بعد أن استحال مخيم اليرموك، على يد نظام التدمير والتعفيش، أكبر مجمع للركام والأنقاض على مد البصر، ثمة حقائق ينبغي إدراكها بكل وضوح، كي لا تضيع حكاية المخيم ونهايته المأساوية، في سرديات منفصلة عن مسار تاريخي، لابد من استعادة محطاته اليوم، كي يكون لأجيالنا الفلسطينية والسورية، التي شهدت تراجيديا تصفية المخيم بكل وسائل الإمحاء المادي والمعنوي، إجابات معرفية دقيقة، تكشف عن أهداف ومرامي تجريف أكبر المخيمات الفلسطينية من سكانه، والإصرار على محوه من الخريطة السورية. ما يزيد من ضرورة تلك الإجابات، توعية الأجيال القادمة بالدور الوظيفي للنظام الأسدي على الصعيد الفلسطيني، يُضاف إلى أدواره الكارثية على الصعيد السوري، وهي مسألة تتجاوز اختزال مصير مخيم اليرموك، على أنه مجرد فصل آخر من فصول الحرب السورية. لا شيء أكثر شرحاً وتفسيراً للشق المتعلق باستهداف الوجود الفلسطيني بعينه، من استعادة جذور الترابط العميق بين فلسطين كجغرافية وقضية، والوطن السوري الذي يعتبرها جزءاً أساسياً منه. لنعد أبعد إلى الوراء ونسترجع قرارات المؤتمر العربي الفلسطيني الذي عقد في القدس عام 1919، ومن أشهرها ” إعلان عروبة فلسطين واعتبارها جزءاً لا يتجزأ من بلاد الشام”، ثم تكرار مضمون ذاك الإعلان في المؤتمر السوري العام المنعقد في دمشق في 7 آذار عام 1920، والذي أكد بدوره على “استقلال سورية بحدودها الطبيعية ومنها فلسطين الجزء الجنوبي من سورية، استقلالاً تاماً ورفض جعل فلسطين وطناً لليهود”. كي ندرك أكثر دور المؤتمرَين المنعقدين قبل قرابة المائة عام، في تظهير الإرادة الشعبية الرافضة – وقتذاك- أية فكرة أو مشروع، يؤديان إلى تقطيع الأواصر التاريخية، التي تربط بين سوريا وخاصرتها الجنوبية. لا بد أن نشير أيضاً إلى معنى تكليف المؤرخ الفلسطيني محمد عزة دروزة، في إلقاء بيان الاستقلال السوري على شرفة المؤتمر في دمشق، كإشارة رمزية لمعنى فلسطين في الوعي السوري التاريخي. جاءت نتائج مؤتمر “سان ريمو” بعد هذا الإعلان بأقل من شهرين، لفرض أزمنة الوصاية والانتداب على الشعوب العربية، مع ذلك لم يلغِ وضع سورية تحت الانتداب الفرنسي، وفلسطين وإمارة شرق الأردن تحت الانتداب الإنكليزي، من تمسّك سورية المركز الحضاري لبلاد الشام بامتدادها الفلسطيني. لم يكن ذلك حنيناً إلى ماضٍ أخذت وقائعه بالتغير على خرائط التقسيم، فقد شهدت العقود التي سبقت إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، تفاعلات وطنية وسياسية في مختلف الأحداث التي عمّت فلسطين وسوريا آنذاك، وليس مجرد دلالة عابرة، أن يكون الشيخ عز الدين القسام ابن مدينة جبلة السورية، هو القائد الأبرز للثورة الفلسطينية الكبرى عام 1935، وأن يقول في أحد خُطب الجمعة قبل استشهاده : ” إن كل شبر من فلسطين هو أرضنا التي تستحق أن نجاهد دفاعاً عنها “. كما أن الحدود التي رسمتها اتفاقية “سايكس بيكو”، لم تمنع أشكال التواصل الحيّة بين سكان المدن الفلسطينية والسورية، وبقيت حركة الناس والتجارة وتبادل البضائع بين دمشق وحوران وشمال فلسطين والقدس، متبادلة ونشطة حتى إغلاق الحدود من الطرف الإسرائيلي عام 1948. حتى الأحزاب السورية التي تأسست قبل النكبة، حملت في أدبياتها وبياناتها هموم وتطلعات شعب فلسطين في تلك الحقبة، ليس بأقل من كفاحها ومطالباتها باستقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي. كانت صحف الأحزاب الصادرة من دمشق في حقبة الثلاثينات والأربعينات من القرن المنصرم، تبث الوعي بخطورة الصهيونية والاستيطان اليهودي في فلسطين، وقد كان الصحفي الفلسطيني المعروف نجيب نصار مؤسس جريدة الكرمل في حيفا، ينشر على صفحات الكرمل بيانات تلك الأحزاب حول تطورات الأوضاع في فلسطين، ومنها حزب الاستقلال، والاتحاد السوري، واللجنة التنفيذية الفلسطينية السورية، والحزب السوري القومي الاجتماعي، وعصبة العمل القومي.
