د- عبد الله تركماني
مازال العرب ينتقلون من إخفاق إلى إخفاق، إذ نعيش اللحظة التي تلتقي فيها النهاية مع البداية، والتي تمتد جذورها في عمق التاريخ الحديث، تاريخ الأزمة الواقعية التي تعيشها المدنية العربية ذاتها، بما هو تاريخ استبعاد الأمة من ساحة المبادرة والفعل والمشاركة العالمية. والأزمة العربية الشاملة المفتوحة هي من تلك الأزمات التي تتقلص فيها الاختيارات إلى اثنين لا ثالث لهما: إما الغرق في الأزمة والدخول في مسلسل من التدهور والفوضى والانحلال والضياع. وإما تجاوزها إلى وضعية جديدة تماماً، انطلاقاً من التفكيك الواعي للوضعية القائمة المأزومة والشروع في عملية بناء جديدة، بمنطلقات واستشرافات جديدة كذلك.
إنّ التجربة الواقعية للمشروع العربي قد أثبتت، خاصة بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967، أنّ هناك أزمة فعلية في بنية هذا المشروع. إذ إنّ الهزيمة لم تكن لتحدث، أو على الأقل في المدى الذي بلغته آثارها الآن، لو لم يكن للمشروع ثغراته وعيوبه ونقاط ضعفه. وقد وصّف عبد الله العروي هذا الفشل خير توصيف، حيث قال ” قد يئست من أن أرى المؤلفين العرب يكفّون يوماً عن الثرثرة ويعدلون عن غرورهم المفرط. كنت قد مللت التشدق بخاصيات العرب، وسئمت الكلام عن الاشتراكية العربية والفلسفة العربية والإنسان العربي ورسالة العرب الخالدة، كما لو كنا نبدع كل يوم فكرة جديدة ونظاماً جديداً، مع أنّ الأمر لا يتعدى ضم كل عربي إلى ما هو معروف ومبتذل عند جميع سكان الدنيا … فعم الغرور وصدعت الدنيا بثرثرة أنصاف المثقفين، ولجأ إلى الصمت كل من بقي له نزرٌ من استقامة الفكر والتطلع إلى إنتاج جدي ومجدٍ “.
وبالرغم من هزيمة المشروع، يبدو أنه من الضروري التمييز بين مفهوم العروبة ومفهوم الحركة العربية، فالعروبة تيار فكري متجذر في المنطقة العربية، يتمحور حول قضايا النهضة والتحديث والتنمية. أما الحركة العربية فهي تيار سياسي، حاول تجسيد هذه الفكرة من خلال برنامج سياسي، للانتقال بالواقع العربي من حالة التجزئة إلى حالة الاتحاد، ولكنه فشل فشلاً ذريعاً.
أهم أخطاء التيارات القومية
إنّ الأيديولوجيا القومية العربية، بتفاوت بين تياراتها، لم تدرك بعمق مفاعيل الهيمنة الإمبريالية وقوانين عملها في العالم العربي، ليس كونها عاملاً خارجياً فحسب، بل – أساساً – دورها في إعادة صياغة البنى الداخلية العربية لتكريس التجزئة. فبالرغم من إدراك هذه التيارات لضرورة التحديث والتنمية لكنها استنكفت عن الأخذ بالمضمون المعرفي والبنيوي للتحديث، حيث وقعت في ” التلفيق ” حين استخدمت مفهوم التحديث ولكنها قطعته عن أصوله المعرفية في آن واحد. فالوسطية الانتقائية بقيت خياراً، في النظر والعمل، لدى هذه الحركات.
كما أنّ مفكري هذه الحركات طغت عليهم النزعة الثقافوية، فأهملوا التنظير للدولة الوطنية، فقد كان اهتمامهم منصبّاً على التجزئة القومية وضرورة الوحدة العربية أكثر من اهتمامهم بقضية الدولة، التي حلموا بتحقيقها، فبقيت قضية التنظير للدولة قضية تابعة للقضية ” الأصل ” وهي الأمة. والأصل في هذا التقصير أنهم انطلقوا من أنّ الدولة العربية القطرية الحديثة ” معوّق ” للدولة العربية الواحدة، لأنها ” تكرّس ” الأمة داخل الحدود القطرية، بمعنى رفضوا مبدأ الدولة/الأمة، وأكدوا دائما على مبدأ الأمة/الدولة.
