يعيش النازحون ضمن ظروف غير إنسانية أبداً.
يطالب عدد من المسؤولين الإسرائيليين بوقف الكميات المحدودة من المساعدات الإنسانية التي تدخل القطاع، على الرغم من عدم امتثال إسرائيل لقرار مجلس الأمن الدولي، الذي يفرض تدفق المساعدات بصورة أكبر، لكن عدد الشاحنات التي سمحت إسرائيل بدخولها منذ بداية الحرب هو 4700 شاحنة حتى هذا الأسبوع، باختصار، علبة فول واحدة لكل عائلة يومياً في مراكز الإيواء، ولا يمكن وصف ما يحدث إلا بـ”حرب التجويع”.
على رغم الحديث المستمر عن زيادة المساعدات الإنسانية وقرار مجلس الأمن الدولي، ما زالت أوضاع الفلسطينيين وما يعانونه من أهوال بعيدة عن الوصف لشدّتها، أما الصمت الغربي والعربي إزاء انتهاكات الجيش الإسرائيلي، فيمكن وصفه بتواطؤ يصل حد المشاركة في الحرب.
لا يوجد توصيف لما يحدث سوى إنها نكبة جديدة حلت بالفلسطينيين، في حين ما زالت المنظمات الدولية تمارس الضغط الناعم والمناشدات، وتطلق التحذيرات من كارثة إنسانية غذائية وصحية وطبية في قطاع غزة، مع أن ما يحصل أكثر من كارثة مازالت مستمرة منذ 84 يوماً.
واقع الردع “المتبادل”
إثر عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر شنت إسرائيل “حرب إبادة” (الكلمة التي يستخدمها الجنود الإسرائيليون) على غزة تحت مبررات كـ”لا يوجد خيار” و “حق الدفاع عن النفس” و”حماية أمن إسرائيل”، وتنشر كل يوم معلومات متناقضة ومضللة عن القضاء على قدرات حماس العسكرية والسلطوية ومحاولات تحرير الأسرى الإسرائيليين.
خلال ما يقارب 3 أشهر على الحرب انتقلت الحكومة الإسرائيليّة من سياسة المحو والتهجير القسري التي نفذتها عام 1948، إلى “حرب الإبادة الجماعية”، يرافقها فتح المجال أمام عنف المستوطنين، وتوسّع المستوطنات، فيما يرتقي إلى “التطهير العرقي” للـ”سكان الأصليين”، الذي تجلى في سياسة “القتل الجماعي” التي كشف عنها تحقيق باسم “مصنع اغتيال جماعي”.
يُردد في الإعلام الإسرائيليّ أن لا خيار إلا “الاستمرار في الإبادة”، وهذا تبرير كاذب، ويمتد أبعد من غزة، فالهدف تصفية الوجود الإنساني الفلسطيني، والقضية الفلسطينية.
يخوض الفلسطينيون الحرب وحدهم، حرب قاسية ومعقدة للغاية، وسوف تستغرق سنوات طويلة حسب التصريحات الإسرائيلية. تدعي إسرائيل أنها ستنتصر، بالوحدة وجنود الاحتياط الذين يشكلون أساس قوة الجيش الإسرائيلي، وصمود سكان الجنوب في الجبهة الداخلية، من أجل تحقيق “واقع أفضل”.
من وجهة نظر إسرائيل، حقق الجيش إنجازات كبيرة بتدمير مقرات حماس وقتل واعتقال الآلاف من المشتبه بهم، لكن من وجهة نظر الفلسطينيين، إسرائيل لن تنتصر، ولن تنجح (ولم تنجح) في محو الفلسطينيين على مدار 75 عاماً.
تتذرع إسرائيل بالقول إن حماس تريد تدميرها، وأن وجودها في غزة فقط لقتل “وذبح الإسرائيليين”، وأن المعركة الآن تدور حول “وجود ومستقبل إسرائيل”، ويجب ضمان عدم تكرار ما حدث في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
“الواقع” من وجهة نظر إسرائيل هو أن الفلسطينيين “سيئون ومعتدون ” والإسرائيليون هم “الضحايا الطيبون”، لكن كل فعل يقوم به الجيش الإسرائيلي يهدف إلى التدمير، فكيف يمكن الحديث عن واقع مختلف أو آمن أو مستدام؟ وإنكار حقوق الفلسطينيين، بل وعدم الاعتراف بوجودهم.
يكفي القول إن هذا استعرض لضعف إسرائيل، وليس خطاب قوة وغطرسة المفترض أن يدعمه ما تمتلكه من قدرات عسكرية وتكنولوجيّة فائقة.