التذكير بتلك الوقائع والأحداث، التي سبقت النكبة الفلسطينية الأولى بعقود قليلة، تكشف عن تفاعلات متحركة ومتشابكة، هي استمرار لتاريخ أرض الشام في حقبها الزمنية السحيقة، وتواريخ عناصر الانصهار والتمازج بين حواضرها وسائر أنحائها. إنها الحقائق التي تفصح بمدلولاتها السسيولوجية والثقافية والنفسية، عن تمثّلات علاقة السوريين بفلسطين كجزء عضوي من النسيج السوري التاريخي والهويّاتي، بدأت عملية فصلها القسري عن ذاك النسيج، منذ تبلور الرؤية الكولونيالية لتهويد أرض فلسطين، وإقامة الكيان الصهيوني بعد اقتلاع الفلسطينيين من وطنهم عام 1948. ثمة عاملين جوهريين يوضحان بصورة قاطعة، طبيعة رؤية وتفاعل السوريين مع القضية الفلسطينية، وعلاقتهم الفكرية والوجدانية بحدث النكبة وتداعياته الكبرى:
(الأول) الربط المُحكم الذي عبّر عنه الوعي السوري مبكراً، بين خطورة المشروع الصهيوني على فلسطين، وخطورته الأشمل على سوريا والعرب عموماً، وما مشاركة السوريين نخباً وشرائح مختلفة من الشعب، في ثورات وانتفاضات الفلسطينيين قبل النكبة، إلا تعبيراً عن وحدة هواجس وتطلعات الشعبين، وهو مالم تُضعفه نوازع الاستقلال الوطني السوري عن فرنسا، بقدر ما عززت مرحلة ما بعد الاستقلال، حقيقة الخطر الصهيوني على سوريا، بعد أن تجسّد في فلسطين واقعاً بكامل صورته وأبعاده. حين حدثت النكبة الأولى ألقى السوريون على القيادات العربية، وقياداتهم من بينها المسؤولية عن حدوثها، ولعل الانقلابات التي شهدتها سوريا منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949، كانت تعكس تأثير الفشل في منع وقوع النكبة، على السياسات الداخلية السورية، وذلك قبل أن يصبح استغلال القضية الفلسطينية، من قبل الطغمة الأسدية التي حكمت سوريا لاحقاً، هو المنظور السلطوي السائد في التعامل مع القضية وشعبها.
(الثاني) عندما لجأ الفلسطينيون إلى سوريا إثر النكبة، لم ينظر السوريون إليهم بوصفهم غرباء مستضعفين يستحقون التعاطف الإنساني من بوابة الواجب الأخلاقي ، بل إن عقول ومشاعر السوريين، تناولت المحنة الفلسطينية، باعتبارها هماً وطنياً وإنسانياً، لا يتعلق بغرباء طارئين، وإنما بحالة تتشابك وتتداخل في النسيج المجتمعي السوري، ومصدر استثناء وضعيتها بسبب اقتلاعها من أرضها، لا يقلل بل يزيد من رغبة السوريين، ببقاء فلسطين السورية عصية على التهويد والذوبان تحت الراية الصهيونية. ما عكس بعمق مستويات احتضان السوريين للاجئين الفلسطينيين، ودرجات التفاعل بينهما في مختلف المجالات، وهو ما تقوّى فعلياً بحكم التشابه الكبير بينهما في العادات والتقاليد وأنماط العيش والمعيشة، وغياب الجدران النفسية، التي تمنع أو تحد من الزواج، والمصاهرات، وتنامي القرابات، والصداقات بين اللاجئين وأقرانهم السوريين. في حين أن سياسات التمييز والتقييد التي انتهجتها الدول العربية التي استضافت لاجئين فلسطينيين، كانت على الدوام مبعث مقارنات مؤلمة قياساً بالحالة السورية الأفضل.
