مجاهد مأمون ديرانية
كثيرون لم يُرضِهم ولم يَشْفِ صدورَهم القرارُ الذي صدر قبل أيام عن محكمة العدل الدولية، ولكن أرجو أنهم سيجدون الرضا والمواساة عندما يتصورون ما لهذا القرار من أثر سلبي آجل على دولة الاحتلال على المستوى الشعبي الدولي، وهو أثر تراكمي لا بد أن ينشأ عنه واقع جديد مفيد على المدى البعيد بأمر الله واتفاقاً مع سننه التي سَنّها في الوجود.
ولعلنا لا ننسى في هذا المقام أن أول انتصار حققه المسلمون في تاريخهم لم يكن نصراً عسكرياً صنعته السيوف، بل كان انتصاراً سلمياً صنعه ضغطُ “الرأي العام” الذي أوقف أسوأ وأقسى حصار عانى منه أهل الدعوة في مكة. فقد حُصر المسلمون ومَن معهم في شِعْب أبي طالب نحواً من ألف يوم حتى أكلوا العشب وورق الشجر، إلى أن فَكَّ الحصارَ عنهم نفرٌ من قريش أخذتهم الحميّة وغلبتهم الفطرة الإنسانية السويّة، فرَجَوا أن يتوقف الظلم وأبَوا أن يستمر الحصار وسَعَوا إلى إنهائه، على ما جاء تفصيله في كتب التاريخ.
بل إن مما يلفت النظر أن الحصار لم يقع على مسلمي مكة وحدهم، فقد انتصر لهم وانضم إليهم بنو هاشم وبنو المطلب بمؤمنهم وكافرهم بعدما أبَتْ عليهم إنسانيتُهم أن يُسْلموا المسلمين المستضعفين إلى الحصار الظالم، ودفعتهم المروءة والحميّة إلى المشاركة فيه واحتمال أعبائه ودفع ثمنه.
قال ابن القيم في “زاد المعاد “: “حُبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومَن معه في شِعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، فانحازت إليهم بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم، وبقوا محصورين مضيَّقاً عليهم مقطوعاً عنهم الميرةُ والمادة نحو ثلاث سنين حتى بلغ بهم الجَهْد (بفتح الجيم، أي المشقّة) مبلغه وسُمِعَ أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشِّعب”. وفي الصحيح أنهم جهدوا جوعاً وعرياً حتى كانوا يأكلون ورق الشجر!
ولكن الخير عاد آجلاً على الدعوة وأهلها، فقد روى المؤرخون وأصحاب السِّيَر أن خبر المقاطعة سرى في أحياء العرب فأثار استغراب القبائل وسخطها على قريش التي صنعت بأبنائها ما لا تعهده العرب ولا تقرّه، فكانت المقاطعة سبباً في انتشار التعاطف مع المسلمين والتعريف بدعوتهم وإخراجها من ضيق مكة إلى سعة الجزيرة العربية، ولفتت هذه المحنةُ انتباهَ الناس في أنحاء الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة العظيمة التي احتمل أصحابُها في سبيلها ما لا يكاد يُحتمَل من الجوع والعناء.
ألسنا نشهد اليوم مثل هذا المشهد العالمي بسبب الحصار الجائر والعدوان الغاشم والتواطؤ الظالم على أرض العزة والشرف والصمود؟ ألا ما أشبهَ الأمسَ الماضي البعيد باليوم الحاضر المجيد!
لعل قرار المحكمة الدولية التاريخي هو غاية ما يطمح إليه المستضعفون من إنصاف محاكم الأرض، أما الإنصاف الحقيقي والمحاكمة العادلة فإنها مؤجَّلة إلى يوم الدين، يوم الحساب، يوم يقف المظلوم مع ظالمه أمام جبار السماوات والأرض فيقول: يا ربّ هذا ظلمني فاقتصَّ لي منه! فيقتص الله لكل مظلوم من ظالميه.
تلك هي محكمة العدل العليا التي ينتظرها المستضعفون في الأرض، وإنها لآتية لا ريب فيها، ولكن أكثر الناس يستعجلون.
المصدر: الجزيرة/ مدونات