أسعدأبو خليل
ترجمة علاء الدين أبوزينة
لا يمكن إنهاء “حماس” بالقوة. وهناك تقارير تفيد بأن شعبيتها آخذة في الازدياد في الضفة الغربية، حيث حظرتها السلطة الفلسطينية. وقد سُمعت هتافات مؤيدة لـ”حماس” طوال الأسابيع الماضية في الضفة الغربية وفي الدول العربية.
* * *
شكلت حركة “حماس” الفلسطينية عاملا مهما في السياسة العربية منذ تأسيسها في العام 1987. وقد أثارت الجدل منذ بدايتها الأولى، حيث اعترض الكثيرون على إشاراتها إلى “بروتوكولات حكماء صهيون” البغيضة (التزوير سيئ السمعة المناهض للسامية) في وثيقتها التأسيسية، وأظهرت مشاعر معادية لليهود -وحتى مشاعر مناهضة للمسيحية في البداية.
لكن المجتمع الفلسطيني –على النقيض من نظيره في لبنان– معروف بنفوره من الطائفية، على الرغم من انتشار الفكر السلفي الطائفي القادم من الخليج. ولذلك، كان على “حماس” أن تغير خطابها، وأوضحت وثيقتها السياسية الأخيرة (تماما مثلما فعل “حزب الله” اللبناني) أنها تعارض الصهيونية وليس اليهودية. (ما يزال بعض قادة “حماس” وأنصارها يتحدثون بعبارات معادية لليهود). وشعرت “حماس” بالضغط من المجتمع الفلسطيني بحيث اتجهت إلى تغيير طرائقها لتظهر أنه يُنظر إلى المسيحيين الفلسطينيين على أنهم جزء أصيل من المجتمع الفلسطيني الأكبر.
ولم تكن مسيرة صعود “حماس” ثابتة. وقد مرت الحركة بانتقالات وتحولات مختلفة؛ كما تغيرت أيضا علاقاتها الخارجية، فكانت أقرب إلى إيران من قطر في بعض الأحيان، والعكس في أحيان أخرى.
في فترة الانتفاضة الثانية، كانت الحركة خلف العديد من التفجيرات التي لم تكن موجهة ضد أهداف عسكرية إسرائيلية. ولن يكون القول بأن هذا الموقف هو الذي ألب الرأي العام الغربي غير ذي صلة، لأن الحكومات ووسائل الإعلام الغربية وبعض أجزاء المجتمعات هناك كانت معادية (بل وحتى معادية عنصريا) تجاه الفلسطينيين والعرب بشكل عام، بغض النظر عن الإجراءات التي يتخذها الفلسطينيون ضد الاحتلال الإسرائيلي الوحشي.
كان هناك أيضا نقاش نشأ عن ذلك، والذي دار باللغة العربية بعيدا عن الأعين الغربية الفضولية. وناقش الناس (الفلسطينيون والعرب على حد سواء) فائدة وأخلاقية ممارسة العنف الذي بلا هدف بعيدا عن الأهداف العسكرية الصارمة (وكان الذي أشعل جذوة ذلك النقاش هو قيام “حماس” بتفجير مطعم للبيتزا في العام 2001).
ولم يكن هناك إجماع بين العرب حول ما إذا كان ينبغي معاملة الإسرائيليين الراشدين كأهداف عسكرية مشروعة بسبب خدمتهم الاحتياطية في الجيش الإسرائيلي. وفي ذلك الوقت، ناقش الناس بصراحة مثل هذه الأمور في الصحافة. وقد اختلف البعض ودعوا إلى أن يقوم الفلسطينيون بتغيير أشكال الكفاح المسلح من أجل عدم انتهاك المعايير الإسلامية/ العربية التقليدية للحرب.
وكانت بعض الدول العربية المهمة منخرطةً مُسبقًا في الدعاية التي تهدف إلى إثارة إعجاب “اللجنة اليهودية الأميركية للشؤون العامة” (أيباك). ونشرت صحافتها مقالات وصفت ما أسمته عنف “حماس”، وعنف الجماعات الفلسطينية الأخرى، بأنه إرهاب صريح. وقد أساء هذا بطبيعة الحال إلى العديد من العرب الذين ينظرون إلى إسرائيل على أنها رائدة ومتخصصة في ممارسة الإرهاب في المنطقة، على مدى القرنين العشرين والحادي والعشرين.
فوز “حماس” في الانتخابات
نظرت حركة “فتح” إلى “حماس” على أنها تشكل تهديدا لهيمنتها السياسية. (أصبحت “فتح”، بعد “أوسلو”، ذراعا للاحتلال على الرغم من أن ياسر عرفات حاول في الفترة الأخيرة من حياته اللعب على كلا الجانبين، وتنشيط الجناح المسلح لحركة “فتح” بعد أن أصيب بخيبة أمل متزايدة من “عملية السلام”).