تأسس على حقائق ذينك العاملين، تطوير بناء حقوقي واقتصادي واجتماعي، أسهم تدريجياً خلال العقود السبعة، التي عايشتها أربعة أجيال فلسطينية في سوريا، إلى تموضع وجودهم الوطني والإنساني في تلافيف العمق السوري، وكان مؤدى ذلك انخراطهم الحيوي في مختلف شؤون الحياة السورية، وبالمقابل أصبح السوريون أكثر تفاعلاً والتصاقاً بالواقع الفلسطيني في سياقاته السورية. إذا كان القانون (260 لعام 1956) والذي صدر قبل حكم الأسد الأب بعقد ونصف، هو الإطار الحقوقي الناظم لوضعية اللاجئين، فإن المناخ الوطني والعروبي في سوريا، المُرحب والمُحتفي بالوجود الفلسطيني، أسهم بدوره في ترسيخ وتعزيز حقوق اللاجئين التي نص عليها ذاك القانون. ما أتاح مساهمة الفلسطينيين الفاعلة، في تطوير أشكال النشاط العام والمؤسساتي في الوطن السوري، من خلال رفدها بما يملكونه من طاقات وكفاءات متميزة. فيما كانت بصمتهم كبيرة في الحياة السياسية السورية، قبل تجفيفها والاستحواذ عليها في حقبة الاستبداد الأسدي. بوسعنا هنا استحضار كثافة حضور الفلسطينيين في مختلف الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية في التجربة السورية، وبالمقابل استحضار الوجود السوري الكثيف في تنظيمات وفصائل الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقتها في منتصف ستينات القرن الماضي، مع التنويه اللازم أن أغلب تلك الفصائل والتنظيمات انطلق نشاطها وعملها من المخيمات والتجمعات الفلسطينية في سوريا.
الوعاء الأكبر الذي انصهرت فيه البوتقة الفلسطينية والسورية في مرجل الحياة المشتركة، كان مخيم اليرموك منذ نشوئه في عام 1957، إذ أظهرت التغيّرات الديمغرافية والتحولات السسيولوجية، التي اختبرها في مختلف محطاته وعوالمه، أنه الفضاء المفتوح والغني والمتنوع، الذي تبرعمت وأينعت في حيواته وتجاربه، حقائق وتجليّات فلسطين السورية. فقد صاغ اليرموك المعنى البليغ لهوية خاصة بسكانه الفلسطينيين والسوريين، بحيث تلاشت كل التمايزات والفوارق بين الضيف والمُضيف، وأصبح المخيم بوابة دمشق الكبرى، لاكتشاف وامتحان فلسطنة سوريا، وسورنة فلسطين، وكيف تبني المكنونات الدفينة لكليهما، عالماً يضج بالحياة والأحلام والذاكرة الملتحمة. بهذه الفلسفة الخاصة لوجوده الأوسع والأعمق، من التعريفات المبتورة في تناول المخيم الفلسطيني. اجترح اليرموك مكانته وقيمته ورمزيته الخاصة، واُطلق عليه تسمية عاصمة الشتات، لأنه استحق بجدارة أن يكون العروة الوثقى، التي تربط بين كافة المخيمات الفلسطينية في سوريا، والمثال النابض بالتلاقي والمحاكاة والتشابك بين خصوصية المخيم الفلسطيني، والزمن السوري المفتوح على فلسطين الرابضة في وجدانها السوري.