تنكر إسرائيل الواقع المعقد وواقع الردع المتبادل، وتنكر قدرة الفلسطينيين على المواجهة وكسر الغطرسة، وتفضل أن تستمر في “حرب إبادة” وخوف هستيري، خصوصاً أن الحكومة اليمنيّة تدرك (ولو لم تعلن) أن الحل سياسي وليس أمنياً، وإلا كيف أفرج عن الدفعة الأولى من الرهائن؟.
دبلوماسيّة الدمار
تختلف هذه الحرب عن الحروب السابقة التي شنتها إسرائيل على غزة، على سبيل المثال عام 2008، فيما أطلق عليه اسم (عملية الرصاص المصبوب) شنت إسرائيل عشرات الغارات، ودمرت عشرات المقرات المدنية والشرطية والأمنية، واستهدفت قيادات سياسية وعسكرية لحماس، وقتلت مئات الفلسطينيين.
وبعد ثلاثة أسابيع من العدوان والتوغل البري في عدد من مناطق قطاع غزة، وافقت الحكومة الإسرائيلية على وقف إطلاق النار من جانب واحد. حينها قال رئيس الوزراء إيهود أولمرت: “حماس تعرضت لضربة مميتة”، و”تم تحقيق أهدافنا كما أعلنا في بداية العملية بشكل كامل بل وأكثر من ذلك”.
قال أولمرت حينها رداً على المتظاهرين المطالبين بتحرير الجندي الأسير جلعاد شاليط “اقتربنا من هدف تحرير شاليط”، كما قيل للمستوطنين في غلاف غزة “صرخاتكم تمس قلوبنا جميعاً”، لكن فشلت إسرائيل في شاليط بالعمليات العسكرية، وأُفْرِج عنه في عملية تفاوض عام 2011.
قال أولمرت أيضاً إن إطلاق سراح شاليط لم يتم “إلا بعد محاولات وقف إطلاق النار وغيره من الأعمال من قبل إسرائيل”، وأضاف أن “حماس ليست جزءا من التسوية التي توصلنا إليها. والمنظمات الإرهابية ليس لها، ولن يكون لها أي دور في الاتفاقيات”.
تلقت حينها إسرائيل دعماً من الولايات المتحدة وزعماء دول أوروبية الذين طلبوا المساعدة على منع تهريب الأسلحة، وادّعى أولمرت “أنه بدون العمل العسكري الحازم والناجح لم يكن بإمكاننا الوصول إلى هذه النتائج”.
ما ذكره أولمرت حينئذ يكرره جميع المسؤولين الإسرائيليين من الحكومة والمعارضة، يقولون إن الجيش الإسرائيلي والشاباك ينفذون عمليات دقيقة باستخدام كل عناصر القوة الإسرائيلية، وتم تحقيق العديد من الإنجازات المهمة، لكن هل أفرج عن الرهائن المختطفين؟، لا، وكما حدث في قضية شاليط، تناور الحكومة الإسرائيلية للإفراج عن المعتقلين عبر الضغط العسكري، ولم تستمع لاحتجاجات ذوي الرهائن، بل تردد أنها تبذل الجهود المكثفة لإطلاق سراحهم.
إسرائيل تعيش حالة وهم وإنكار، إذ اقترح عدد من القادة العسكريين السابقين على أهل غزة أن ينتفضوا على حكم حماس كي تزداد المساعدات التي تدخل القطاع. صباح الجمعة وعلى غرار ما جرى في العراق، ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت، أن نتنياهو طلب من المؤسسة الأمنية فحص إمكانية استخدام العشائر أو قوات محلية مسلحة يمكن استخدامها لضبط الأمن في غزة بعد الانسحاب.
الواضح أن السياسية الإسرائيليّة في التعامل مع الحرب تتكرر، قصف وتدمير بهدف “نفي الحياة” عن قطاع غزة، ثم الانصياع إلى المفاوضات لإطلاق سراح الرهائن، لكن الاختلاف أن هناك غضب إسرائيلي داخلي ضد نتنياهو سابق على 7 أكتوبر، وتضاعف الآن بعد إهمال حياة الرهائن على حساب “الأمن” وتهديد الديمقراطيّة، التي قالت عايدة توما سليمان، عضوة الكنيست التي علقت عضويتها، بأن الحديث عنها في السياق الإسرائيلي الحالي شأن “سخيف”.
المصدر: ملتقى فلسطين