نبيل عبد الفتاح
دراسة العقل السياسى الحاكم، والمعارض فى دول اليسر والعسر والعربى، غالبا ما تميل إلى دراسة حالات تاريخية، من خلال تكوين هذا العقل، ومصادره التاريخية، وإنتاجه الفكرى، أو من خلال مواقفه ازاء القضايا الكبرى التى طرحت من خلال ثنائيات التقدم، والتخلف، وأسبابهما، أو من منظور الموروث الدينى والوضعى، وثنائية الاصالة والمعاصرة، أو الحداثة والتقليد، على نحو ما ظهر فى بعض الكتابات الرائدة، للأمام محمد عبده، طه حسين، وسلامة موسى، فى مؤلف عبدالله العروى البارز ألأيديولوجيته العربية المعاصرة، ثم كتابات محمد عابد الجابرى، وجورج طرابيشى، وآخرين. لا شك أن هذه المقارابات هامة، وأساسية، إلا أن بعضها يدور فى إطار المتون النظرية، وبعضها سجالى النزعة، وبعضها الآخر، حول مدار الثنائيات المتضادة، وبعض من التعميمات وكأننا إزاء عقل واحد، بالنظر إلى أن درس العقل العربى من خلال تحليل نظرات، ومقاربات بعض كبار المفكرين، أو سردياتهم، التي لا تعكس فى الغالب العقل السلطوى الحاكم، لبلدان العالم العربى- علي تعددها وخصوصياتها التاريخية وتكوينها الاجتماعي الإنقسامي باستثناء الحالتين المصرية والمغربية- إلي حد ما ، خاصة فى مراحل التخلف التاريخى، أو فى مطالع “النهضة” العربية المغدورة، وتراجعها فى أعقاب الاستقلال عن الكولونيالية الغربية، أو أثناء بناء الدولة الوطنية، وأسباب الفشل فى استكمالها، وإعاقة شروط بناءها على أسس الحداثة السياسية، والقانونية، والاجتماعية.
يبدو أن بعض هذه المقاربات، على أهميتها تناست درس العقل السياسى، وعمليات تفكيره، وتحليله للمشكلات، وإنتاج مقاربات لحلها، وفشله فى عديد القضايا، لا تزال هذه الدراسات بالغة الندرة لاسيما انها لاتزال بعيدًة عن الدرس الاكاديمى، بل المقاربة السياسة. مرجع ذلك القيود السياسية والأمنية على البحث السياسى فى الغالب الأعم في دول اليسر، والعسر معا، ومن ثم فرض ذلك، حالة من رهابُ الخوف لدى الجماعات البحثية العربية، من مقاربة العقل السياسى السلطوى فى حركته، وتعامله على المشكلات السياسية الداخلية، وفى صناعة قرارات السياسة الخارجية، وطرائق تعامله مع المشكلات الاقتصادية، والاجتماعية، لأن مقاربة هذه السياسات من منظورات موضوعية، ونقدية، يؤدى إلى دفع أثمان من حرية الباحث، وقد تؤدى إلى مصادرة هذا البحث، أو اعتقال الباحث، أو مجموعة البحث التى قامت به. فى ظل ظاهرة موت السياسة، لم تدرس أسبابها داخل كل بلد عربى إلا قليلا، وأيضا لم يدرس العقل السياسى، أو العقل اللاسياسى البيروقراطى، والتكنوقراطى، أو العقل المالى –الذى يقارب مشكلات الاقتصادية، من منظور المالية العامة- ولا العقل الدينى السياسى النقلى، وكيفية مقارباته لعلاقة الدين لمشكلات العصر وقضاياه داخل كل بلد عربى.
من هنا تبدو الحاجة الملحة إلى درس العقل السياسى فى حركته من خلال المشكلات، والسياسات، والقرارات السياسية، وخاصة فى وقت الأزمات الحادة الخارجية، والإقليمية، والداخلية، لأن ذلك يفتح الطريق إلى تحليل العقل السياسى العملى، مع اطلالة على جوانبه التكوينية.
