أسامة أبو ارشيد
لا توجد دولة تتمتّع بـ “الاستثناء”، عندما يتعلّق الأمر بالواجبات والالتزامات، واحترام القيم والمعايير والقوانين الإنسانية والدولية، مثل إسرائيل. حتّى الولايات المتّحدة، القوّة العظمى عالمياً، والتي تتعامل تلقائياً أنّها هي الأخرى “استثناء”، وفوق أيّ قيم ومعاهدات واتفاقات وقوانين دولية لا تتماشى ومصالحها، لا تصل استثنائيّتها إلى نظيرتها الإسرائيلية ولا تضاهيها. أولاً، لأنّ “الاستثنائية” الأميركية، هنا، مصدرُها قوّتها الذاتية الفارطة والطاغية عالمياً، وهو ليس الحال إسرائيلياً. وثانياً، لأنّ “الاستثنائية” الإسرائيلية تفرض نفسها حتّى على الولايات المتّحدة، وفيها، مع أنّ مصدر تلك “الاستثنائية” هو الدعم الأميركي بالدرجة الأولى والأساس. وهكذا، تنتهك إسرائيل كلّ قيمة ومعيار وقانون، وكلّ معاهدة واتفاقية وإعلان وقرار دولي، منطلقةً من قناعة راسخة أنّها مُسْتَحِقَةٌ لذلك، أمّا مَنْ يتجرأ على تحدّي منطق الاستحقاق هذا، فإنّه يجد نفسه عرضة للاستهداف والتشويه، والاتهامات الخرقاء والفجَّة. هذا هو ديدن إسرائيل منذ قيامها قبل 76 عاماً مشروعاً كولونيالياً استيطانياً إلغائياً إحلالياً في فلسطين التاريخية. بل هذا هو ديدن الحركة الصهيونية، حتّى قبل إنشاء دولتها، إذ كانت منذ البداية متمردّة على كلّ الأعراف والقوانين، بل متمردّة، كذلك، حتّى على الدولة التي رعت مشروعها وأنجزته (بريطانيا). واليوم، تجد أميركا، ضامن إسرائيل وحاميها، نفسَها تتجرّع من كأس العلقم الإسرائيلي ذاته، الذي تجرّعته بريطانيا من قبل.
من ثمَّ، لا عجب ولا غرابة في ما فعله السفير الإسرائيلي في الأمم المتّحدة، جلعاد إردان، يوم الجمعة الماضي، عندما وقف خلف منصّة الجمعية العامة في الأمم المتّحدة موبّخاً أعضاءها (193 دولة)، بسبب تصويت غالبيتهم لصالح توصية تنصّ على أنّ للفلسطينيين الحقّ في عضوية كاملة في الأمم المتّحدة (143 دولة أيّدت، وتسع دول عارضت، و25 أخرى امتنعت عن التصويت). خاطب إردان الدول الأعضاء بوقاحة منقطعة النظير: “هذا أمر مثير للاشمئزاز… (تصوّتون على) إعطاء حقوق دولة لكيان يسيطر عليه، جزئياً، إرهابيون… مع هذه السابقة الجديدة يمكن أن نرى ممثّلين لداعش أو بوكو حرام يجلسون بيننا هنا”. ولم يكتفِ إردان بذلك، إذ تابع هجومه بالقول “أنتم تمزّقون ميثاق الأمم المتّحدة، عار عليكم”، وقام، خلال ذلك، بتمزيق الميثاق الأممي عبر آلة صغيرة لتقطيع الورق كان يحملها في يده. اللافت، أنّ إردان هذا لم يكن بحاجة إلى تلك التمثيلية السمجة، إذ كانت ربيبة دولته، الولايات المتّحدة، قد أحبطت قبل ثلاثة أسابيع من ذلك، عبر استخدام الفيتو في مجلس الأمن، المسعى الفلسطيني للاعتراف بهم دولةً. ومعروف أنّ قرارات الجمعية العامة تُعدّ توصيات غير ملزمة، على عكس قرارات مجلس الأمن.
