غسان المفلح
في كل حرب تقوم بها إسرائيل على جزء فلسطيني، تهتم البشر بتفاصيل هذه الحرب.
أعداد القتلى والجرحى، حجم التدمير في البنى التحتية الذي طال هذا الجزء من فلسطين.
تهتم بالتفاصيل السياسية المرافقة لهذا الحدث، مفاوضات، مسؤولون من دول عدة يتنقلون بين العواصم الدولية والإقليمية من أجل وقف القتل الإسرائيلي في هذا الجزء أو ذاك من فلسطين. يتركز التداول في هذا الحقل على هدنة أو على إيقاف هذه الحرب التي تشنها إسرائيل.
هذا ما يغطيه الإعلام عموما في هذا الوقت من العدوان على غزة. إنها رواية المذبحة الأساس. إنها راوية استطاعت القوى الداعمة لإسرائيل والمساهمة الأساسية في نشوء الدولة- المذبحة.
تركت مسافة مليئة بالأحداث والتفاصيل والقتل والاقتلاع وتشريد الفلسطينيين في أصقاع الأرض، بين أي حدث طارئ في هذه السيرة الإسرائيلية، وبين التأسيس المذبحة.
لحظة التأسيس
لم هذا التأسيس مطروحا على الطاولة منذ عدة عقود. نحن الآن نتحدث عن طرف فلسطيني فيه من الصفات والعيوب الكثير، بوصفه السبب في قيام مذابح قطاعية في هذا الجزء أو ذاك من فلسطين.
الآن حماس والجهاد الإسلامي، قبلها فتح والفصائل الأخرى الفلسطينية، وقبلها أيضا خطف الطائرات من قبل منظمات محسوبة على المقاومة الفلسطينية. في العدوان الجاري الآن على غزة يحدث أيضا إبعاد المسافة عن لحظة التأسيس ومتطلباتها وتفاصيلها، هذه اللحظة هي سبب القتل الحاصل على الفلسطينيين. هي سبب الإبادة المستمرة تحت يافطات شتى. ليبرز دوما عدو فلسطيني مجسد، له اسم. تبرزه وسائل الإعلام الدولية والغربية خاصة والأمريكية بشكل أخص. الآن وفي هذه اللحظة بالذات هنالك عدو إرهابي نحن كغربيين صنفناه بذلك. هنا مربض الفرس عدو أيضا قطاعي أو جزئي راهن في هذه الحرب أو هذا العدوان. ليبرز عنوان عريض “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
المسافة الزمنية والحدثية وأعداد القتلى والمشردين المقتلعين من أرضهم بفعل الكثافة النارية الإسرائيلية والكثافة التسويقية الغربية للرواية الإسرائيلية العارضة دوما. إنها الآن كما أسلفت “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
هي المسافة بين كل عدوان وبين الحدث الأصلي، هو قيام إسرائيل المذبحة. بفعل ميزان القوى الكاسح منذ أربعينيات القرن العشرين أو العقد الزمني للحظة التأسيسية هذه، وبين العدوان الحالي على غزة نتحدث عن ثمانية عقود من السنين.
إعادة السيناريو
في كل عدوان يعاد السيناريو نفسه، بغض النظر عن التفاصيل التي تختلف من عدوان إسرائيلي إلى آخر. لم تعد اللحظة التأسيسية مطروحة على الطاولة. البشرية كلها نسيت هذه اللحظة بما فيها المستوى السياسي الفلسطيني، بكل فصائله وتعقيدات هذا المستوى.
لا يمكننا فهم هذا التوحش الإسرائيلي في غزة، هذا الحجم من التدمير، هذه الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى. هذه الشراسة الإعلامية المرافقة أيضا لهذا العدوان، إلا إذا عدنا إلى الحدث الأصلي.
إنه تأسيس إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني. لحظة التأسيس هذه بنيت وتمت رعايتها من قبل ميزان قوى دولي كاسح آنذاك، بنيت على أساس واحد هو إنهاء الوجود الفلسطيني. إنهاء أي تعبيرات سياسية فلسطينية من أي نوع كان.