هذا الحضور الطاغي والمكثف لمخيم اليرموك، وقدرته الفائقة والمتجددة على إشعال مواقد الرواية الفلسطينية، ودوره في بقاء قضية اللاجئين والعودة حيّة وعصيّة على التبدد، وإصرار ذاكرته الجمعيّة على الوفاء لتضحيات الشهداء، وعنفوان أهله الملتهب للتفاعل المشهود، مع كل مجزرة وانتفاضة وصرخة في الداخل الفلسطيني وكل مكان. تلك جميعها وغيرها مما طبع أحداث وتواريخ اليرموك، كانت تعكس أيضاً حال بقية المخيمات الفلسطينية المنتشرة في سوريا، والتي كانت النسخة المصغرة عما يعتمل اليرموك من حراك وحيوية لا ينضبان.
حين اندلعت الثورة السورية، ومنذ أن هرع النظام لقمعها وإسكاتها في بداياتها، كان ملحوظاً بشدة، محاولاته الحثيثة لما اعتاد عليه قبل الثورة، من استثمار العنوان الفلسطيني، للتغطية على جرائمه وانتهاكاته بحق الشعب السوري، مكرراً أسلوبه في التغطية على مجازره بحق الشعب الفلسطيني، ومخيم تل الزعتر شاهدها الصارخ. لذلك لم يتأخر في استخدام أدواته الفلسطينية، التي كان يرعاها ويوظفها في سياق طويل من المتاجرة بالورقة الفلسطينية، كما سبق وفعل عبر تلك الأدوات في شق صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية في لبنان خلال عقدي السبعينات والثمانينات الفائتين. فكيف وقد أدرك مبكراً الحقيقة التي كانت تخيّم دوماً على هواجسه الأمنية، وتكمن لديه في خطورة انحياز سكان المخيمات الفلسطينية، واليرموك في صدارتها، إلى حراك الثورة السورية، وما سيشكله ذلك من انكشاف وسقوط لروايته الزائفة، التي يقدّم نفسه من خلالها ” كنظام ممانع وداعم للمقاومة، وكمدافع عن حقوق الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية “. ما إن حصل ما يخشاه ويتحسب له النظام، حينما انضمت العديد من المخيمات الفلسطينية إلى الحراك الثوري في طوره السلمي، حتى سارعت الأجهزة الأمنية، إلى تأطير وتحشيد الفصائل والميليشيات الفلسطينية الموالية للنظام، تحت مسمّى اللجان الشعبية. لم يكن الهدف فقط من وراء تلك اللجان، ملاحقة وقمع النشطاء الفلسطينيين والسوريين في المخيمات والأحياء المجاورة لها، فقد أكدت تجربة اليرموك بحكم خطورته الأشد على النظام، أن الهدف الآخر يتمثل في تضليل الرأي العام، من خلال الادعاء والترويج: أن ما يحدث في اليرموك وغيره، كما في مخيمات درعا واللاذقية والسبينة والحسينية والسيدة زينب وخان الشيح وحمص وحندرات، هي مواجهات بين طرف فلسطيني مقاوم ووطني وشريف، وطرف فلسطيني آخر يريد لفصائل الجيش الحر استباحة المخيمات الفلسطينية، لأنه خائن وعميل ومرتبط بالأجندة الأمريكية الصهيونية حسب مزاعم النظام. رغم أن كوادر وعناصر تلك الفصائل واللجان التي أسبغ عليها النظام صفات الشرف والوطنية، هي في حقيقتها مزيج من المخبرين التقليديين والجدد، والفاسدين أخلاقياً واجتماعيًا ومن ذوي السوابق الجنائية، والعاطلين عن العمل. سرعان ما تبين صعوبة تمرير مثل تلك الادعاءات المكشوفة، لاسيما بعد انهيار هذه اللجان المأجورة أمام فصائل الجيش الحر أثناء المواجهات بينهما. نستذكر هنا هروب تلك اللجان من مخيم اليرموك بصورة متسارعة في نهاية عام 2012، وكذلك انسحابها من تجمع الحسينية ومخيم حندرات، في عام 2013، مما يشير أنها لا تحمل قضية مبدئية تدافع عنها أو تضحي من أجلها.