عودة إلى موضوعة “الاستثنائية”، التي تراها إسرائيل حقّاً أصيلاً لها لا ينبغي أن يرقى إليه شكٌّ، ولا أن يطاوله نقاشٌ. الأمم المتّحدة، التي وبّخها إردان، هي نفسها التي قدّمت السند القانوني السقيم لقيام إسرائيل دولةً، عبر قرار التقسيم الظالم 181 (نوفمبر/ تشرين الثاني 1947)، ثمَّ عبر الاعتراف بدولة إسرائيل في مايو/أيار 1948. القرارات الأممية ذاتها، التي وَلَّدَتْ إسرائيل قيصرياً، وأعطتها صفة الدولة وتعاملت معها على هذا الأساس، نصّت على “دولة عربية” في فلسطين التاريخية، وعلى حقّ اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من أرضهم في العودة والتعويض (قرار 194)، ورفضت الاعتراف بشرعية احتلالها لبقية فلسطين التاريخية، في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، وقطاع غزّة، في يونيو/ حزيران 1967 (قرار 242)، وقضت بعدم قانونية المستوطنات اليهودية فيها، وكثيراً ما دانت جرائمها في حقّ الفلسطينيين، ومع ذلك، لم تنجح الأمم المتّحدة يوماً في الاتفاق على معاقبة إسرائيل جراء انتهاكاتها المُتكرّرة والمُستمرّة لميثاقها وقراراتها. بمعنى، إنّ إسرائيل، ومنذ نشأتها، تُمزّق ميثاق الأمم المتّحدة يومياً، من دون رادع ولا حسيب، واستثنائيتها غير الأخلاقية، دولةً بلطجيةً ومارقةً، مصونة لا يُخشى عليها.
منطق الاستحقاق، هذا، الذي نُحِتَ في البصمة الجينية لإسرائيل، منذ اليوم الأول لقيامها، هو ما يُغذّي عربدتها، التي لا تتوقّف، وتعاملها العنجهي مع العالم بأسره، من حلفاءٍ ومحايدين وخصوم. اللافت هنا، أنّ إسرائيل تعدّ كلّ نقدّ لجرائمها الماثلة للعيان، كحرب الإبادة الوحشية التي تشنّها في قطاع غزّة على مدى أكثر من سبعة أشهر، ضاربة عرض الحائط بكلّ المواثيق والعهود والقوانين الدولية، إنّما يندرج في سياق “معاداة السامية”. وهكذا، فإنّ الأمم المتّحدة “معادية للسامية”. وكذلك، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتّحدة، ولجنة الأمم المتّحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا)، ومنظّمة العفو الدولية، و”هيومان رايتس ووتش” الأميركية… إلخ، كلّهم “معادون للسامية”، لأنّهم تجرّأوا على تكييف إسرائيل بأقلّ مما هي عليه فعلياً؛ “نظام أبارتهايد”. حتّى فتح تحقيقات في محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية للتأكّد ما إذا كانت أفعال إسرائيل تندرج في إطار “الإبادة الجماعية” و”الجرائم ضدّ الإنسانية” و”جرائم الحرب” أم لا، عدّتها إسرائيل “معاداة للسامية”، رغم أنّ العالم كلّه يراقب كيف تحظى تل أبيب بمعاملة تفضيلية، إذ تأخذ القضايا ضدّها أشهراً وسنواتٍ، وفي الغالب من دون إصدار قرارات في حقّها، في حين يدان آخرون، بمن فيهم دول كبرى وزعماؤها، كما في حالتي روسيا وفلاديمير بوتين، خلال أيام وأسابيع قليلة.