وأساس الخطأ هو أنّ التيار القومي، خاصة عندما وصل إلى السلطة، لم يعطِ المسألة الديمقراطية اهتماماً يُذكر، بل أنه كان ينظر إليها كعائق أمام التنمية، وأمام دور الحزب ” الواحد ” أو ” القائد “. فالتعددية الفكرية والسياسية، وتنوّع المجتمع العربي قومياً وطائفياً، كانا يعنيان ” الانقسام ” و ” التجزئة “، فلم يرَ فيهما مصدر إغناء للتجربة القومية.
وفي الواقع لم يتعرف المفكرون القوميون العرب على الدولة كجهاز متكامل، بل كعناصر مبتورة عن جهاز متكامل للدولة، ومنعزلة عن نظرية متكاملة للدولة. فمصادر القوة لم يروها في الدولة، التي تتطلب إرساء القواعد المادية والتنظيمية والفكرية لبنائها، وإنما بدت لهم ثقافية الطابع. وحينما تعرضت كتاباتهم لدعائم الدولة السياسية فقد ربطتها بفكرة مثالية عن الوحدة القومية، أكثر مما ربطتها بالقوانين والمؤسسات والمجتمعات والاقتصاديات.
لقد اهتم العرب بـ ” مظاهر السلطة ” أكثر مما أهتموا ببناء مرتكزات الدولة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية، فالبلدان العربية استوعبت المظاهر الهيكلية لجهاز الدولة، باعتباره جهاز سلطة، ولكنّ مفهوم الدولة نفسه ظل شبه غائب. ويبدو أنّ مكمن الإشكال راجع إلى أنّ الدعوة العربية، بالرغم من الزخم الذي واكبها في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي خاصة، لم تبدع آليات تحققها وإنجازها في معترك التاريخ.
علينا أن نعترف – اليوم – وبكل المسؤولية: أنّ معظم خطابنا السائد هو خطاب العجز وتبريره بمبررات لا تمت إلا إلى منطق العجز وسيكولوجيته والاكتفاء بمجرد بيانات تدين وتشجب وتحتج … ثم التوقف عند حدِّ تقرير المسلمات والبديهيات إبراء للذمة بعد كل كارثة ومصيبة، انتظاراً لكوارث ومصائب أخرى من أولئك الأعداء الظالمين، فإلى أين سيؤدي مثل هذا الخطاب الذي يعيد إنتاج ذاته بلا تفاعل مع الواقع؟
إنّ دوران الساقية الخطابي، في ترداد البديهيات: عدوانية الغرب وتحيّزه ضد الإسلام والعروبة، واستبداد الأنظمة الحاكمة وعجزها، من دون الانتقال من هذه المسلمات إلى معالجات معرفية، تحليلية ونقدية، لواقع كل مجتمع عربي والخروج ببرنامج عمل وطني لإصلاح فساده وإعادة بنائه، نقول لن يؤدي مثل هذا الدوران الخطابي العبثي إلا إلى المزيد من تضخم هذه الظاهرة الصوتية، عدا التنفيس الكلامي عن إحباط أصحابها وتغطية عجزهم ليس فقط عن المواجهة الفعلية، وإنما عن تلمس الوعي النقدي اللازم والإحاطة المعرفية والموضوعية بالوقائع المحيطة التي يمكن أن تؤدي للخروج قليلاً من دائرة الأوهام والوعي المغلوط.
التغيّرات العالمية وإمكانية نهوض جديدة
إنّ التغيّرات العالمية الجديدة، خاصة تداعياتها ثورات الربيع العربي والغزو الروسي لأوكرانيا وحرب غزة وما أفرزته من حراكات لشباب العديد من جامعات العالم، تطرح إمكانية نهوض جديد، ستواجهنا بتساؤلات جديدة، وتحديات جديدة أيضاً، مما سيتطلب قدراً كبيراً من العمق في المراجعة ونقد الذات وإعادة الصياغة الفكرية والسياسية لقضايا المسألة العربية، منطلقين من أنّ مسألة إنجاز الدولة الحديثة هي جوهر تلك القضايا.