لجأ النظام بعد خروج مخيم اليرموك من قبضته، إلى استخدام تلك اللجان المتواجدة خارج المخيم، لمحاصرة وتجويع من بقوا داخله بعد تهجير القسم الأكبر من سكانه، بعد ضربة الميغ الصادمة نهاية العام 2012، مستفيداً من التحولات التي طرأت على الصراع بعد أسلمة الثورة، ودوره في نشر القوى المتطرفة، وفي مقدمتها ” داعش ” التي دخلت اليرموك في العام 2015، تحت أعين أجهزته الأمنية، واختراق تلك الأجهزة صفوف داعش كما ظهر لاحقاً. نورد تلك الوقائع وثيقة الصلة بما شهدته المخيمات الفلسطينية، كي نقتفي أثر التحول في سياسات النظام، من استثمار الأدوات الفلسطينية، لمواجهة الحالة الشعبية الفلسطينية المنحازة للحراك السوري، وعزل المخيمات الفلسطينية عن جوارها السوري المشتعل. إلى مرحلة كارثية أخرى، انتقل فيها النظام من استثمار تلك الأدوات الفلسطينية، إلى استكمال تنفيذ مخططه الهادف إلى تصفية مخيم اليرموك. تحت غطاء محاربة “داعش “، التي تركها النظام تسيطر على المخيم طيلة السنوات الثلاث الماضية، ثم بدأ حملته التدميرية الشاملة كافة أحياء وحارات وشوارع المخيم، منذ شهر أيار الماضي، وقام بتأجيل صفقة خروج داعش من المخيم ومحيطه، حتى أنجز مهمته في محو تضاريس المخيم على أكمل وجه. لم يتوقف عند هذا الحد طالما أن مهمته تتطلب أيضاً محو تفاصيل ذاكرة المخيم، وطمسها خلف غبار الأنقاض ودخان الحرائق، وما إطلاق قواته وشبيحته لتعفيش المخيم ونهب كل محتوياته، وعرضها للبيع في سوق فتحه خصيصاً في منطقة السومرية، وأطلق عليه “سوق الفلسطينية “، سوى شواهد وأدلة موّثقة بالصوت والصورة، تم تسريبها من قبل النظام نفسه، كي يطمئن أسياده الصهاينة، أنه أنجز وظيفته التاريخية في استئصال فلسطين السورية من الوجود، ونفذ الدور الموكل له بكل وحشية وحقد، وبأكثر من مخيلة المقبور شارون الذي توعد المخيم بمصير أسود في عام 1982. مضافاً عليه تدمير وتهجير مخيمات درعا وخان الشيح وحندرات والسبينة والحسينية، ولم يدّخر النظام الأسدي خلال محطات الثورة، أسلوباً إجراميا ومروّعاً إلا وارتكبه لقتل واعتقال آلاف الفلسطينيين، وتهجير ما يقارب النصف من تعدادهم البالغ (600 ألف لاجئ) إلى أربع رياح الأرض.
هذه المرة ارتكب النظام جريمته في إبادة مخيم اليرموك بدعم حلفائه الروس والإيرانيين، جهاراً نهاراً وعلى رؤوس الأشهاد، وفي ظل صمت وتواطئ القيادة الفلسطينية مجتمعةً، التي اشترت روايته المفضوحة، وباعت قضية اللاجئين وتطلعاتهم بالحرية والعودة، على حساب تاريخ ودماء ومصير المخيم. لم يخجل النظام حتى من فضح أدواته الفلسطينية نفسها وإذلالها، حين جعلها في وضعية النذل الذي يراقب اغتصاب أمه من وراء الباب، وكأنه يقول بلا استحياء وبكل وضاعة: لابد لاستكمال تدمير سوريا وتسليم كل مفاتيحها إلى الغزاة، من استئصال فلسطينيتها السورية، ونزع محتواها العروبي التحرري، فسوريا الجديدة بلا مخيم اليرموك، هي دمشق المستباحة والمحتلة حتى النخاع..
يغيبُ عن حسابات الوظيفة الأسدية، حكمة التاريخ التي تصفع منطق الطغاة، وتكتبها الشعوب من لحمها ودمها وإرهاصات خلاصها، فلا تقبل العودة إلى حظيرة العبودية، بعد أن هدمت جدران الخوف وتنّسمت الحرية، ومن امتزجت صرخاتهم ودمائهم من أجل حرية سوريا وفلسطين، سيبقون شعلة الحق التي لا تنطفئ، وسيبقى عار من أجرموا بحقهم لا يُمحى إلى الأبد .