المفارقة الأبرز نجدها في تمرّد إسرائيل على الولايات المتّحدة نفسها، وتنكّبها لها، بل ودوسها على مصالحها القومية الاستراتيجية، وعلى المصالح الانتخابية لمن يقبع في البيت الأبيض، ويقدّم لها دعماً مطلقاً، كما جو بايدن. لم يترك بايدن، هذا، وسيلة في دعم إسرائيل وحكومة بنيامين نتنياهو، منذ السابع من أكتوبر (2023)، إلا وأنفذها. برّر وشرعن جرائم الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزّة. قدّم لها، وما زال، دعماً عسكرياً غير محدود، بما قد تتجاوز قيمته عشرين مليار دولار. أرسل حاملتيْ طائرات مع مجموعتيهما المقاتلتيْن، وغواصةَ نووية إلى المنطقة لـ”ردع” أيّ قوّة إقليمية عن التدخّل لدعم الفلسطينيين. أمر قوات بلاده التصدي للهجوم الإيراني الانتقامي ضدّ إسرائيل الشهر الماضي (إبريل/ نيسان). ومنع غير مرّة إدانتها في مجلس الأمن عبر استخدام الفيتو أو التلويح به… إلخ. بفعله ذلك، غامر بايدن بكثير من شرائح قاعدته الانتخابية الديمقراطية، التي يعارض أغلبها العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة. ولأنّ إسرائيل عاجزة عن حسم الحرب مع المقاومة إلى الآن، وارتفاع الكلفة البشرية الباهظة فلسطينياً، واقتراب الانتخابات الرئاسية الأميركية، وانقسام المعسكر الديمقراطي في هذا السياق، بدأ بايدن يتوسل نتنياهو وحكومته بأن يعيدا النظر في مقاربتهما للعدوان، مع تقديم رشاوى أميركية لإسرائيل، تتضمّن تطبيعاً عربياً أوسع، وتعهداً بتقويض قدرات حركة حماس سياسياً وعسكرياً، إلا أنّ نتنياهو قلب له، ولا يزال، ظهر المجنّ. بل إنّ بايدن تلقّى توبيخاً من نتنياهو عندما قرّر (بايدن) أنّ يعلق شحنة واحدة من القنابل الثقيلة لإسرائيل، في الوقت ذاته الذي تستمر فيه شحنات الأسلحة الأميركية بكلّ أنواعها بالتدفّق إليها.
كشف تقرير لصحيفة هفغنتون بوست الأميركية، قبل أيام، النقابَ عن رسالة بعثها السفير الإسرائيلي في واشنطن، مايكل هرتزورغ (في الثامن مخن مايو الحالي)، إلى 88 عضواً ديمقراطياً في مجلس النواب الأميركي، كانوا قد وقّعوا رسالة إلى بايدن (في الثالث من مايو الحالي)، يطالبونه، شرطاً للمساعدات العسكرية لإسرائيل، باحترام القوانين الأميركية، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية. وبّخ هرتزورغ، وهو سفير دولة أجنبية، النواب الأميركيين، ملمّحاً إلى أنّهم يساعدون “حماس”، رغم أنّ أغلبهم كانوا صوتوا، قبل ذلك بأيام قليلة، لصالح حزمة مساعدات عسكرية ضخمة لإسرائيل تتجاوز قيمتها 17 مليار دولار. وقد وصف أحد العاملين في مكتب أحد النواب، الذين تلقوا الرسالة، بأنها “وثيقة مذهلة حقاً”. وأضاف، “إنّ لهجة هذه الرسالة لا تعكس حقيقة أنّ الولايات المتّحدة هي الضامن الرئيسي لأمن إسرائيل. والقارئ غير الواعي قد يفترض أنّ إسرائيل هي القوة العظمى في هذه العلاقة، والولايات المتّحدة هي المتلقّية للمساعدات”. تلك هي “الاستثنائية” الإسرائيلية المتوحّشة، التي يغذّيها تواطؤ الولايات المتّحدة وآخرين، وصمت المجتمع الدولي وعجزه عن كبح جماح هذا السُعار الموصوف بـ”الاستثنائية”.
المصدر: العربي الجديد