تكوين العقل السياسى الحاكم منذ ما بعد المرحلة الكولونيالية، ينطوى على بعض من الاستمرارية، والتغير، ومن حالة دولة عربية لأخرى. العقل السياسى، في غالبُ المجتمعات الانقسامية، كان خطابه السياسى يميل إلى التركيز على الحد الأدنى من الوحدة الوطنية لمكوناته الأساسية بينما الواقع الموضوعى، كان يميل إل هيمنة المكون الأغلبي –دينيا ومذهبيا،وعرقيا ولغويا، وقبائليا وعشائريا… إلخ- من حيث سياسات التنمية الاجتماعية، وتوزيعاتها المناطقية، وفى قيادة الحزب الحاكم، وفى تركيبة السلطة السياسية وحكوماتها المتعاقبة، وأجهزة الدولة البيروقراطية وقياداتها، ووالتركيز علي معيار، ومبدأ الموالاة والزبانية السياسية. ثمة بعض الرشادة السياسية لقادة ما بعد الاستقلال، بالنظر إلى أدوارهم فى الحركات الوطنية ضد الاستعمار.
ثمة ظاهرة ولع العقل السياسي البراجماتي، بالنموذج الغربى، كجزء من المركزية الغربية، والتعليم، على الرغم من عدم القبول بتطبيقاته فى النظام السياسى، والاجتماعى. القبول الشكلي بالهندسة الدستورية، والقانونية الأوروبية – اللاتينية، والأنجلو ساكسونية- كأحد مظاهر الدولة، لكن تم ولايزال تجاوزها فى التطبيق، واعتمادها كمحض أدوات بين يدي الحاكم الفرد عند قمة النظام ومواقع القوة حوله.
التركيز المسيطر لفظيا وخطابيا من العقل العملي على الحرية واستقلال الدولة، وبناءها، وحرية الجموع الشعبية، والتحالفات الاجتماعية على حرية واستقلالية الفرد، وعلى مصالح الشعب دون المصالح الفردية، على نحو أدى إلى نفي الفرد الحر فى الواقع الاجتماعى. التركيز الخطابي والشعاري على مفهوم الاجماع الوطنى من خلال التصور السلطوى، بديلا عن التعددية السياسية، وتأميم الصراع الطبقى لصالح “الطبقة” المسيطرة سياسيا، اجتماعيا علي التعدد السياسي.
اعتبار بعضهم أن المعارضات السياسية “خيانة وطنية”، وليست خلاف وصراع حول المصالح السياسية في إطار المصلحة الوطنية.
الميل تاريخيا فى الصراعات الإقليمية إلى الخطاب الايديولوجى الزاعق، أو الخطاب الدينى –فى الدول العربية النفطية المحافظة- فى شرعنة صراعاتها السياسية حول الحدود، والمكانة، والدفاع عن تحالفاتها الدولية، وخاصة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية فى المنطقة، ودول النفط، وصراعاتها مع الاتحاد السوفيتى السابق. بينما ذهب العقل السياسي في دول حركة التحرر الوطنى تاريخيا –مصر وسوريا والعراق- كجزء من حركة عدم الانحياز، نحو التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفيتى السابق أساسا، والصين، والكتلة الماركسية، والهند، اندونيسيا.
كان خطاب العقل السياسي العملي في عالمنا العربي في عقدي الخمسينيات والستينيات ايديولوجى يركز على التحرر الوطنى، والاستقلال، ورأسمالية الدولة الوطنية، وتحالف “الطبقات الاجتماعية”، وخطاب يميني ومحافظ مضاد يركز على الدين، والقيم الاجتماعية التقليدية، والعائلة والقبلية، والعشيرة، والمذهب، فى مواجهة نظم راديكالية عربية مضادة، وعلى علاقات هذه الدول المحافظة تاريخيا بالولايات المتحدة، والدول الأوروبية الكولونيالية كبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا.
عقل حاكم ومسيطر يميل إلى تضخيم المخاوف الخارجية، وتعظيم الخوف الجماهيري من المخاطر والتهديدات من أجل السيطرة على مكونات المجتمع، بالقوة الأمنية، واعتقال المعارضين، أو إشاعة الخوف من الحديث النقدى عن مثالب الحكم واخطاءه، أو سياساته الاقتصادية والاجتماعية! وأن نتيجة ذلك هو المعتقل علي نحو ماحدث مابعد الأستقلال وإلي الآن في المنطقة العربية!