وتبدو أهمية إعادة طرح القضايا العربية الراهنة، من وجهة نظر تحاول أن تكون جديدة، حين نعرف أننا إزاء أطروحات متجددة لقضايا التقدم والتأخر. ففي الوقت الذي ينزع فيه العالم، أكثر من أي وقت سبق، إلى أن يتعولم وإلى أن يخترق حدود الدول وسياداتها، وفي الوقت الذي تتعاظم فيه التبعية المتبادلة ما بين أمم العالم سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإعلامياً، وفي الوقت الذي تتسارع فيه حركة الرساميل والبضائع وتتضاعف السيولات المالية العابرة للقومية، وتتحكم الشركات المتعددة الجنسيات في الاقتصاد العالمي إنتاجاً واستهلاكاً. وبكلمة واحدة في الوقت الذي يتحول فيه العالم إلى ” قرية كبيرة “، في هذا الوقت يُرَدُّ الاعتبار والحيوية إلى النزعات القومية والإثنية التي يبدو أنّ قلق العولمة قد أيقظها في كل مكان من العالم.
كما أنّ العالم يتجه نحو قيام تكتلات بشرية كبرى، سواء على مستوى قومي أو قاري، تشكل مجالاً حيوياً في الاقتصاد، وعنصراً رئيسياً في الأمن، وضمانة فعلية للاستقلال السياسي، وشرطاً ضرورياً للتحرر من الهيمنة الخارجية. وقد أصبح واضحاً أنه في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين لا مكان للشعوب والدول الصغيرة التي لا تنضوي في كتل بشرية ضخمة تزيد في عددها عن مائة مليون نسمة على الأقل، وتزيد في مواردها عن حجم معين يمكّنها من الاستقرار والتقدم.
وسوف تكون مشكلات التلاؤم مع الظرف الكوني مطروحة على مخططي السياسات العربية، سواء كان التخطيط رسمياً أو بصورة غير رسمية عند قادة الرأي العام. فمن أهم هذه المشكلات عل الضروري لنهضتنا: أولاً، وجوب الإصلاح الديني في منطقتنا، خاصة بعد أن ساد خطاب ” الإسلام الموازي ” الذي يعيدنا إلى عصور التأخر. وثانياً، حاجة العرب إلى تحقيق الحجم الاقتصادي والسياسي المناسب للتعاطي المجدي مع تحديات العولمة. وثالثاً، العوامل المؤثرة في علاقة العرب بإسرائيل، ذلك أنّ سر قوة إسرائيل، التي قد تكون العائق الأساس أمام تحقيق شروط علاج إشكالياتنا نابع من جمعها خيوط السلطان المادي والرمزي لكون سياساتها تنتهز ما توفره سياسات الغرب من فرص، ما يجعل حصر التصدي لها بالطرق التقليدية أمر غير مجدٍ.
ويبقى السؤال عن مكانة العرب في ظل العولمة سؤال عن مكانتهم عموماً في التاريخ، وبكلمة واحدة فإنه دون أن ينجز العرب الدولة – الأمة فلن يكون لهم مكان لا في العولمة ولا بعدها كما لم يكن لهم مكان من قبل العولمة. إنّ فكرة الدولة – الأمة بدأت تظهر جديتها وأهميتها في ظل العولمة أكثر من ذي قبل بسبب التناقض الكبير بين السلطات السياسية والمجتمعات العربية، فالمجتمعات العربية تنتمي زمنياً وبصورة ما إلى عصر العولمة فيما النظام السياسي في أغلب الدول العربية ينتمي إلى مرحلة ما قبل الرأسمالية، ولما كانت السلطة السياسية وخطابها ومفرداتها وعلاقتها بالعالم فإنّ هذه السلطة أصبحت عقبة أمام الطبيعة التوحيدية للعولمة، فالذي يرى العالم ” قرية كونية ” مثلاً صار أولى به أن يرى العرب ” قرية واحدة ” وبالتالي المسألة هنا سياسية وليست حضارية أو أخلاقية أو اجتماعية.