لا يحق للفلسطيني المقتلع أن يكون له تمثيل سياسي لأنه أساسا بلا قضية. لا يحق للاجئ الفلسطيني أن يعود إلى دياره، حيث لا ديار له، إنها الأرض التي تمتلكها عصابات أرض الميعاد.
هذه الأسطورة، عصابات أرض الميعاد تمتلك هذه الأرض الفلسطينية حتى قبل أن تأتي إليها في زمن التأسيس ذاك. لا يمكننا فهم أي عدوان قطاعي إسرائيلي على الفلسطينيين دون العودة للحظة التأسيس هذه.
للسيرة الإسرائيلية التأسيسية هذه وجه آخر لابد لنا من التعرض له ولو بعجالة. حسنا نحن كغرب ساهمنا بتأسيس إسرائيل، بقي أن نملأ البناء المؤسس بنظام ديمقراطي!! كي يتفوق عنصريا على جيرانه من العرب بوصفهم العدو المحتمل الدائم لقيام إسرائيل أو لدولة إسرائيل. لكن العرب غيبوا تقريبا عن لحظة الفعل لأسباب كثيرة لسنا بوارد التطرق لها هنا.
النظام الديمقراطي هذا بني على لحظة تجييشية واحدة بين قواه السياسية، وهي كيف اقتلع أو اقتل مزيدا من الفلسطينيين؟ هذا بداية هذا النظام الديمقراطي.
كيف أبعثر القضية الفلسطينية من خلال بعثرة مستوى سياسي يليق بها ليمثلها. ممنوع قيام تمثيل فلسطيني له شرعية دولية يضع لحظة التأسيس على الطاولة. مع تراكم القوة الإسرائيلية وتراكم النفوذ الأمريكي والغربي بتنا نتحدث الآن عن أحقية قيام دولة فلسطينية على جزء صغير من فلسطين.
هذا الحديث لا يمنع من العمل الدؤوب على الزمن الفلسطيني الضعيف، والمجدول بالنسبة لهم العمل على مزيد من الضعف أيضا. بماذا تتنافس الأحزاب الإسرائيلية؟ ماهي المادة الأساس البرنامجية في هذا التنافس؟
إنها المزيد من الحفر لفن القضية الفلسطينية نهائيا إلى غير رجعة. هذه اليافطة البرنامجية هي العمود الفقري للنظام الديمقراطي الإسرائيلي.
لو استعرضنا تاريخ الانتخابات الإسرائيلية لوجدنا خنق الفلسطيني، هو أهم يافطة رفعت لهذا التنافس الانتخابي. إضافة بالطبع إلى سوق المزايدة بين قوى التجمع الإسرائيلي، التي تفتتح عند كل عدوان على الفلسطينيين.
وصلت في العدوان الأخير إلى عناوين تتكرر إسرائيليا، بكلمات مختلفة لكنها تحمل جوهرا واحدا الإبادة للقضية الفلسطينية، وابادة عدد أكبر من الفلسطينيين واقتلاعهم.
لهذا شاهدنا عناوين لتصريحات بعض فعاليات المستوى السياسي الإسرائيلي تتحدث عن إلقاء قنبلة نووية على غزة، عن قتل مئة ألف من سكان غزة فورا، عن تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر. حقل المزايدة هذهس لو دققنا فيه لوجدنا الحضور القوي للحظة التأسيسية لقيام دولة إسرائيل- المذبحة.
لن نتحدث هنا عن عماد الدستور الإسرائيلي الذي يقوم على مقولة “إسرائيل دولة يهودية”. فيكتمل المشهد العنصري لهذه اللحظة التأسيسية هي. لهذا أزعم أنه من المناسب في كل عدوان أو دون عدوان مباشر، كالذي يحدث في غزة الآن، يجب ألا تغيب عن الطاولة، تلك اللحظة التأسيسية لإسرائيل والقوى الدولية الفاعلة فيها وحركة هذه الدول عند كل عدوان على الفلسطينيين.
المصدر: القدس العربي