وسرعان ما أصبح واضحا أن “حماس” أصبحت ثاني أكثر المنظمات السياسية الفلسطينية نفوذا بعد فتح (فقط في عهد عرفات)، بينما شهدت الجماعات اليسارية الفلسطينية زوالها. وكانت “فتح” متأكدة من أنها ستحقق الفوز في الانتخابات التي أجريت في العام 2006، والتي وافق عليها الإسرائيليون. لكن “فتح” كانت قد أصبحت أضعف بعد أن عاد عرفات ببطء إلى طريق الكفاح المسلح –وقتلته إسرائيل بدعم من الولايات المتحدة بسبب ذلك.
سُمح بإجراء انتخابات العام 2006 وكسبتها “حماس”. وقد فازت “حماس” بوضوح في تصويت ضد “فتح” الفاسدة والمفتقرة إلى الفعالية والنجاح. وأصبح الشعب الفلسطيني ينظر إلى “فتح”، عن حق، على أنها خائنة للمبادئ وأداة قاسية لا ترحم للاحتلال.
انقسم الطيف السياسي الفلسطيني بين مسار “فتح” ومسار “حماس”. وفي هذه القسمة، مثلت فتح التنسيق مع الاحتلال الإسرائيلي، والتخلي عن الكفاح المسلح، والثقة في الولايات المتحدة، والأمل في أن تسمح إسرائيل للفلسطينيين، من باب الرحمة، بإقامة دولة.
وعلى الناحية الأخرى، وقفت “حماس” في جانب معارضة السلام مع إسرائيل، والإيمان الراسخ بفعالية الكفاح المسلح، والتصميم على أن أيديولوجية إسلامية فقط هي التي يمكن أن تحشد الناس معا بشكل فعال.
حساب يجب تسويته
اعتقدت “حماس” بأن العودة إلى التعاليم الإسلامية ستكون ضرورية من أجل تحقيق الانتصار على إسرائيل. ومثلت لها تجربة منظمة التحرير الفلسطينية (خاصة بعد الفرار من بيروت في العام 1982) مثال الفشل والهزيمة. وكانت “حماس” في ذلك الحين شبيهة بما كانت عليه “فتح” في أعقاب العام 1967، عندما طرحت نفسها كبديل ثوري للأنظمة العربية الفاشلة.
لم تستطع الولايات المتحدة وإسرائيل قبول انتصار “حماس” في الانتخابات، وكشف الصحفي ديفيد روز في مقال له في العام 2008 أن كلا من الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا تعملان من أجل تدبير انقلاب للإطاحة بـ”حماس” في غزة، وهو ما كان يتناقض كثيرا مع خطاب بوش المعلن وكل حديثه عن الديمقراطية وأهمية صناديق الاقتراع.
على النقيض من حركة “فتح” التي عانت منذ نشأتها من التسلل والخروقات الأمنية، أسست “حماس” جهازا استخباراتيا فعالا، واستطاعت استباق الانقلاب الذي كان يرتبه لها أعداؤها، بما في ذلك “فتح” نفسها.
وكانت لدى “حماس” أيضا حسابات يجب تسويتها مع “فتح”، بعد أن عانى أعضاؤها من التعذيب في زنازين “السلطة الفلسطينية” بعد أوسلو. ولم تكن لدى الحكومات الغربية أي اعتراضات على التعذيب الذي ترتكبه إسرائيل والسلطة الفلسطينية طالما كان الضحايا من الإسلاميين والذين يؤمنون بالكفاح المسلح.
قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر) مباشرة، كانت “حماس” تعاني من أزمة هوية. وقد أصبحت –مثل السلطة الفلسطينية إلى حد ما– مرتبطة بصورة الحكومة القمعية في غزة. ولم تكن الأمور سيئة كما كانت في ظل جماعة السلطة الفلسطينية في رام الله، لكن “حماس” كانت تلجأ بشكل متزايد إلى القمع ضد التعبير عن المعارضة والاستياء.
ولم تكن المصاعب الاقتصادية التي عانى منها الفلسطينيون في غزة ناجمة عن حكم “حماس” (بعد حصار إسرائيلي دام لما يقرب من عقدين)، ولكن لم يكن لدى الناس سوى عنوان واحد للاحتجاج عليه. ولم يكن هناك أي من نوع الفساد المستشري في “فتح”، لكن الشعب الفلسطيني في غزة سئم من تعامل “حماس” مع مشكلة الحصار.