نحو إعادة هيكلة الفكر العربي وطرح قضاياه
بعد أن انهار عالم كامل من الوقائع والأحلاف والمسبقات والمفاهيم والمبادئ والأوهام، لا بدَّ من مراجعة فكرية جذرية للخطط والسياسات والمُثُل والعقائد والأفكار التي بلورت الإخفاق العربي وقادت إليه. إنّ القطيعة المطلوبة مع الفكر والإشكاليات والأطروحات القديمة تفترض الإمساك بالجوهر والإحالة إليه، والامتناع عن الدخول في التفاصيل. إضافة إلى أنّ إعادة هيكلة هذا الفكر تقتضي تعيين المحاور والمستويات التي تستدعي إبراز المشاكل والأزمات التي كانت الحركة العربية تخفيها أو تمر عليها مرور الكرام. وإذا كان وضوح الرؤية شرطاً ضرورياً لنجاح أي عمل، فإنّ الرؤية الواضحة ” لا تنبثق إلا عبر قطيعة مع الرؤى القديمة ومحاولة تصفية الحساب معها نهائياً “. باعتبار أنّ الحق قبل الاعتقاد، والعلم والمعرفة قبل الأيديولوجيا، والواقع الموضوعي قبل الميل الذاتي والتفكير الرغبوي. إضافة إلى أنّ الفكر السائد في العالم العربي – بشكل عام – يكاد يغلب عليه الطابع الأيديولوجي الخالص، ويتسم بالهشاشة النظرية التي لا تتيح الامتلاك المعرفي لحقائق الواقع وضروراته واحتياجاته وحركته المستقبلية، ولهذا فهو أقرب إلى تكريس الواقع القائم وإعادة إنتاجه.
ويتجلى ذلك في كون أغلب الفكر العربي يعيش ثنائية دائمة لا يرى نفسه إلا من خلالها: ثنائية الحديث والقديم، السلفي والمتجدد، الأصولي والمعاصر، الديني والعلماني.. الخ وهكذا ” لم يقم الفكر النظري العربي في العقود الماضية، وبقدر تبنيه لهذه الثنائية كواقع ثابت وطبيعي، إلا بإعادة إنتاجها وتجديدها “. وكان من نتيجة ذلك ” أنّ الفكر العربي المعاصر لم ينجز – بعد – النقلة الكيفية الضرورية للدخول في العصر والاشتراك في إنتاج علوم اجتماعية عالمية الآفاق وعلى مستوى التحدي التاريخي، الأمر الذي يترتب عليه خطر جسيم ومخيف هو خطر ” تهميش ” العرب في إنتاج المستقبل الإنساني “.
إنّ الإشكاليات السابقة تفرض علينا أن نعيد طرح قضايا المسألة العربية، وخاصة الوحدة والتجزئة، على نحو جديد، منطلقين من أنّ مسألة إنجاز الدولة – الأمة الحديثة هي جوهر تلك القضايا. ومن هنا تبدو أهمية تجديد الخطاب النهضوي العربي على قاعدة: أنّ الدولة الوطنية الديمقراطية تشكل أساس دولة الأمة الحديثة. لذلك نعتقد أنّ الحاجة تزداد إلى بحوث ودراسات عديدة، تتناول إشكاليات المسألة من الوجهتين التاريخية والنظرية، وقد يساهم ذلك في منح الوعي والعمل السياسيين رؤى مستقبلية مفيدة. وتبدو أهمية ذلك، إذا عرفنا أنّ استعمال المفاهيم والمصطلحات قد أحيط بالغموض والالتباس، فاستُعملت المفاهيم في غير محلها، وساد الاضطراب بعضها الآخر. ولم يكن هذا الخلط للمفاهيم بريئاً تماماً، بل ارتبط – في أغلب الأحيان – بتغطية موقف سياسي لدى استعمالها.
وإننا إذ نمارس النقد العلمي للوعي العربي التقليدي نطمح إلى تصفية كل ما هو متأخر فيه لربطه بالكونية والتقدم والديمقراطية، لأنّ هذا المضمون يشكل النقطة المركزية للمسألة العربية. فالخطاب العربي يجب أن يرتفع إلى مستوى التحديات التي تجابهه، إذ إنّ الوحدة العربية ليست مجرد تجميع لأجزاء العالم العربي، من خلال أزلية الروح الخالد، بل هي محصلة لسيرورة تاريخية، ثقافية وحضارية واقتصادية واجتماعية وسياسية، بما يحقق الشرط التاريخي لقيام الدولة الواحدة.