العقل السياسى المسيطر، اقصائي واستبعادي للمخالفين فى الرؤية، والرآى، ومن ثم ليس عقلًا حواريا، قادرا على الانغماس فى عمليات حوارية، او المعارضين، أو المخالفين داخل دوائر الموالين فى الحكم، أو فى الحزب السياسى المسيطر. العقل المسيطر فى الدول ذات المجتمعات الانقسامية، يعتمد على قوة جهاز الدولة الأمنى، ومن ثم أدى إلى سطوة بعض الأقليات وهيمنتها على بقية المكونات المجتمعية الأخرى، على نحو ما ظهر تاريخيا فى العراق، وسوريا، والبحرين، والسودان، وهو ما أدى إلى انفجارات فى بعض هذه البلدان، فى أعقاب الربيع العربى المجازى، وأدى إلى حروب أهلية –سوريا مثالا-، أو إلى بروز مليشيات عسكرية، على نحو ما ظهر فى العراق بعد سقوط نظام حزب البعث، واحتلال العراق، وما بعد.
– العقل السياسى العملي ما بعد الاستقلال، عقل سياسى إتهامى مولع بالمؤامرات الداخلية، والخارجية، وفى ذات الوقت يتسم بأنه عقل يوظف الانقسامات الداخلية، وإنتاج الخلافات على أساس دينى وإيديولوجى، ومن أبرزها توظيف الدين فى النزاعات إزاء بعض معارضيه من أشباه العلمانيين واليساريين. هذا العقل يبدو بارزا في تاريخ حركة التحرر الوطنى الفلسطيني ولايزال، بين حركة فتح، وغيرها من الحركات اليسارية، وهو ما ظهر مؤخرا بين المقاومة الحمساوية والجهادية، وبين منظمة التحرير الفلسطينية، ونزوعها إلى الحلول بديلا عنهما فى قطاع غزة فى سيناريوهات ما بعد اليوم التالى للحرب.
فى إطار الصراع العربي – الاسرائيلى، وما بعد اتفاقيات “أبراهام”، ينظر العقل السياسى العملي لإسرائيل من منظور القوة العسكرية، والدعم الغربى لها، دونما نظر إلي ديناميات النظام السياسى الديموقراطي التمثيلي، ومراكز البحث العلمى –فى العلوم الطبيعية والإنسانية-، والحيوية السياسية، وحرية المبادرة، والتطورات التقنية، التى أدت إلى أنتاج القوة العسكرية، والقدرة على التعامل مع الطبقات السياسية الحاكمة فى أمريكا، والدول الأوروبية. بعض هذا العقل السياسى العربى، يحاول توظيف القوة الإسرائيلية فى مواجهة إيران كقوة وظيفية، دونما نظر لأثر دمجها فى الإقليم العربى، والشرق أوسطى.
بعض العقل الدينى السياسى لا يزال ينظر إلى إسرائيل من منظورات ماضوية للسرديات الوضعية حول الديانة اليهودية، أو من خلال السردية التوراتية الوضعية تجاة الإسلام، والمسلمين، دونما نظرات علمية وسياسية للواقع الموضوعى.
لا شك أن العقل السياسى لآباء الاستقلال وبعض الرشد السياسى المكتسب لديهم امدهم بقدرات علي حل بعد النزاعات الداخلية بين مكونات المجتمع بقدر نسبي من السلاسة ، والأمر يختلف عن العقل السياسى العملي المسيطر عربيًا منذ نهاية الحرب الباردة، الذي وقع تحت تأثير، وهيمنة السياسات الخارجية الأمريكية ومصالحها في الإقليم العربي والشرق اوسطي في ظل النظام الدولى احادي القطبية ، ومعها تم فرض السياسات النيوليبرالية على نحو أدى تراكمات ساهمت ضمن أسباب أخري إلى أنفجار الربيع العربى، كنتاج للركود والجمود السياسي والبيروقراطي للعقل العملي المنصاع لسياساتها في مصر وتونس ، وهو ماأدي إلي وصول العقل اللاسياسي العملي للمعارضات السياسية الأخوانية والسلفية إلي سدة السلطة بدعم أمريكي وافتقارهم لثقافة الدولة الحديثة وادارتها ،وساعد علي ذلك أفتقار العقل السياسي المؤدلج للمعارضات الليبرالية واليسارية والقومية لخبرات الدولة والسياسة معًا،ومن ثم فشل الجميع في إدارة المراحل الانتقالية، كنتاج للبراجماتية الساذجة، وغياب التكوين والخبرات السياسية، وخاصة أجهزة الدولة العميقة التي استطاعت إعادة إنتاج أدوارها الوظيفية ، ومصالحها مجددًا ،ومن ثم تفاقمت المشكلات فى بعض دول العسرىتراجعت أدوار بعض هذه الدول إقليميا لصالح دول اليسر الريعي النفطي في المنطقة .
المصدر: الأهرام