سئم سكان غزة تأثير الحصار على حياتهم. ولم تكن غزة سجنا افتراضيًا. كانت في الواقع سجنا حقيقيا في الهواء الطلق، حيث يسيطر الاحتلال الإسرائيلي على الجو والبحر ونقاط الدخول. وكانت إسرائيل ووسائل الإعلام التابعة تدعي بلا كلل أن إسرائيل قد “انسحبت” من غزة في العام 2005. لكن احتلال غزة لم ينته أبدا في واقع الأمر.
كان ما فعلته إسرائيل هو مجرد إعادة نشر قوات الاحتلال إلى خارج غزة، مع فرض حصار محكم على القطاع. وكانت الحكومة المصرية قد أصبحت شريكا كاملا في الحصار (في زمن حسني مبارك، سمحت الحكومة المصرية بالتهريب من أجل تخفيف وطأة الظروف الاقتصادية القاسية في غزة).
ومن جهتها، عادة ما كانت الولايات المتحدة تذعن لإسرائيل وتسمح لها بأن تفعل ما يحلو لها في القطاع. وكلما قررت إسرائيل شن حملة عسكرية وحشية ضد الناس في غزة، قدمت الولايات المتحدة (من اليمين واليسار والوسط على حد سواء) الدعم الكامل لإسرائيل.
لا يمكن هزيمة “حماس” بالقوة
في العام 2018، حاول سكان غزة إطلاق احتجاج سلمي ضد الحصار. وكان رد إسرائيل سريعا: أطلقت النار على المتظاهرين من دون أي اعتبار لأرواح المدنيين. وسمح تساهل الولايات المتحدة لإسرائيل بمعاملة سكان غزة الفقراء بقسوة وروح انتقام.
لا يُعرف الكثير عن كيفيات التخطيط لعملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر). وقد أكد كل من “حزب الله” اللبناني وإيران على أنه لم يكن لديهما علم مسبق بالعملية. وهناك من يعتقدون بأن “حماس” لم تتصرف بمفردها؛ وبأنه عندما فُتحت الحدود، سارعت “حركة الجهاد الإسلامي” -وحتى المجموعات الفلسطينية الأصغر- إلى الهروب من سجن غزة وسعت إلى الوصول إلى الرهائن الإسرائيليين. واعترفت “حماس” في وقت لاحق بأنه ليس جميع الرهائن محتجزين لديها.
وسرعان ما ردت الولايات المتحدة وإسرائيل على العملية الفلسطينية بمساواة “حماس” بـ”داعش”، وأصر الرئيس جو بايدن على أن “حماس” لا تمثل الشعب الفلسطيني. وخرج “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”(الذراع البحثي المقنع للوبي الإسرائيلي) باستطلاع للرأي في محاولة لإثبات أن “حماس” لا تحظى بالشعبية، وأعلنت وسائل الإعلام الغربية نهاية “حماس”.
لكن “حماس” لا يمكن إنهاؤها بالقوة. وهناك تقارير تفيد بأن شعبيتها آخذة في الازدياد في الضفة الغربية، حيث قامت بحظرها السلطة الفلسطينية. وقد سُمعت هتافات مؤيدة لـ”حماس” طوال الأسابيع الماضية في الضفة الغربية وفي الدول العربية.
لا تسير الأمور دائما وفقا للخطة عندما تضع القوى الاستعمارية استراتيجية تعتمد على كثافة القوة النارية. وقد تم تداول ملصقات صور أبو عبيدة (المتحدث العسكري باسم “حماس”) ونشرها في جميع أنحاء وسائل التواصل الاجتماعي العربية -حتى في شوارع لبنان، الدولة العربية الوحيدة التي تتمتع بحرية غير محدودة (تقريبا).
كما رافق إطلاق سراح السجناء الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية إعراب عن التأييد لـ”حماس”. وحتى مع المستوى الهائل من الدمار والموت اللذين أحدثهما الهجوم الإسرائيلي في غزة، لم يكن هناك تذمر يعتد به ضد “حماس” من الشعب الفلسطيني. ولكي تنهي إسرائيل “حماس”، يجب عليها قتل أو طرد جميع الفلسطينيين من الضفة الغربية وغزة، وجميع سكان مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان وسورية.
ويبدو أن إدارة بايدن لن تعترض على مثل هذه الخطة القاتلة.
*أسعد أبو خليل As’ad AbuKhalil: أستاذ لبناني أميركي للعلوم السياسية في جامعة ولاية كاليفورنيا، ستانيسلاوس. وهو مؤلف كتب “المعجم التاريخي للبنان” Historical Dictionary of Lebanon (1998)؛ و”بن لادن، الإسلام وحرب أميركا الجديدة على الإرهاب Bin Laden, Islam and America’s New War on Terrorism؛ (2002). أدار مدونة ”العربي الغاضب” The Angry Arab الشهيرة.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Hamas Before and After Oct. 7
المصدر: الغد الأردنية/(كونسورتيوم نيوز)